سبق الإسلام غيره من الشرائع والقوانين الوضعية، إلى وضع تشريعات محكمة لرعاية البيئة وحمايتها، ورسم حدود هذه التشريعات على أساس الالتزام بمبدأين أساسيين يحددان مسؤولية الإنسان حيال البيئة التي يعيش فيها؛ درء المفاسد وجلب المصالح.
مفهوم الأمن البيئي
الأمن نعمة عظيمة، بل هي من أجلّ النعم التي يتمناها الإنسان ويتطلع إليها، فالأمن يعطي الاستقرار، والاستقرار يقوي الأمل الذي يدفع للجد والعمل. قال الماوردي في القاعدة الرابعة التي قررها لصلاح حال الدنيا: “والقاعدة الرابعة: أمن عام تطمئن إليه النفوس وتنتشر فيه الهمم، ويسكن فيه البرئ، ويأنس فيه الضعيف، فليس لخائف راحة، ولا لحاذر طمأنينة، لأن الخوف يقبض الناس عن مصالحهم، ويحجزهم عن تصرفهم”. وروى الترمذي في سننه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “من أصبح منكم آمنًا في سربه، معافى في جسده، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها” (رواه الترمذي).
و”الأمن البيئي” مفهوم شاع استخدامه خلال السنوات الأخيرة، وهو يستمد قوته وتأثيره من قواعد الإسلام الأساسية التي دعت إلى احترام البيئة والعناية بها، ومن ذلك قاعدة التحليل والتحريم التي تقتضي من المسلم الامتثال للأحكام الشرعية التي نهت عن الإفساد في الأرض.
ويمكن تعريف “الأمن البيئي” بأنه “إجمالي التأثيرات والعمليات المباشرة أو غير المباشرة التي يقوم بها الإنسان والمجتمع البشري، ولا تؤدي إلى إحداث أضرار بالبيئة أو تهديدات بحدوث مثل هذه الأضرار في المستقبل، وتعريض البيئة وتوازنها للخلل والتشويش”.
وإسلاميًّا تتعدد أطر هذا المفهوم، فتبدأ بالإطار البيئي المباشر للإنسان، وهو المسكن (الأمن المنزلي)، حيث حرصت أحاديث الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم على إرشاد المسلمين لما فيه أمنهم في منازلهم، فقد أخرج البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “لا تتركوا النار في بيوتكم حين تنامون”، كما أخرج البخاري أيضًا أنه صلى الله عليه وسلم قال:”أطفئوا المصابيح بالليل إذا رقدتم، وأغلقوا الأبواب وأوكئوا الأسقية وخمروا الطعام والشراب”.
ومنتهى هذا المفهوم، الإطار البيئي الشامل الذي يضم كافة صور الحياة، والذي يشمل الأرض جميعًا (الأمن الكوكبي). لما رواه ابن ماجة والدارقطني وغيرهما عن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “لا ضرر ولا ضرار”. وبذلك فإن مفهوم الأمن البيئي في الإسلام مفهوم يتصف بالشمولية، والأمر بحفظه أمر تكليفي، يدخل في باب الأمانة التي عُرضت على الإنسان فقبلها وحملها.
مبادئ الحرب وأمن البيئة في الإسلام
إن الشريعة الغراء لم تتخذ من الحرب وسيلة للقهر والإعنات والإبادة، وإنما أباحتها -عند الضرورة- علاجًا لمرض لم يُجْدِ معه توجيه وإرشاد، ولم تنفع معه محاولات المودة والسلام، ومن ثم كان لا مفر من مواجهة الباطل بقوة الحق لتظل كلمة الله هي العليا.
وإذا تقفينا آيات القرآن الكريم في القتال ورجعنا إلى ظروف التنزيل، فسنجد أن الإسلام لم يجز الحرب إلا في حالتين اثنتين فقط؛ الأولى الدفاع عن النفس، والثانية الدفاع عن الدين وحرية العقيدة،، يقول تعالى: (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ)(البقرة:190)، وبذلك فقد هذّب الإسلام فكرة الحرب وارتقى بها، وراعى فيها الحرمات الإنسانية تمام الرعاية، فلم تكن حرب عدوان، ولم تقم رغبة في سيطرة، ولم تسع إلى فرض نفوذ أو امتداد حدود، ولم تبغ مجدًا أو عزًّا أو سلطانًا أو ملكًا، وإنما كانت حربًَا دفاعية دفاعًا عن الدين والنفس والعقيدة. وحول حماية الشريعة الإسلامية للبيئة في وقت الحرب، يمكن استنباط ما يلي:
أولاً: تضييق دائرة المعارك الحربية، وقصرها على الأهداف العسكرية يحول دون تعرض البيئة بعناصرها المختلفة، وإذا ما اقتضت الضرورة الدفاعية أن يلحق بالبيئة بعض الأضرار، فإن ذلك يكون محدودًا ومقيدًا بالضرورة فلا يترتب عليه غالبًا إفساد عام أو تدمير شامل.
ثانيًا: الأخذ بمنطق الرأفة والرحمة، والجنوح إلى السلم إذا جنح إليه الأعداء، وعدم اللجوء إلى القتل إلا إذا فرضت الضرورة ذلك، والنهي عن الإسراف في إزهاق الأرواح، وتحريم التمثيل بالقتلى والإحراق بالنار، والأمر بسرعة دفن القتلى وعدم ترك الجثث في العراء دون مواراة لها في الثرى.. نتيجة لكل هذا تحمي الشريعةُ البيئةَ من بعض مصادر التلوث، لأن تقليل القتلى وعدم المُثلة أو التشويه، ودفن من يقتل دون إبطاء، يمنع من أن تصبح الجثث مرتعًا للجراثيم، وتنبعث منها الروائح الكريهة التي تلوث الهواء وتفسد التربة.
ثالثًا: قصر الحرب على الجيش المقاتل، فلا يجوز التعرض للنساء والأطفال والشيوخ والرهبان، كما لا يجوز إتلاف البيئة أو التعدي عليها. فقد روى الطبراني قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بعث جيشًا أو سرية، دعا صاحبهم فأمره بتقوى الله وبمن معه من المسلمين خيرًا، ثم قال: “اغزوا بسم الله، وفي سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليدًا، ولا شيخًا كبيرًا”.
ويمكن تعريف “الأمن البيئي” بأنه “إجمالي التأثيرات والعمليات المباشرة أو غير المباشرة التي يقوم بها الإنسان والمجتمع البشري، ولا تؤدي إلى إحداث أضرار بالبيئة أو تهديدات بحدوث مثل هذه الأضرار في المستقبل، وتعريض البيئة وتوازنها للخلل والتشويش”.
ويتضح من نص الحديث، أن ذلك كان ديدنه صلى الله عليه وسلم في كل غزوة، ولم يكن ذلك محض صدفة، ويشهد لذلك قول الراوي: “كان رسول الله صلى الله عليه الصلاة والسلام إذا بعث جيشًا أو سرية”، فاللفظ يدل على تكرار الفعل منه صلى الله عليه وسلم.
وكما كان هذا هدي النبي، فكذلك كان هدي الخلفاء من بعده، حيث أخرج الإمام مالك أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه بعث جيوشًا إلى الشام، فخرج يمشي مع يزيد بن أبي سفيان -وكان أمير ربع من تلك الأرباع- قال له: “إنك ستجد قومًا زعموا أنهم حبسوا أنفسهم لله، فذرهم وما زعموا أنهم حبسوا أنفسهم له، وإني موصيك بعشر: لا تقتلن امرأة ولا صبيًّا ولا كبيرًا هرمًا، ولا تقطعن شجرًا مثمرًا، ولا تخربن عامرًا، ولا تعقرن شاة ولا بعيرًا إلا لمأكلة، ولا تحرقن نخلاً ولا تغرقنه، ولا تغلل، ولا تجبن”.
وهذه الوصايا تمثل دستورًا لآداب الحرب والجهاد في الإسلام، لما اشتملته من تشريعات في الحرب لا يدانيها ما وصلت إليها قواعد القانون الدولي الحديث.
أما تخريب نخل بني النضير، المعروف بالبويرة، وهو بستان كان يقع جنوب غرب مسجد قباء الذي نزل فيه قول الله تعالى: (مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ)(الحشر:5) فيرد على هذا من وجوه:
فسّر ابن كثير “لِينَةٍ” بنوع جيد من التمر، وذهب النووي وكثير من المفسرين إلى أن اللينة هي” ألوان التمر سوى العجوة”، ودليل ذلك قوله تعالى: قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا، ولا يمكن فرض قيامها على أصولها إلا إذا كانت هي الثمرة، لا أصل النخلة، وقطع الثمرة لا يعد تخريبًا.
وعلى قول من قال بأن “لِينَةٍ” هي النخلة، وأن الآية نزلت في تقطيع وتحريق بعض نخيل البويرة، فإن في ذلك دليلاً على أن المسلمين كانوا منهيين قبل الحادث وبعده عن مثل هذا الاتجاه في التخريب والتحريق، وكان هذا استثناء، واحتاج هذا الاستثناء إلى بيان خاص، فجاءهم البيان الذي ربط الفعل والترك بإذن الله.
ويشهد لذلك ما رواه يزيد بن رومان، وقتادة، ومقاتل بن حيان من أنهم -أي بني قريظة- قد بعثوا يقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلم: “إنك تنهى عن الفساد فما بالك تأمر بقطع الأشجار؟”، وأيضًا قوله صلى الله عليه وسلم -فيما أخرجه أبو داود والبيهقي والنسائي- “من قطع سدرة، صوب الله رأسه في النار”، والسدرة هي شجرة السدر المعروفة بـ”النبق”، حيث تنبت في الصحاري، ينتفع الناس بظلها وثمرها. وكما جاء في وصية أبي بكر لأسامة بن زيد حين ابتعثه على رأس جيش المسلمين: “ولا تقطعوا شجرة مثمرة ولا تذبحوا شاة ولا بقرة ولا بعيرًا إلا لمأكلة”.
أما الإذن المذكور في الآية ففيه قولان: الأول أنه إذن قدري يرتبط بالمشيئة، كما في قوله تعالى: (وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللهِ)(آل عمران:166) وإلى ذلك ذهب ابن الأثير وغيره.
يظهر بجلاء مدى التوافق بين ما وصلت إليه القوانين الوضعية الحديثة، وما قررته سلفًا شريعة الإسلام منذ أربعة عشر قرنًا
والثاني أنه إذن شرعي، وهو ما يؤخذ من عموم الإذن في قوله تعالى: (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ)(الحج:39)؛ لأن الإذن بالقتال إذن بكل ما يتطلبه بناء على قاعدة “الأمر بالشيء أمر به وبما لا يتم إلا به” والحصار نوع من القتال، ولعل من مصلحة الحصار، قطع بعض النخيل لتمام الرؤية أو لإحكام الحصار أو لاستنزالهم من الحصون.
إن كلام الفقهاء الذين أجازوا الهدم والقلع يجب أن يخرج على أساس الضرورات، لا على أساس إيذاء العدو والإفساد المجرد؛ فالعدو ليس الشعب وإنما العدو هم الذين يحملون السلاح. وعلى ذلك، فإذا تبين أن قطع الشجر وهدم البناء ضرورة حربية لا مناص منها، فإنه لا مناص من قطعه أو هدمه على أنه ضرورة من ضرورات القتال، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم هنا وفي حصن ثقيف بالطائف.
ولقد تطورت أسلحة الحرب في العصر الحديث تطورًا مذهلاً، وعرفت أنواع منها تدمر البيئة بكل مجالاتها؛ كالأسلحة الجرثومية والذرية والنووية، كما عرفت أنواع أخرى لا يسلم منها المدنيون والعسكريون والأهداف المدنية والعسكرية، فهي أسلحة التدمير الشامل للكائنات الحية كلها. هذه الأسلحة يقف الإسلام منها موقفًا مناهضًا، فهو يحرمها تحريمًا قاطعًا ولا يبيح استخدامها في الحرب، لأنها تدمر الحياة ولا يسلم من آثارها المُهلِكة المنتصرون أو المنهزمون.
ومعلوم أن القانون الدولي الإنساني في شكله الحالي، يقوم على جملة من المبادئ المهمة التي تتفرع بدورها إلى أحكام تفصيلية تهدف في مجموعها إلى تحديد الضمانات اللازمة للحد من آثار النزاعات المسلحة -والعمليات الحربية بالخصوص- على الأشخاص الذين لا يشاركون في القتال، أو أصبحوا غير قادرين على المشاركة فيه. وتمتد تلك الضمانات أيضًا إلى الممتلكات التي لا تشكل أهدافًا عسكرية. وتفرض أحكام القانون الدولي الإنساني على الأطراف المتحاربة، احترام الضمانات الواردة في مواثيقه.
وتقيد أو تحظر استخدام وسائل وأساليب معينة في القتال، والقانون -وإن كان لا يمنع الحرب- فإنه يسعى إلى الحد من آثارها حرصًا على مقتضيات الإنسانية التي لا يمكن أن تتجاهل الضرورات الحربية.
هذّب الإسلام فكرة الحرب وارتقى بها، وراعى فيها الحرمات الإنسانية تمام الرعاية، فلم تكن حرب عدوان، وإنما كانت حربًَا دفاعية دفاعًا عن الدين والنفس والعقيدة.
وإلى جانب مبدأي “الإنسانية” و”الضرورة العسكرية”، هناك قاعدتا “التفرقة” بين الأهداف العسكرية والأشخاص المدنيين والممتلكات و”التناسب” في القيام بالأعمال الحربية. والمتفحص لهذه المبادئ الأربعة، يلاحظ مدى العلاقة بين مضمونها ومدلولها في القانون الدولي الإنساني وأحكام الإسلام.
وبذلك يظهر بجلاء مدى التوافق بين ما وصلت إليه القوانين الوضعية الحديثة، وما قررته سلفًا شريعة الإسلام منذ أربعة عشر قرنًا، ومن جانب آخر فإن هذه الاتفاقيات على جدواها من الناحية النظرية، لا تلقى الاحترام أو الالتزام من الناحية العملية، إذ إنها لا تطبق إلا في حالة قيام الحرب بين دولتين موقعتين على المعاهدة، وفي حال وجودها فما زالت هناك العديد من المخالفات التي ترتكبها الجيوش في صراعها العسكري، غير عابئة بقيم إنسانية أو معاهدات دولية، لأنه لا يوجد وازع نفسي يفرض الالتزام بمثل هذه الاتفاقيات، بينما جعل الإسلام هذه الحماية جزءًا من عقيدة المسلم، وفريضة مكتوبة عليه، فهو بهذا يلتزم بما دعت إليه الشريعة التزامًا صادقًا ويطبقه تطبيقًا كاملاً لأنه محاسب إن فَرّط أو قَصّر.