بغض النظر عن الحدود التي تظل قائمة بين الرواية والتاريخ، فإن هناك الكثير من العناصر التي تشدهما معًا إلى أصل تعبيري واحد يجد حده الأمثل في السرد. ولا يحتاج المرء إلى أن يذهب بعيدًا للتدليل على علاقة التداخل بين الرواية والتاريخ، حيث كتب التاريخ وخاصة في تراثنا العربي والإسلامي، تحفل بمفردات هي جزء من طبيعة الرواية، مثل روى، حكى، أخبرني، ذكر، قال.
ومثلما يستدعي التاريخ الرواية في كثير من الأحيان، نجد أن الرواية هي التي استدعت التاريخ لإيجاد مقروئية لأحداثها. ويتجلى ذلك فيما يصطلح عليه بـ”فراغات التاريخ”، أي حينما لا تتوفر المصادر التاريخية اللازمة أثناء البحث.
ولا مناص للرواية إذا اختارت الفضاء التاريخي المرجعي مجالاً لها من أن تقول التاريخ، ولكنها تقوله على طريقتها، أي لا تكرره وإنما تحينه؛ فالرواية تستند إلى المادة التاريخية وتدفع بها إلى قول ما لا يستطيع التاريخ قوله. ويترتب على هذا أن الرواية من خلال حواريتها لا يمكن أن تكون إعادة كتابة للتاريخ، وإنما هي أتون ينصهر فيه العنصر التاريخي مع عناصر أخرى تسهم جميعًا في بناء الكون التخيلي للرواية.
ظاهرة المؤرخ الروائي
لا بد من إثارة قضية أو ظاهرة صارت لافتة للانتباه عند المؤرخين المغاربة، وهي تحوّل عدد غير قليل منهم من مجال التاريخ إلى حقل الأدب، ولا سيما مجال الرواية. ولعل السؤال الذي ينتصب أمام ذهن القارئ في هذا المقام، هو لماذا اختار هؤلاء هذه التجربة، أي التحول من حقل التاريخ المعروف بصرامته العلمية، إلى كتابة الرواية بكل عوالمها التخييلية والرمزية؟
وسوف نقتصر هنا على نموذجين اثنين لمؤرخين مغربيين لقيت أعمالهما الأدبية (الروائية) كثيرًا من الذيوع والمقروئية، ويتعلق الأمر هنا بكل من المؤرخين عبد الله العروي، وأحمد التوفيق.
يعمل العروي على إعادة صياغة النص التاريخي بطريقة إبداعية تندرج في سياق المقارنة بين ما هو روائي في التاريخ باعتباره علمًا، وبين ما هو خاص بالتاريخ في الرواية بوصفه إبداعًا
في مقابل أعمال عبد الله العروي الفكرية والتاريخية، التي تعبر عن عمق مواقفه واختياراته وتحليلاته، تبرز أيضا كتاباته الإبداعية السردية. فالقارئ العربي يعرف أيضًا هذا المفكر من خلال أعماله التخييلية (الروائية)، والتي تأتي كاستمرار وامتداد لتجربته الفكرية. فهو يقول: “إني لا أميل إلى الرواية إلا بدافع تجاوز ما يظهر من صرامة تحليلاتي الأيديولوجية والتاريخية”. وكأني بالعروي يستشعر بأن التعبير الأدبي (الروائي) أصدق من التاريخ في استيعاب هواجسه، ذلك أن الأديب عندما يتناول حدثًا أو شخصية تاريخية، يجد الحرية الكاملة في الانطلاق وراء خفايا الحدث ودوافعه، أو وراء التجربة الخصوصية للشخصية، بينما يقف المؤرخ جامدًا إزاء هذا، ذلك أنه ملتزم برواية الحدث كما هو، وحتى في محاولته إعمال فكره فهو لايستطيع أن يلجأ إلى التصورات الفكرية، وإنما ملتزم بالمنطق العلمي، أو بطريقة أخرى، فإن مجال المخيال مفتوح أمام الأديب، بينما هو مغلق أمام المؤرخ.
وما يدعم هذا الاعتقاد هو قول العروي دائمًا: “إذا سئلت ما هو الغرض من كتابتك للقصة، فلا بد أن أجيب أن الغرض منها هو التعبير عن أشياء لا أعبر عنها بالتحليل العقلاني. لو كان التحليل العقلاني بالنسبة لي كافيًا للتعبير عن كل ما أحس به لما كان هناك داع لكتابة القصة”. ومن خلال هذا المعنى الأخير، نستطيع أن نفهم لماذا رفض عبد الله العروي أن تكون أعماله الأدبية والتخييلية نوعًا من الاستنساخ المشابه لكتاباته الأكاديمية، ومناهجها العلمية الصارمة. ويعبر عبد الله العروي عن هذه الرأي قائلاً: “يخطئ من يظن أن المادة واحدة، وأن ما يوجد في الأعمال الأدبية يوجد في الأعمال التحليلية”. بهذه الكيفية يعمل العروي على إعادة صياغة النص التاريخي بطريقة إبداعية تندرج في سياق المقارنة بين ما هو روائي في التاريخ باعتباره علمًا، وبين ما هو خاص بالتاريخ في الرواية بوصفه إبداعًا، وعلى نحو يمكن من النفاذ مباشرة إلى المناطق المنسية، وسبر الأغوار التي أغفلها المؤرخون، للوصول إلى جوهر الحقيقة الغائبة، أو الحقيقة التي يحجبها الخطاب الرسمي المبتور. إن انصهار التاريخ في الأعمال الأدبية التخييلية لعبد الله العروي، لا ينبغي أن يحجب عنا الحدود الأبستيمولوجية التي تظل قائمة بين الخطابين الفكري والأدبي، وذلك من منطلق خصوصيات كل منهما، إلا أنها تظل في العمق مع ذلك متكاملة.
المغرب بين زمنين
وبالعودة إلى الكتابة الروائية، لا بد لنا من استحضار تجربة عبد الله العروي المتميزة في روايته “أوراق”، والتي تعتبر العمل الروائي الرابع الذي أصدره العروي سنة 1989. وهو يعكس مرحلة تاريخية حاسمة، ارتبطت بالمجتمع المغربي، وهي التي جمعت بين زمنين مغايرين؛ الأول يهم الاستعمار، بينما يجسد الثاني تطور الواقع المغربي وانتقاله إلى مرحلة الاستقلال وما عرفته من عوائق في بناء هذا المغرب الجديد، بسبب الرواسب التي صعب تجاوزها، والتي شكلتها ظروف المرحلة الانتقالية. وهذا ما صورته شخصية “إدريس” الذي تجرع مرارة الخيبة والإخفاق بعدما اصطدم حلمه في مغرب مستقل، وناهض بواقع مترهل ومثقل بالجهل والانتهازية. يقول العروي: “العبور من الحب إلى التاريخ هو الوصول إلى سن النضج، أما الانتكاس من التاريخ إلى الحب فهو الصد عن الإخفاق الاجتماعي، ينعزل فيه المرء فيعود إلى حياته الشخصية، ومن ثم إلى الحب”.
جارات أبي موسى
نموذج آخر لمؤرخ مغربي صار بدوره يتبوأ مكانة متميزة في مجال التخييل التاريخي، حيث لاقت بعض أعماله الروائية كثيرًا من الذيوع والانتشار. ويتعلق الأمر هنا تحديدًا بالمؤرخ أحمد التوفيق، الذي ولج هو الآخر مجال الرواية، وشجعته تجربته كمؤرخ متخصص في التاريخ الاجتماعي على دخول عالمها، يقينًا منه بأن الرواية هي وسيلة فعالة تمكن من التعبير عما أغفلته أو سكتت عليه الأبحاث والدراسات التاريخية.
ولعل هذا ما تعكسه تجربة المؤلف في روايته “جارات أبي موسى”، وهي رواية ذات طابع تاريخي، كونها تنهل من أحداث تاريخية تندرج ضمن سياق تاريخي معين وهو العصر الوسيط (الفترة المرينية)، كما تتناول بشكل بين الفساد الاجتماعي الذي تفشى آنذاك، خاصة في سلا (المدينة التي تدور فيها أحداث الرواية)، وكذا جور واستبداد الحكام ومن لهم السلطة والنفوذ، كما يقابل هذا الواقع ظهور طرق صوفية رافضة لهذا الواقع المتأزم والمتفشي.
من يقرأ الرواية للوهلة الأولى، يكتشف حضور التاريخ في هذا النص الروائي، كما يلاحظ نوعًا من الصلة الوطيدة بين الفعل الروائي والمتن التاريخي في شكله التقليدي، ويظهر ذلك أيضًا من خلال لغة السرد، التي تنهل من النصوص التراثية والمناقبية، وكتب الأخبار، وصيغ الترسل والكتابة الديوانية التي انتشرت إبان فترات الحكم العربي والإسلامي، سواء في المغرب أو المشرق.
إن الفارق بين عمل المؤرخ وعمل الروائي بيّن؛ يكمن في رغبة الأول في التطابق مع الوثائق، وعدم انصياع الثاني لهذه الرغبة.
إن الصلة بين رواية “جارات أبي موسى” والمتن التاريخي، تؤشر على تداخل عام يجعل الرواية ذات ملمح تاريخي، كونها تتخذ من التاريخ بأحداثه وشخصياته مرجعية لها. إنها رواية تاريخية بالمعنى المتعارف عليه، والذي يستحضر المادة التاريخية المتحققة في الواقع الفعلي، ويستثمرها في صنعة التخييل.
لا أحد ينكر -إذن- ظلال التاريخ في هذا النص الروائي، حتى غدا الخطاب الروائي جزءًا من التاريخ والتاريخ جزءًا من الرواية. “وجارات أبي موسى تعتمد أحداثًا تاريخية لا تسردها بشكل تصاعدي يجعلها بؤرة العمل، ولكنها تبثها هنا وهناك، وهذا راجع إلى التخييل الذي يجعل الرواية تنفلت من أسر الاشتغال كمجاز خطابي للتاريخ وإعادة صياغة له”.
وبهذا الشكل تكون رواية “جارات أبي موسى” وهي تستلهم التاريخ، واعية بحدود ذلك الاستثمار الذي يتخذ من التاريخ مادة له، ولكنها لا تنقل التاريخ بحرفيته بقدر ما تصور رؤية الكاتب له وتوظيفه لهذه الرؤية، للتعبير عن تجربة من تجاربه، أو موقف من مجتمعه يتخذ من التاريخ ذريعة له.
الأدب بين التاريخ والمؤرخين
يمكن القول بأن الرواية أو التاريخ في الأدب، تختلف عن التاريخ عند المؤرخين، فهؤلاء يعطون صورة موجهة وغائية للأحداث التي يعرضونها، ويدخلون الوقائع والمسارات التي يصفونها في منطق تفسيري. والأدب لا يقول التاريخ، بل يقيم معالم له، يظهر وينشئ من الواقع عالمًا، لا تهم الكرونولوجيا فيه بقدر ما تهم الجذور والشرائح الداخلية والسمات الدالة. وبهذا المعنى لا يمكن اختزال المؤلف الأدبي في وثيقة تاريخية، فهو بنية رمزية ودالة، تصاغ من التاريخ، كواقع ماض، وحاضر تاريخي، صورًا ورؤى، تحيل بدورها إلى التاريخ.
إن الفارق بين عمل المؤرخ وعمل الروائي بيّن؛ يكمن في رغبة الأول في التطابق مع الوثائق، وعدم انصياع الثاني لهذه الرغبة. فالمؤرخ يؤلف حبكات تسمح له بها الوثائق المتوافرة أو تمنعها، إلا أن هذه الوثائق لا تشتمل على هذه الحبكات. فيما تكون حرية الروائي في التحبيك أكبر؛ لأنه متحرر نوعًا ما من إكراهات التطابق مع الوثائق والأرشيفات، بعبارة أخرى إن الروائي حرٌّ في أن يعيد تشكيل التاريخ بالإضافة والحذف؛ لأن مهمته هي إعادة صوغ الحياة في تجلياتها المختلفة، لا كتابة التاريخ الموضوعي الصعب المنال حتى على المؤرخين المحترفين.
(*) باحث في التاريخ وعلوم التربية، جامعة محمد الخامس، الرباط / المغرب.