لقد شرع الإسلام العبادات لنتفاعل معها تدبرًا وتأملاً؛ كي تنقلنا من الغفلة إلى اليقظة، فاليقظة التعبدية تحول العادات إلى عبادات، فحين يمارس الإنسان حاجاته الضرورية وشهواته بيقظة -تتمثل في نية حاضرة وفكر واع وقلب مرتبط دائما بربه- فإنه سيحصل على أجر وفير دون جهد كبير، كما أنه حين تتمكن الغفلة من الإنسان فإن أمره سيكون فرطًا ولو كثرت عباداته، فإن أي عبادة دون يقظة إيمانية وسلوكية وأخلاقية لا تثمر إلا التعب والسهر، فصلاة البدن دون حضور القلب والفكر لا فائدة منها، فليس للمرء من صلاته إلا ما عقل منها، وكذلك رب صائم لا حظ له من صيامه إلا الجوع والعطش، ورب قائم لا نصيب له إلا السهر والتعب، ورب إنسان يقضي حياته كلها متنقلاً في ميادين العبادة ثم يفاجأ عند الحساب﴿وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا﴾(الفرقان:23)، وهذا يوجب على الإنسان أن يكون يقظًا في عبادته، وفي حياته وفي تأملاته، وفي أفكاره ومشاعره، ويبحث عن الوسائل التي تنمي اليقظة في حياته، ومن أهم الأشياء التي تنشط اليقظة التعبدية في حياتنا.
– معرفة المقصد الوجودي ومآله:
عندما تغيب الرؤية المقصدية الوجودية يصبح الإنسان أثيرًا لشهواته ورغباته؛ لذا أكد الإسلام على هذه الرؤية المقصدية الوجودية ووضحها في فاتحة كتابه التي تتردد يومًا في حياتنا، وهذا يظهر في قوله تعالى: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾(الفاتحة:5)، إلى غير ذلك من الآيات، واستذكار هذا الهدف الوجودي يجعل الإنسان يقظًا في عبادته فيجعل حياته كلها لله: ﴿قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾(الأنعام:162)، كما أن الغفلة عن هذا الهدف الوجودي لا تمكن الإنسان من الإجابة السليمة السديدة في قبره عندما يُسأل عن ربه، ودينه، ورسوله.
العبادات القلبية أساس كل الأعمال؛ لأنها تنتج معرفة حقيقية برب العالمين، فتحدث الخشية والإنابة، والحب، والتوكل، والرضا
وإذا كان معرفة الهدف الوجودي ضروريا فإن معرفة مآل هذا الوجود لا يقل أهمية، فالكل هالك إلا وجهه سبحانه، والكل راحل ولكن ماذا يحمل معه!؟ فمنا من جاء بالحسنة، ومنا من جاء بالسيئة ولا يظلم أحد عند الله، فلابد من يقظة تعبدية مستمرة ففي أي وقت قد يأتي النداء.
– اليقظة القلبية:
وذلك باستحضار النية عند كل عمل يعمله الإنسان، فنية صالحة خير من عمل دون نية، ولقد سار العباد إلى الله بقلوبهم ونياتهم فتحركت جوارحهم بطواعية وحب، حتى جلودهم تلين إلى ذكر الله كما ورد في القرآن الكريم:﴿ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللهِ﴾(الزمر:23).
– الجمع بين عبادة القلب وعمل الجوارح:
فالعبادات القلبية أساس كل الأعمال؛ لأنها تنتج معرفة حقيقية برب العالمين، فتحدث الخشية والإنابة، والحب، والتوكل، والرضا، وغير ذلك من العبادات القلبية التي تربط القلب بالرب، وإن العبادة القلبية التي لا يظهر أثرها على الجوارح هي رهبانية مرفوضة في الإسلام؛ لذا لا بد من الجمع بين عبادة القلب وعمل الجوارح، وهذا ظاهر وواضح في الحديث الذي تحدث عن شعب الإيمان، حيث بدأ بالشعبة الأم: لا إله إلا الله وختم بالعمل: إماطة الأذى عن الطريق، فجمع بين عبادة القلب، وعبادة الجوارح.
– ملازمة التقوى:
إن ملازمة تقوى القلب طهارة وخوفًا وإجلالاً، والجوارح امتثالاً وامتناعًا، بفعل المأمور، وترك المحظور والعمل بالتنزيل، وتقوى الفكر فالتدبر والاستعداد ليوم الرحيل، تجعلك دائمًا يقظًا في رحلتك إلى الله والدار الآخرة، فمصاحبة التقوى في كل الأعمال هي الهدف الرئيس من كل العبادات ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾(البقرة:21)
التفكر عبادة توقظ العقل والقلب وتدفع الإنسان إلى الجد والعمل
– السياحة القلبية في روضة آيات الله:
ما أجمل أن يعيش الإنسان بين النظم القرآني ليرى بسوداء قلبه كلمات الله تتحدى الجميع أن يأتوا بسورة من مثله، فيرفع الجميع الراية، ولا يزال التحدي مستمرًا، وكذلك العجز ولوكان بعضنا لبعض ظهيرا، وتارة يعيش في روضة القرآن ليرى الإعجاز التشريعي الذي قبل أن يكلف يهيأ وييسر، فلا تكليف دون أهلية ويسر، وتارة يعيش في روضات آيات الآفاق والأنفس ،ليرى صنع الله الذي اتقن كل شيء، وتارة يعيش مع الأمور الغيبية-بالتسليم المطلق، والإيمان الجازم- التي أخبر عنها القرآن الكريم ليراها حقيقة مشاهدة الآن؛ ليقر قلبه وفكره ووجدانه بعالم الغيب والشهادة.
– التفكر:
عبادة توقظ العقل والقلب وتدفع الإنسان إلى الجد والعمل، قال وهب بن منبه: “ما طالت فكرة أمرئ إلا فهم، وما فهم إلا علم، وما علم إلا عمل، فاليقظة الذهنية عن طريق التأمل والتفكر في كتاب الله المسطور (القرآن الكريم)، وكتاب الله المفتوح (الآفاق والأنفس)، والمشاركة الفعالة في أداء المهمات المكلف بها تسهم بشكل كبير في تعزيز الصحة النفسية وتحسينها لتعيش حاضرك بصورة مثالية وواقعية؛ لذا قال أبو الدرداء: “تفكر ساعة خير من قيام ليلة”.
– الدعاء:
فالدعاء يمثل الارتباط القلبي والوجداني بالله، حيث نستشعر ضعفنا تجاه القوة الإلهية التي تقول للشيء كن فيكون، فتظل قلوبنا دائما متعلقة ب:﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ﴾(البقرة:186)، وساعتها يتحول الضعف الإنساني إلى قوة بهذا القرب، قوة في قلبه، وفكره، وجوارحه، وحياته كلها، فالدعاء حبل ممدود بين قلب العبد المؤمن والسماء، وكلما زاد الدعاء زاد المدد والعطاء.
– الذكر:
تلك العبادة التي يشترك في أدائها الكون كله السماوات السبع والأرضون السبع وكل شيء، فالكون على مدار اليوم يذكر الله ولا يفتر عن ذكره، فهو في حالة يقظة دائمة، ثم بعد ذلك يعلن الملأ الأعلى في السماوات من الملائكة- الذين لا يفترون عن ذكر الله- أنهم ما عبدوا الله حق عبادته: “سبحانك ما عبدناك حق عبادتك”. هذا حال الكون بسمائه وأرضه، فما حال الإنسان تجاه اليقظة التعبدية قولا وعملا؟!
إننا بحاجة إلى يقظة قلبية وفكرية تنطلق من يقظة إيمانية يتبعها عمل صالح؛ لنرفع الغفلة من حياتنا، فعبادات أهل الغفلة عادات وعادات أهل اليقظة عبادات.