كثيرًا ما نسمع كلمة الزمن الجميل، يوم أن كانت تنتشر بيننا عادات المودة، ونتبادل التهاني بكلمات رقيقة صادرة من القلب، ولقاء الوجوه مباشرة، لكن ما حدث في العقود الأخيرة من القرن الماضي والعقدين الأول والثاني من القرن الحالي، بدلت الحال، وتغيرت كثير من القيم، حتى رمضان طاله هذا الأمر، وهو ما نأسف له حقًا، لنقول في النهاية ليت الزمن الماضي الجميل يعود.
في تراثنا العربي الإسلامي كان المسحراتي فرحة وبهجة يشعر بها الكبير والصغير، الكبير حينما ينادى على اسمه، والصغير حينما كان يود سماع اسمه ولم يكن أمامه إلا الصبر حين يكبر. كان النوم مبكرًا في الاستيقاظ مع نداء المسحراتي، فتلتف الأسرة على مائدة السحور استعدادًا للصوم، ثم النوم بعد أداء صلاة الفجر، ليذهب كل منا إلى عمله في الصباح. تغير الحال، امتدت السهرات حتى الفجر دون انقطاع، تمتلئ المقاهي، تكثر الخلافات بسبب وبدون سبب، يملأ الدخان المكان، يتباطأ الناس في الذهاب إلى العمل، وربما لا يذهب الكثيرون منهم، ويقفون معظم ساعات النهار في النوم.. ظنًا منهم أن النوم عبادة!
من اللافت للنظر أن الذاكرة الرمضانية ما زالت تحتفظ بالأغاني الرمضانية القديمة ذات الكلمات الندية والألحان الشجية.
التهاني بقدوم الشهر الفضيل تتم دون وسيط إلكتروني، لكن اليوم، التهاني كلمات قليلة جدًا مرتبطة بعدد معين من الحروف فيما يعرف برسالة المحمول، وقد لا يتم تسلمها في الحال، فتصبح التهنئة في غير وقتها! فكتابة مثل هذه الرسائل تخلو من روح الود، وتكاد تكون نمطية. ومن جانب آخر حرمنا من سماع قصص البطولات الإسلامية التي كان يحكيها الأجداد للأحفاد، أو الحكواتية في المقاهي وأماكن التجمعات، حرمنا أيضًا من الأناشيد والأدعية الدينية التي كانت تنتشر يوميًا لتمنح الصائمين القدرة على التمتع بما في هذا الشهر من قيم سامية وغايات عالية. تبدلت إلى مسلسلات معظمها أقرب ما يكون للخلاعة، وليس هذا فحسب، فكم من الألفاظ البذيئة التي تقال على ألسنة النجوم، كأنها دروس مجانية للصغار في الخروج عن المألوف وتجاوز حدود الأدب. ترى هل تتحول القيم الجميلة المرتبطة برمضان عبر العصور الماضية إلى نوع من الفلكور أو أشياء متحفية يتباكى عليها جيل الآباء؟ أم أن تكنولوجيا العصر اغتالت وعن عمد معالم هذا الزمن الجميل الذي ولى وأصبح مجرد ذاكرة رمضانية.
ألسنا اليوم في أشد الحاجة إلى عودة الروح لمظاهر رمضان التي اعتاد عليها آباؤنا ومن قبل أجدادنا ، وألا تدفعنا الحداثة إلى التمسك بجهاد النفس ضد الشهوات.
ترى إلى أي حد فرطنا في قيمة صلة الرحم، فالزيارات العائلية انحسرت بل كادت تختفي اللهم إلا أول يوم لعيد الفطر، والأغرب من هذا ما شهدته مصر وبعض الدول العربية مؤخرًا من حفلات طعام السحور في مراكب نيلية أو ملاهي وعلى أنغام الموسيقى، وبين أصوات تهذي بكلمات لم تخضع لأية رقابة، وأجساد تتمايل وتتلوى وأضواء تجعلك في دوار لا ينتهي، والذي يدعو للأسف حقًا أن كثيرًا من شباب الأمة لا يعرف صلاة التهجد أو قراءة القرآن الكريم وتفسير معانيه يوميًا أو ارتياد المساجد لأداء صلاة التراويح، إذ انصرفوا إلى قضاء ساعات طويلة – نهارًا وليلاً – على صفحات الإنترنت واللجوء إلى غرف الدردشة بعيدًا عن عيون الأهل!
لا شك أن أجهزة الإعلام والمؤسسة الدينية مسئولة عن سلوكياتنا التي لا تتفق والحكمة من الصيام، سواء من الإقبال على الطعام والشراب بنهم شديد وكأنه شهر لملء البطون حتى التخمة وليس لإدراك معنى الجوع، ولننظر معًا إلى ما تصدره معظم الحكومات من قرارات بزيادة كميات الأطعمة خلال هذا الشهر بغض النظر عن أزماتها المالية!.
هل تتحول القيم الجميلة المرتبطة برمضان عبر العصور الماضية إلى نوع من الفلكور أو أشياء متحفية يتباكى عليها جيل الآباء؟
لا شك أن ظهور التلفزيون الذي يجسد مفهوم الصورة في ذهنية المتلقي بعد أن كان الراديو يُعبِّر عن مفهوم الصوت والاستماع ، ومن ثم إثارة خيال المستمع ، قد أثر على العلاقة بين الناس أنفسهم ، فبدلاً من التزاور وتبادل أطراف الأحاديث آثر الكثير الجلوس أمام شاشات التلفزيون وربما فيما ليس ينفعهم. ومن ينظر إلى موائد الرحمن يجد أن يد التغيير والمسخ قد امتدت إليها. ففي الماضي كانت تقام تلك الموائد داخل المساجد والبيوتات الكبيرة وفي أماكن شبه مغلقة ، ولكن اليوم أصبحت تقام في الميادين العامة والشوارع وتجذب عددًا كبيرًا يتراصون في صفوف ينظر كل منهم إلى الآخر، لا تعرف منهم المحتاج من غير المحتاج، ينظرون إلى الطعام، لحظات انتظار مدفع الإفطار، ومن جانب آخر ففرحة الأطفال اغتيلت بفعل فاعل، فلم تعد هناك البهجة بحمل الفانوس المحلي الصنع ذو الشمع الذي يوقد ويحيط به الزجاج الملون، صغير الحجم الذي يحمله الطفل بأنامله يطوحه برفق يمنيا وشمالاً، تحول إلى فانوس ضخم تتنوع نغماته وأصواته، منها ما هو واضح ومنها ما هو متقطع الصوت، صنع من مواد بلاستيكية أو قطع خشبية أو على أشكال دمي وشخصيات غير عربية، لأنها صناعة أجنبية، وهو ما يعني القضاء على صناعة وطنية وتراثية هي صناعة الفوانيس التي كانت تمتد طول العام في ورش سباكة صغيرة المساحة بالأحياء الشعبية، لقد أصبح الفانوس المحلي قطعة متحفية.
وفي ظل الحداثة اختفت عادة ذات طابع خاص في بلاد المغرب حيث يصعد بعض الأطفال بصحبة أمهاتهم إلى أسطح البيوت ليلة القدر، لكل منهم أمنية يطلبها من (سيدنا قدر) – ليلة القدر – ومن اللافت للنظر أيضًا أن الذاكرة الرمضانية ما زالت تحتفظ بالأغاني الرمضانية القديمة ذات الكلمات الندية والألحان الشجية. واختفت أيضًا تجمعات بيوت الضيافة التي تجمع الرجال في سهرات دينية بمعظم المدن السورية والتي اختفت منها أيضًا مجالس المولوية ودراويش العراق الصوفية، وخيال الظل الذي كان يعد مسرحًا صغيرًا بسيطًا يعرض بعض الصور على الشاشة إلى جانب الكراكوز الأديب الشعبي حاضر النكتة. وفي زخم أحداث الحياة تناسى الصائمون أن رمضان شهر الفتوحات والانتصارات والجهاد .
ختامًا ألسنا اليوم في أشد الحاجة إلى عودة الروح لمظاهر رمضان التي اعتاد عليها آباؤنا ومن قبل أجدادنا ، ألا تدفعنا الحداثة والعولمة إلى التمسك بالجهاد الأكبر جهاد النفس ضد الشهوات . ورمضان كريم.