إن الإنسان في نظرة الدين عبارة عن مجموعة من أعمال، حياً كان أو ميتاً، لأن العمل أساس الرابطة الإيمانية، وبناء كل شيء يتم عليه. إذن، الدين يتجه إلى الجانب التطبيقي بالدرجة الأولى، وهذا ما يراد من الإنسان؛ حيث لن يبقى بعد الموت إلا العمل. وعندما يوضع الإنسان في القبر، يرجع اثنان ويبقى واحد؛ يرجع مالُه وأهلُه ويبقى عمله، (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ)(الزلزلة:7). وإن صغر هذا العمل، بل نية كان أو تفكيراً أو هماً بالشيء… فكل ذلك له عند الله أجراً. إذن، الدين ذو طبيعة تطبيقية وينبغي أن يظهر في المؤمن سلوكاً لا دعوى، سواء كانت الطبيعة التطبيقية قولية أو إشارية أو غير ذلك… المهم أن يظهر الدين عملاً ملموساً فعلاً.
اللسان خطير، ولخطورته جعل الله سبحانه وتعالى له قفلين؛ قفل الأسنان، وقُفل الشفتين، حتى لا يفتح عما يقال إلا بعد وزنه والتفكير فيه.
وقد ذكرنا جوانب ثلاثة يتجلى فيها هذا السلوك وهذا الخلُق: جانب التفكير، وجانب التعبير، وجانب التدبير. أما الجانب التفكيري فهو في غاية الأهمية، لأن استقامة المنهج التفكيري الذي به نتلقى الأشياء ونعالجها ونُنْتج الأعمال في لحظة التفكير فيها والتخطيط لها، تؤدي إلى استقامة الفعل وطيب النتائج، وأهميته تأتي من كونه بداية الانطلاق، ثم عندما نريد إخراج ما فكّرنا فيه ينبغي أن يَخرُج بطريقة مرضية عند الله تعالى. ومن ضوابطها الكبرى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: “مَن كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليقلْ خيراً أو ليصمت” (رواه البخاري). أنا وأنت نُنتِج “فعلاً” اسمه “القول”، و”القول” يدخل في العمل في النظرة الإسلامية؛ فقول الإنسان من عمله، وتفكيره من عمله الذي سيؤجر عليه.
الإذن من الشريعة والحكمة
إن القول الصواب في هذا الصدد يحتاج إلى شرطين: الإذن من الشريعة والحكمة.
الأول: ينبغي أن نفكر في القول قبل تصديره باللسان إلى المستهلك المتلقي أي المستمع، أو ينبغي أن نفكر فيه هل هو إذا وزنَّاه بالشريعة جائز قوله أو واجب أو مستحب أو على الأقل مأذون في قوله. نفكر فيه من هذه الجهة، ونفكر فيه من جهة الصواب ومطابقته للواقع والمناسبة، ونفكر فيه من جهة الباعث عليه، أي إن النية التي تقف وراءه تحتاج إلى التصحيح.
الثاني: ينبغي أن يكون صواباً، وكلمة “صواب” تعني المطابقة لأمرين: المطابقة للنصوص الشرعية من ناحية، بحيث لا تصادم الشرع، ومن ناحية أخرى المطابقة لمقتضى المقام؛ إذ لا تتم صوابية الأمر إلا بالإصابة في الناحيتين. فقد يكون الاجتهاد سائراً حسب مقاييس الشريعة، ولكن صاحبه وصل إلى ما ليس صواباً، لأنه لم يناسب ما ينبغي ولم يطابق ما ينبغي، أي لم يُصِبْ المفصل بالضبط، فأصوبُ العمل يقتضي هذين الأمرين.
كلمة “صواب” تعني المطابقة للنصوص الشرعية من ناحية، بحيث لا تصادم الشرع، ومن ناحية أخرى المطابقة لمقتضى المقام؛ إذ لا تتم صوابية الأمر إلا بالإصابة في الناحيتين.
فإذن الفعل الذي ننتجه، أي القول الذي نقوله ينبغي أن يفكَّر فيه قبل تصديره، أي يجب أن نفكر هل هو بخير أو ليس بخير، أو هل يناسب المقام أم لا؟.. هذه نقطة مهمة قد لا يُلتفَت إليها. فليس كل كلمة مشروعة يمكن قولها في أي وقت وإن كان الكلام حقاً، وهذا أمر صريح في الشريعة. فسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم الذي هو رسول الله، ويتلقى عن الله، ولا أحد منّا يمكن حتى أن يقاربه، مع ذلك حين قال للسيدة عائشة رضي الله عنها: “لولا أن قومك حديثو عهدٍ بالإسلام، لبنيت الكعبة على قواعد إسماعيل” (رواه مسلم).
ها هو بيت الله الذي اسمه “الكعبة”، له أساس في الجانب الذي رفعه سيدنا إبراهيم عليه السلام، وفيه جانب كان سيدنا إسماعيل عليه السلام قد رفعه والذي يسمى الآن بـ”الحجر”، وحتى الحائط القصير الدائري هو من الكعبة. فأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرفع البيت على أصله الكامل، ولكن العرب حديثو العهد بالإسلام، أي في حالةِ ما إذا مس الكعبة وأحدث فيها ضرباً من التغيير قد تقع فتنة. فدرءاً لهذه الفتنة أوقف صلى الله عليه وسلم هذا الحق والخير العظيم. إذن -وهذا ما يسمى بـ”الحكمة”- مطابقة السلوك والتصرف لمقتضى الحال هو ما نشرح به الصواب.
كيف يصبح الكلام عملاً
فإذن “من كان يومن بالله واليوم الآخر، فليقل خيراً أو ليصمت”. أما إذا اختل في القول شرطٌ من الشروط السابقة، أو لم يتبين لنا لا هو خير ولا هو غير خير وحِرْنا فيه، فعندها نطبق القاعدة المعروفة للورع: “دَعْ ما يريبك إلى ما لا يريبك” (رواه الترمذي). يؤول الأمر في النهاية إلى أن مَن تمحضت خيريته، هو الذي ينبغي إنتاجه وقوله، وما لم تتمحض خيريته يُترَك جانباً.
الدين ذو طبيعة تطبيقية وينبغي أن يظهر في المؤمن سلوكاً لا دعوى، سواء كانت الطبيعة التطبيقية قولية أو إشارية أو غير ذلك…
وكلمة سيدنا عبادة رضي الله عنه تَصبُّ في هذا المعنى، فقد قال: “منذ بايعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم ما تكلمتُ كلمة، إلا مزمومة مخطومة”. ويعني أنه كان قبل ذلك يتكلم كما يتكلم الناس، لكن مع مجيء الإيمان أصبح الكلام عملاً وعليه ثوابٌ أو عقاب كما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال لمعاذ بن جبل رضي الله عنه: “ثكلتك أمك يا معاذ، وهل يكب الناس على مناخرهم في النار إلا حصائدُ ألسنتهم” (رواه أحمد).
اللسان خطير، ولخطورته جعل الله سبحانه وتعالى له قفلين؛ قفل الأسنان، وقُفل الشفتين، حتى لا يفتح عما يقال إلا بعد وزنه والتفكير فيه. إذن، لا وجود للكلمة الحرة التي يمكن أن تخرج وحدها بدون ضابط وتفكير… فإذا كان العقل يسبق اللسان فلا خوف، وأما إذا كان اللسان يسبق العقل فهناك الخوف. ولذلك فالتسرُّع ليس من خصائص أتباع هذا الدين جملةً، لذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لِـ”أشجِ ابن عبد القيس: “إن فيك خصلتين يحبهما الله عز وجل، الحِلْم والأناة” (رواه مسلم)، أي السير بتمهُّلٍ.
المصدر: مجلة جراء العدد 20