على مائدة رمضان العامرة تجمَّع لفيف من أهل العلم فى شتى تخصصاته فى بيت واحد من كرماء مفكري العالم الإسلامى يقطن بمدينة القاهرة الجديدة. وبعد تناول طعام الإفطار توجه الجمع حول مائدة أكثر ثراء وبركة فهى حقًا مائدة الرحمن حيث دار الحديث حول الإعجاز القرآني، ورؤية كل واحد من الحضور من منطلق ما تخصص فيه.
فكان ثمة من تخصص فى العمارة الإسلامية، ومن تبحر فى علوم الاجتماع، ومن تخصص فى علوم الأرض (الجيولوجيا)، ومن له اليد الطولى فى الفلسفة الإسلامية، ومن كان تخصصه فى العلوم البحتة، وكان هناك أيضا من يعمل بالطب، ومن تخصص بالعلوم الشرعية إلى جانب من يعملون بالصحافة الإسلامية. وكل واحدٍ من هؤلاء له إسهامه فى مجال الكلمة المكتوبة سواء فى مجال تخصصه أو فى ما يجيده من مجالات الثقافة الإسلامية بشكل عام.
من الأمور التى يتوقف عندها المرء مندهشًا أن عامل الزمن يعمل فى كثير من الأحيان على تلاشى وانتهاء أهمية الأشياء وذلك بطول العهد بها واعتيادها فيقلل هذا من أهميتها، أما بالنسبة للقرآن الكريم فالأمر مختلف تمامًا؛ فكلما مرَّ عليه الزمن ظهرت أوجه من إعجازه تتمشى مع ما توصل إليه العلم من مكتشفات ومنجزات، ولهذا فهو معجزة متجددة على الزمان؛ هذا ففضلاً عن كونه فى موقع الذروة من البلاغة والبيان مما حيَّر أمراء البلاغة واللغة والبيان فى أزهى عصورها منذ أن أنزله الحق تبارك وتعالى على رسوله الأمين وإلى اليوم.
أما ما اشتمل عليه من أخبار القرون الماضية والحضارات الدارسة والأمم السالفة التى لم يُسجل لها تاريخ أو يتواتر لها أخبار ثم تأتى الكشوف والبحوث الأثرية فى العصر الحديث بتأكيد صحة ما ذهب إليه فهذا وجه من وجوه الإعجاز قد شهد به العدو قبل الصديق.
وقد تطرق الحديث إلى ما يعرف الآن بالإعجاز العلمى للقرآن الكريم، نظرًا لأن العلم الآن هو فى أوج تقدمه، وقد أصبح بمثابة لغة عالمية يدركها العالم كله، رغم تقدم البعض وتخلف البعض الآخر. فالإعجاز اللغوى والبياني ربما يعني أكثر ما يعني من يتكلمون العربية التى نزل القرآن بلغتها. فقد بُعِث سيدنا محمد-صلى الله عليه وسلم- فى قوم كانوا أرباب بلاغة، وأصحاب تفوق فى اللغة والشعر والنثر والخطابة، ولهم أسواقهم التى يتبارون فيها ويتسابقون فى عرض مساجلاتهم وما أفرزته قرائحُهم من نماذج راقية فى فنون النثر والشعر والأدب والبلاغة. ولهذا فحينما استمعوا إلى آيات من القرآن الكريم المؤلف من أحرف لغتهم ومن ألفاظها ووجدوه أسمى وأفضل بكثير مما تعارفوا عليه من أدبياتهم وتراثهم أدركوا أنه فوق طاقة البشر ليأتوا به، بل إنه معجزة الله خالق البشر، فآمنوا به سبحانه.
ولكن العرب الذين يتكلمون العربية الآن لم تعد لديهم سليقة العرب الذين عاصروا نزول القرآن الكريم. وفضلاً عن هذا، فإذا كان القرآن معجزة مستمرة عبر العصور إلى قيام الساعة فلابد أن إعجازه يتجاوز النظر فى عبارته فحسب. وفى ضوء هذا فالإعجاز العلمي تصبح له أهميته فى عصر العلم.
وعند هذا الحد التقط طرف الحديث المتخصص فى العلوم الشرعية فقال: أخشى ما أخشاه أن الاندفاع فى موجة الإعجاز العلمي سيوقعنا فى حرج بالغ حينما يحاول البعض ليّ أعناق الآيات لتتوافق مع معطيات العلم بينما يثبت بعد ذلك خطأ ما توصل إليه العلم أو ظهر ما هو أفضل وأصح منه، وبهذا ستحدث بلبلة لا يحمد عقباها!
وكان الرد المنطقى هو أنه لابد من توافر الضوابط حتى لا تحدث تلك البلبلة التى يشير إليها الزميل المتخصص فى العلوم الشرعية؛ ومن أهم الأمور التى ينبغى الإشارة إليها فى هذا الصدد أن ثمة أمرًا ينبغى توضيحه وهو الفرق بين النظرية العلمية والحقيقة العلمية فالنظرية العلمية هى مجرد فرض يمكن أن يثبت صحته أو يمكن دحضه أمام الاختبار التجريبي عاجلا أم آجلا. أما الحقيقة العلمية فهى أمر ثبتَ صحته، ومِنْ ثمَّ فيمكن التعويل عليه، والأهم أن الحقائق العلمية الكونية لا تتعارض أو تتصادم مع الحقائق القرآنية؛ ذلك أن خالق الكون هو نفسه منزل القرن الكريم فمصدرهما واحد، ولكن الله تعالى سمح لبعض عباده من العلماء للكشف عنها.
خاصة وأن الخطاب والتحدي موجه إليهم فى الآية القرآنية التى يقول فيها رب العزة: “سنريهم آياتنا فى الآفاق وفى أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق”(فصلت: 53) وقد نفهم من هذا أن الله سبحانه وتعالى سيكشف لعباده بعضًا من آياته ـ-التى سبق أن أشار إليها القرآن الكريم- ليتبين لهم أن هذا القرآن هو الحق؛ ذلك أن حقائق الكون التى وصلوا أو سيصلون إليها بعد مئات السنين أو حتى آلاف السنين بإعمال العقل ونشاط الذهن ومنهج العلم .. سيجدون القرآن الكريم قد سبقهم بالإشارة إليها فى كلمات موجزات، وعندها يتبين لهم أن القرآن هو الحق؛ لأن الذى قال والذى خلق هو الله! فتصبح هذه بمثابة الحجة عليهم إذا عاندوا ، ولم يذعنوا لشهادة الحق ؛ ومن ثم يصبح الإعجاز العلمى –بضوابطه- ضرورة دعوية فى عصر العلم.
وجهة نظر والرد عليها:
ثم عنَّ لواحدٍ من الأذكياء الحضور سؤال يدور فى مخيلة المعسكر الآخر فحواه: إذا كان القرآن يحتوى على حقائق يكشف عنها العلم الحديث بعد جهدٍ ولأىٍ .. فلماذا لم يستثمر علماء المسلمين هذه الحقائق ويبادرون بالكشف عنها فيسبقون غيرهم فى هذا المضمار؟
والواقع أنه سؤال مهم .. ينبغى أن نواجه به أنفسنا قبل أن يُوَجَّه إلينا من غيرنا! ولكن الإجابة عنه أيضا سهلة بَيْدَ أنها تحتاج إلى شىء من الصراحة والنقد الذاتى. فمن فضل القول أن نُذَكِّر هنا بأن القرآن ليس كتاب علم بالمعنى الحديث لكلمة العلم، والتى تعنى “التماس الحقائق فى عالم الحس من خلال التجربة والاستنتاج”؛ فهو ليس كتابًا مفصلاً فى الكيمياء أو الرياضيات أو الفيزياء أو غيره من العلوم؛ إلا أنه يحث على البحث فى هذه العلوم ويحض عليه، بل إن أول كلمة نزلت منه لهي -بحق- أهم أدوات العلم وهى كلمة “إقرأ” التى وردت فى صدر سورة العلق. كما أنه يحتوى على “المنهج العلمى” الذى استنبطه منه علماؤنا الأوائل، واستطاعوا به أن يسطروا أبجديات العلوم المختلفة، ويضعوا أسسها المكينة كعلوم الفلك والرياضيات والكيمياء والفيزياء والطب والفلاحة، وغيره من علوم. وقد كشف علماء المسلمين الملتزمون عن الكثير من حقائق العلوم وأسسها يوم أن ساروا بإخلاص وتجرد على هذا المنهج القويم ، ونقل عنهم الغربيون أسس هذه العلوم لتكون أساسًا لما انطلقوا منه وأسسوا عليه دعائم العلم الحديث وحضارته التى يتيهون بها الآن.
إذن فكل ما ينبغى على المسلم أن يؤمن به ويؤكد عليه أن كتابه الإلهى لا ينهاه عن النظر والتأمل فى مباحث الوجود وأسرار الطبيعة وخفايا المجهول، بل يأمره بالتأمل والتفكير والبحث فيها، ويحض على هذا بشتى الطرق ، وهذه هى المفاتيح الحقيقية للعلوم فى شتى تخصصاته ، إن استعملها سبق غيره فى الكشف عنها!