التربية ودورها في مواجهة ظاهرة التطرف

تعاني أقطار الوطن العربي في الفترة الأخيرة من الكثير من حوادث ومظاهر العنف والتي شارك فيها الصغار وكانوا أبطالاً لها، فتارة نسمع عن معسكرات لتجنيد الأطفال والمراهقين تابعة لتنظيم داعش في سوريا والعراق وهي الظاهرة التي أطلق عليها “الأطفال الدواعش”، وشاهدنا العشرات من الأطفال وهم يحملون السلاح ويشاركون في القتال وساحات المعارك.

وتؤكد تقارير المنظمات الدولية وجود الآلاف من الضحايا الأطفال الذين يتم استخدامهم في النزاعات المسلحة في مناطق التوتر حول العالم، معظمهم ضحايا لعائلاتهم وكثير منهم تم اختطافه أو ضربه أو تغريره وحتى شراؤه لاستغلاله لاحقا في عمليات انتحارية لا ناقة له فيها ولا جمل، سوى أنه وقود لأزمات أكبر منهم يتقدمها الفاقة والفقر اللذين يدفعان أطفال الرصاص إلى خيار مربع العنف.

وهناك أكثر من 12 ألف مدرسة تابعة لتنظيمات القاعدة و«داعش» بمختلف فروعها في سوريا، وهو ما يعني أن هؤلاء الأطفال السوريين يعيشون حالة مسخ للهويّة وغسل للدماغ بأفكار عنيفة ستجعلنا أمام المئات والآلاف من أنصار التكفير والتفجير.

ولكن ما الذي أدى لانتشار ظواهر الإرهاب والتطرف والعنف بين أطفالنا؟ وتنامي مشاركة الأطفال في حوادث الإرهاب والعنف في أقطار الوطن العربي في السنوات الأخيرة؟ وكيف يمكن مواجهة تلك الظواهر؟

بداية، يجب التفرقة بين مصطلحات الإرهاب والتطرف، فالإرهاب هو إلحاق الضرر بالآخرين وبالمجتمع باستخدام العنف.. أما التطرف فهو اعتناق مبدأ أو عقيدة أو التحيز لشيء معين أيا كان نوعه دون قبول الرأي الآخر، وغالبا ما يعيش هؤلاء المتطرفين بعيدًا عن الناس آخذين رأيهم أنه الأهم وقد لا يستخدمون العنف.

إن الإرهاب والتطرف ما هو إلا هو نتاج عملية التنشئة الاجتماعية.. فالأسرة لم تقم بوظيفتها الأساسية وهي مراقبة لسلوك الطفل والتعرف على نواحي الضعف والقوة فيه

ومن الناحية النفسية فإن الإنسان ينشأ ويتربى ويتم برمجة عقله منذ طفولته من خلال التربية الأسرية والأقران والمدرسة وأماكن العبادة والإعلام، وهذه العناصر هي التي تشكل الإنسان فهناك رغبات داخلية خاصة بالفرد ورغبات خاصة بالمجتمع، وداخل الإنسان قوى تدفعه إلى الكراهية والعنف، وقوى أخرى تدفعه للحب والأمان، وفى مراحل نمو الصغير تنطبع شخصيته بمن حوله وبما يقوله الآخرون فقد يكون مثاله الأب أو المعلم أو الرفيق أو رجل الدين.. ثم تأتى مرحلة المراهقة ويبدأ في البحث عن هويته وهنا تتوارد على عقله أسئلة الوجود والحياة والموت والدين، فإذا كان الرسائل التي تصل إليه محفزة للحياة أصبح له مشروع يعيش من أجله، ومن هنا يحب الحياة وشركاء الحياة ويتعامل مع الآخرين فيعود الحب إلى نفسه ويستطيع أن يتغلب على ضغوط الحياة من خلال وضعه لأهداف يتجاوز بها حالته الراهنة.. وفى وقت ما تبدأ عوامل الكراهية للظهور وهذا يهدد أهدافه الإيجابية، وكل ما يحمله التاريخ الإنساني من عنف مرتبط بالصراعات الفكرية والدينية على اعتبار أن الحاضر قد يموت وتتوقف حركة الوجود بالنسبة له، وعند هذه المعادلة يبحث عن الخلاص فيجده أحيانا في نص ديني أو عقائدي وفى داخله الموت وهذا النص يعزف بحياة أخرى، ويبدأ الصراع داخل نفسه ويقرر الانتحار لكنه يخاف من أن يموت منتحرا فيتبنى أفكار الجهاد، ويخرجون من الدين الحميد إلى خاص بهم ويدعون أنهم يتبعون الدين، والدين منهم براء.. ومثل هؤلاء يحتاجون إلى الاكتشاف المبكر لمظاهر الجنوح أو الانحراف والتحدي والمعارضة الجريئة منذ دخولهم إلى المدرسة، ويعد لهم برامج تأهيلية خاصة لوقايتهم من مخاطر الكراهية التي يحملونها داخل أنفسهم وتحقق أمنهم النفسي وأمنهم الفكري.

ويرجع تزايد معدلات انتشار التطرف والعنف بين الأطفال والمراهقين والشباب العربي للعديد من الأسباب أبرزها استخدام أساليب التنشئة الاجتماعية الخاطئة، كأساليب التسلط والإكراه والقهر وفرض الرأي والقسوة وغيرها مما يسهم بدور كبير في خلق الشخصية المستعدة لممارسة العنف والتطرف، وللأسف فكثير من الأسر والمعلمين يمارسون القهر والتسلط على الطفل، ويفرضون عليه كل شيء في حياته، ومن هنا ينشأ الطفل سلبيا متواكلاً وفاقداً للثقة في نفسه، ومستعد لاتباع الآخرين أياً كانت آراؤهم وتوجهاتهم لأنه لا يستطيع التفكير بنفسه ولنفسه، أو ينشأ الطفل على العكس عنيد وناقم على المجتمع وراغب في الانتقام وتدمير وتخريب ذلك المجتمع.

أما المناهج والمقررات الدراسية في المدارس العربية فكثير منها قد يحمل أفكاراً تراثية بالية، لا تناسب العصر أو قد يحمل أفكارًا تشجع على العنف والتطرف والإرهاب وتبنى وجهة نظر أحادية وعدم تقبل الرأي الآخر، وخصوصاٌ في موضوعات جدلية أمثال: التعامل مع الاختلاف في الدين، وقضايا المساواة بين الرجل والمرأة، وعمل المرأة وغيرها من الموضوعات.

كما إن طرائق التدريس المستخدمة في أغلب المدارس هي طرق تلقينيه تركز على الجوانب المعرفية في أدنى مستوياتها وهي الحفظ والتذكر، مما يخلق شخصية سلبية تابعة لدى الطفل تعتمد الحلول الجاهزة وتجعل منه نواة للانسياق وراء أي أفكار هدامة، ولا تنمى لديه القدرة على النقد، والإبداع. واستخدام أساليب خاطئة في التعامل مع التلاميذ كالسخرية المعلم من التلميذ، أو القسوة معهم أو التقليل والتحقير من آرائهم وأفكارهم، كل ذلك ينمى مشاعر الغضب والسخط لدى كثير من الأطفال في مراحل عمرية مبكرة.

وتسهم الكثير من وسائل الإعلام والقنوات الفضائية والأفلام والمسلسلات في نشر ظواهر العنف والتطرف من خلال الرسائل والمضامين التي تحتويها المواد الإعلامية المختلفة والتي تسهم في تقبل الأطفال والكبار للعنف واللجوء له كوسيلة للحصول على الحقوق وفرض الرأي.

أما دور العبادة فهي في حاجة لإعادة نظر فيما تقوم به من مهام وأعمال، فمن حين لآخر نجد النقد موجهاً إليها، وتتعالى الصيحات والمطالبات بتجديد الخطاب الديني، فلغة كثير من خطباء اليوم إنها تحمل أفكاراً تراثية لا تتفق مع العصر، ومتغيرات المجتمع، كما إن كثيراً منهم يتبنون منهج العنف والتطرف وفرض الرأي كمنهج للتعامل في قضايا المجتمع والحياة. والأمر في حاجة إلى مراجعة وتجديد.

إن الإرهاب والتطرف ما هو إلا هو نتاج عملية التنشئة الاجتماعية.. فالأسرة لم تقم بوظيفتها الأساسية وهي مراقبة لسلوك الطفل والتعرف على نواحي الضعف والقوة فيه وعدم معرفة نوعية الأصدقاء والمتابعة في المدرسة ومعرفة علاقة الطفل التي تتيح لهم التعرف على مشاعره والتحدث معهم عن مشاكله، فحينما تنعدم هذه العلاقة يوجد هناك من يملأ مكانها وهم أصدقاء السوء. والعامل الثاني: الأصدقاء فحينما يقع بين أنياب أصدقاء غير جيدين أو أعضاء في جماعات إرهابية يكون أداة لينة في أيديهم لأن الصاحب ساحب إلى ارتكاب الأفعال الإجرامية التي عانينا منها الفترة الماضية، ومن الممكن أن نعانى منها مستقبلا، ثم يأتي العامل الثالث المدرسة فحينما غاب الدور التربوي من المدرسة ارتفعت معدلات الجريمة وظهر أطفال صغار إرهابيين، وحينما عجز المدرس عن فهم طلابه اجتماعيا وركز على الدور التعليمي فقط او إعطاء الدروس الخصوصية شعر الطلاب بأن العلاقة بينهم وبين المدرس علاقة مصالح، وليست علاقة أبوة ولم يتشبعوا بحب الوطن.. وهذه رسالة مهمة للأستاذ في المدرسة فإذا غاب الانتماء وغاب حب الوطن تشرب التلاميذ ثقافة الإرهاب وثقافة العدوان.

ولمواجهة انتشار ظواهر الإرهاب والتطرف والعنف لا بد من اتباع حزمة من الإجراءات والأساليب على النحو الآتي:

–  إعادة النظر في عملية التنشئة الاجتماعية وأن يكون كل من الأب والأم مدركين أن الخطر يحيط بأبنائهم في أي لحظة، فقد يكون سلوكه هادئا أو غير معروف عدوانية، وحين النظر إليه بعناية وتفهم مشاكله يمكن إنقاذه، ومن خلال التعرف على أصدقائه يمكن وقايته من الانحراف، ومن خلال متابعته في المدرسة يمكن مواجهة مشكلات هؤلاء التلاميذ، ولا تغفل الأسرة التشدد في المراقبة على استخدام أبنائهم للوسائل التكنولوجية الحديثة كالموبايل والكمبيوتر والانترنت والتي تساعد على التواصل مع الجماعات والتنظيمات الإرهابية.. فلا بد من توعية الآباء والمعلمين وكل المحيطين بالطفل بخطورة هذه الظواهر، وأهمية متابعة كل ما يتلقاه الأبناء من خلال وسائل الإعلام أو جماعات الرفاق أو مؤسسات المجتمع من أفكار، وأهمية اتباع أساليب الحوار والإقناع من الأبناء.

وتسهم الكثير من وسائل الإعلام والقنوات الفضائية والأفلام والمسلسلات في نشر ظواهر العنف والتطرف من خلال الرسائل والمضامين التي تحتويها المواد الإعلامية المختلفة.

– عقد الدورات والبرامج التدريبية لتدريب الآباء والأمهات على أساليب التنشئة الاجتماعية السليمة، كالحوار والنقاش واحترام إنسانية الطفل، والابتعاد عن أساليب التنشئة الخاطئة كالقسوة والقهر وفرض الرأي وتحقير الطفل أو التقليل من أهمية رأيه وغيرها.

– لا بد أن تركز المناهج في مدارسنا ومؤسساتنا التعليمية على تنمية مهارات التفكير الناقد لدى الطفل، وقدرته على التمييز بين الصواب والخطأ، وتنمية المعايير والقيم الأخلاقية التي تجعله قادراً على التعامل بنفسه مع مستجدات وقضايا مجتمعه بصورة مستقلة.

– يمكن أيضا للجهات المسئولة من الدولة أن تحكم الرقابة الأمنية على المدارس الابتدائية والإعدادية والمدارس الثانية وكذلك المتابعة من خلال الإخصائيين الاجتماعيين.

– يجب على القائمين على دور العبادة من مساجد وكنائس أن يقيموا الندوات التثقيفية بشكل منتظم في التسامح الديني..

– يجب الحرص على نشر وتعميم العدالة في المجتمع فحينما يشعر الطفل إن هناك عدالة في الأسرة والمجتمع سيدافع عن المجتمع.

– مراجعة وتطوير المناهج وتنقيحها من الأفكار والموضوعات التي تحض على التطرف وكراهية الآخر المختلف في الجنس أو اللون أو العقيدة، التركيز على نشر قيم التسامح وتقبل الآخر، وقيم السلام والمواطنة.

– مراجعة وتطوير برامج إعداد المعلم في كليات ومؤسسات إعداد المعلم على مستوى الوطن العربي، وتدريب الطلاب المعلمين على أساليب الحوار والمناقشة والانفتاح على الرأي والرأي الآخر، والابتعاد عن تبني وجهات النظر الأحادية، واحترام آدمية وكرامة المتعلم، ووجهة نظره، أياً كان سنه أو عرقه أو طبقته الاجتماعية، وتطبيق العدالة بين جميع الطلاب وعدم التمييز بينهم.

– مراجعة المواد الإعلامية التي يتلقاها الطفل، وتنقيحها من الأفكار الهدامة والسلبية التي تحرض على العنف والتطرف، أو ترفع من شأن الإرهابيين والمتطرفين وتجعل منهم أبطالاً أو شهداء للرأي.

– مشاركة دور العبادة في عقد الندوات والمؤتمرات لمكافحة ظواهر الإرهاب والتطرف، ومواجهة الفكر المتطرف من خلال نشر الفكر الوسطي المستنير والمعتدل.

وأخيراً إن الإرهاب والتطرف في بلادنا العربية هو صناعة مجتمعية كما يشير لذلك العديد من الباحثين، فاتباعنا لأساليب التنشئة الخاطئة، وتوفير البيئة الداعمة لنشر أفكار التطرف والإرهاب والعنف، وانفصال التعليم والتربية العربية عن الواقع العربي والتعامل مع مستجداته، كل ذلك يمثل التربة لنشأة تلك الظواهر، ومن ثم فإن الحاجة ملحة إلى تكاتف وتلاحم جميع المؤسسات المجتمعية والمجتمع ككل وتنسيق الجهود في مواجهة تلك الظاهرة.