عندما يتأمل الإنسان طبيعة الحوار وفقراتها، لا يستطيع أن يتجاهل أن الإسلام -منذ بدايته- دين يتوجه بالخطاب للعالم كله. ومن ثم فهو دين تفاعُل واتصال وخروج للآخرين، وهو دين محجج بالحجج والبراهين والأدلة -الغيبية، والعقلية، والكونية، والإنسانية، والتشريعية- على صدقه وقوته وقدرته على التفاعل مع الآخرين، على أعلى مستويات الجدال والحجاج العلمي والأدبي الرصين، بحثًا عن الحق وبناء عليه. وعندما نتحدث عن الحوار في الإسلام، فإننا نتحدث عن طبيعة من طبائع الإسلام، وخاصة من أعظم خصائصه الأصيلة؛ فمسألة الحوار والتواصل مع الآخرين، ليست مسألة تبعية نسبية في طبيعة الإسلام، وإنما هي مسألة محورية في المنظومة الدعوية الإسلامية، لكون الإسلام دينًا للناس أجمعين.
ولا يمكن أن نتصور دينًا عالميًّا بخطابه وتوجيهاته وأهدافه، كالإسلام. فهو دين يبحث عن المتحاورين والمتواصلين بشتى الطرق، ليبين لهم عقيدته وشرعته وقيمه ورؤيته الكونية. ولذلك وجدنا نبي هذه الأمة ، يخرج إلى الناس في كل مكان ليبين لهم الإسلام وحقائقه.
ولو دققنا النظر في النصوص القرآنية والأحاديث النبوية، وعمقنا البحث في السيرة النبوية، وسيرة الخلفاء الراشدين، وسيرة علماء الأمة في مختلف العصور، لوجدنا آثارًا ضخمة للحوار والتواصل بين الإسلام والأديان والملل والنحل والثقافات الأخرى، على مختلف اعتقاداتها ورؤاها الكونية. وخير دليل على نزعة الإسلام الحوارية والتواصلية والتفاعلية مع الآخرين، ذلك التنوع الهائل في المسلمين أنفسهم، شعوبًا وقبائل وأجناسًا، حتى أصبحت أعظم خاصية من خاصيات الحضارة الإسلامية، هي قدرتها الفاعلة على صهر مختلف الأجناس، واستيعاب تنوعها واختلافها، في إطار الإسلام وقيمه العليا. وما تنوع الثقافة الإسلامية وتنوع مشاربها وتجسداتها الكثيرة، إلا دليل آخر على تواصل الإسلام وحواره مع الآخرين. وتجدر الإشارة هنا إلى أن حوار الإسلام وتواصله، لم يكن لأغراض سياسية وقتية عابرة، أو لأغراض شخصية ذاتية، أو لحل نزاعات طارئة، ولكنه خصيصة فطرية في الإسلام ذاته.
أسس الحوار في الإسلام
الحوار أسلوب حضاري ووسيلة من وسائل التعامل في الحياة، فهو المعبّر عن سمات الشخصية الإسلامية السوية مستندة إلى مبادئ الدين الحنيف وتعاليمه السمحة، وهو بهذا المفهوم يقوم على قوائم أربعة:
1– الإيمان بالله وبكتابه
هذه القاعدة هي المنطلق الأول الذي يجب أن يتأسس عليه دافع المؤمن ورغبته في محاورة الآخرين، لأنه يسعى فيه إلى تحقيق منفعة ومصلحة للدين الذي ينتمي إليه ولأمته. والإيمان قوة وعزة يعبر عن ثقة المرء بربه: (وَلِلهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ)(المنافقون:8)؛ فهو عزيز النفس، قوي الجانب، صلب الإرادة، ثابت المواقف، ولا يركن إلى الباطل ولا إلى الهوان والانهزام. وبهذا المفهوم ينظر إلى الحوار بأنه: سلاح معنوي من أسلحة السجال الديني الثقافي، ينافح به عن المصالح العليا للإسلام، ويحقق من خلاله ما لا يستطيع أن يصل إليه بالعدد المادية. وإذا رجعنا إلى فقرات السيرة النبوية، فإننا سنجد أن المنطلق الأساس الذي انبنى عليه حوار رسول الله مع قومه، هو الإيمان وقوة العقيدة.
2– التأدب بأخلاق الإسلام قولاً وعملاً
وذلك من خلال التأسي بسيرة النبي صلى الله عليه وسلم وسيرة صحابته رضي الله عنهم في الحوار ومخاطبة الآخرين: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا)(الأحزاب:21). وإذا نظرنا إلى الحوار بأنه وسيلة من وسائل الإعلام عن الإسلام، ومن أساليبه الناجعة، فحري بأن يقترن بالحكمة والموعظة الحسنة والجدل بالتي هي أحسن، قال تعالى: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)(النحل:125). وفي روح المعاني يقول الألوسي: “الحكمة بالمقالة المحكمة، وهي الحجة القطعية المزيحة للشبه، والموعظة الحسنة هي الخطابات النافعة”.
3- الحرية والاختلاف
أكد القرآن الكريم على هذه الحقيقة، ووجه نبيه صلى الله عليه وسلم إلى أنه لا سبيل لحمل الناس بالقوة على وجهة واحدة في الهداية والإقناع واعتناق الدين، وإنما يجب أن يَترك المخاطبين في حرية من أمرهم في تلقي الخطاب الإلهي، فقال تعالى: (إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ)(الزمر:41). وهذا في مجال العقيدة، حيث التعلق بأصول الدين وأركانه التي لا يقوم إلا بها، أما الاختلاف في الفروع، فإن الإسلام لا يبيحه فقط، وإنما يحبذه أحيانًا لما فيه من السعة على الناس واختيار الأنسب لهم.
4- طلب الحق والبحث عنه
من القواعد التواصلية في منظومة الحوار الإسلامي الهادف، طلب الحق والسعي للوصول إليه، والتماس الصواب بمختلف الوسائل المتاحة والسبل المتيسرة التي يمكن لها أن تحقق مصالح العباد، وتؤمن مصالح الدين دون العدول والانحراف عن محجة الشرع الإسلامي الحنيف، ليبقى الحوار وسيلة وقناة يتم العبور بواسطتها نحو الحقيقة، وبشرف الغاية تشرف الوسيلة. وعليه، ينبغي ألا ننظر إلى الحوار كغاية ومقصد في ذاته، لما يؤدي إليه هذا النظر من المكابرة والجدال الخارج عن نطاق القيم والموضوعية، وإنما ينبغي أن ننظر إلى الحوار على أنه إحدى وسائل البلاغ عن الله تعالى وعن رسوله بعلم وأدب.
فهذه القواعد الأربع، تمثل المحاور الرئيسة التي ينبني عليها الحوار الإسلامي الصحيح وإن اختلفت طبيعة كل واحدة منها عن الأخرى في الأصل، لكنها مرتكزات أساس تتكامل فيما بينها متضامنة، لتبلور عملية الحوار حسب المنهج الإسلامي الصحيح والهادف.
فقاعدة الإيمان، هي المنطلق الأساس لعملية الحوار، ومرتكزه الأول، وقاعدتا التخلق بأخلاق الدين الإسلامي الحنيف والحرية في التفكير، هما منهجه ووسيلته. ثم تأتي قاعدة البحث عن الحقيقة والصواب، لتكوّن مضمون الحوار والمقصد الذي يهدف ويرمي إليه. ويبقى الحوار نفسه وسيلة وقناة من قنوات الإعلام برسالة الإسلام وبيانها للعالم.
وما ذكرناه من قواعد الحوار الإسلامي، كان على وجه الكلية والإجمال، وما يلاحظ اليوم من حوارات عقيمة الإنتاج، باسم الدين تارة، وباسم المجتمع تارة أخرى، ما هي إلا صور من صور الحوار المهلهل، الذي فقد أصوله العلمية والتربوية، وما لا أصل له لا قيام له، ولا يرجى إنتاجه.
وعلى العموم، يبقى المنهج الحواري السليم الذي رسم ضوابطه الدين الإسلامي، منهجًا مؤطرًا لعملية الجدل والمناظرة والمناقشة من أجل الوصول إلى الحقيقة، وهو الوسيلة الوحيدة للتبليغ والمدافعة عن الصواب. ولذلك كان الحديث عن المنهج الإسلامي في ضبط عملية المحاورة حديثًا يفيد المجال العلمي والتربوي والدعوي، وما أحوج المنظومة الدعوية إلى محاولة تجديد طرق البلاغ عن الله تعالى، بعدما شابها من ضعف في التأثير على المتلقي، وقصور في استيعاب قضايا الناس في الواقع، لفقدان حوار فاعل قائم على الموضوعية العلمية، ومؤطر بالمبادئ والقيم التربوية.
(*) كاتب وباحث / المغرب.