في ظل تسارع الأحداث الدولية وتعاظم ابتلاءات الأمة الإسلامية، يحز في النفس أن نرى زُمرة من العلماء الكبار بين متَّهم أو مطارد أو مسجون… يحز في النفس أن نرى ذلك في زمن كَثُر فيه اللغط حول كثير من المصطلحات ظاهرها الرحمة وباطنها العذاب… يحز في النفس أن نرى ذلك يتزامن مع تشريع الأبواب أمام كل ناعق يطلب الحرية في كل مجالات الحياة، حتى أصبحت المطالبة بتغيير المعلوم من الدين بالضرورة حق يُصان للمطالبين به، بل وصل الأمر إلى تواتر أصوات تطالب بالحق في السِّحاق واللِّواط ويرون أنه حق مشروع لهم.

لكن في الضفة الأخرى، نرمُق معاناة كثير من النزهاء والشرفاء والصالحين عبر رقعة هذا العالم الفسيح وهم يئنّون تحت وطأة الظلم أو التضييق أو التشويه. ذنبهم الوحيد أنهم اختاروا طريقًا غير الذي أريدَ لهم، أو قالوا رأيًا لا يروق ولاة أمرهم، أو دافعوا عن فكر لم يخرج من عباءتهم.

المدهش في الأمر هو وجود تواطؤ غريب، أو إجماع سكوتي -بلغة الأصوليين- على ما يُكابده عدد من علماء الأمة في زمن العولمة من مظالم ومضايقات، جعلت الكثيرين منهم يفرون إلى بلدان أحسنت ضيافتهم بعد ما خذلهم بنو قومهم أو غدروا بهم، مُفارقين الأهل، مُغرَّبين عن الأوطان، لا أنيس لهم في وحشتهم إلا الله تعالى. وجريرتهم أنهم: (قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُو)(فصلت:30)، وتهْمتهم أنهم صدعوا بما يرونه حقًّا، وعملوا على تبليغه للناس صدقًا.

والذي عنده أدنى معرفة بمنهج فتح الله كولن، يعلم أنه يدعو -وفي سلمية منقطعة النظير- إلى أن إصلاح أوضاع الأمة لا تستقيم إلا بالرجوع إلى الإسلام، سالكًا في ذلك أقصى درجات التعاون والتعايش والحوار والتلطف.

كل هذا قد يتجرعه الإنسان في ظل مُسوغ معين إن تعلق بالعوام، لكن حين يُبتلى بذلك السلوك الشنيع فطاحلة علماء الأمة والهامات في الفكر والإبداع والتجديد، من الذين يعدّهم الناس أبطالاً في التضحيات والعطاء، وجعلوهم في مقدمة ورثة الأنبياء… حين تسير الأمور في هذا الزقاق، حقيق بالعقلاء أن يتساءلوا: لماذا يكال الناس بمكيالَين؟ ومَن المستفيد من التضييق على هذه النخبة الطيبة من أعيان الأمة وورثة الأنبياء؟ بل من المسؤول الحقيقي الكامن وراء هذه الشطحات التي لن ينساها التاريخ، ولن تُهدر يوم الحساب الأكبر؟

وفي ظل هذه الأزمات الفردية والمجتمعية والعالمية، تتسابق بعض الجهات -وبحسن نية- من أجل التسويق لفكرة الابتعاد عن كل ما من شأنه الزج بالناس في متاهات لا يعلمون مآلاتها. حينها يحق للعقلاء التساؤل: ألسنا أمة الشهادة التي وصفها الله تعالى بقوله: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ)(البقرة:143)، ألم يقل لنا ربنا سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ)(المائدة:8)؟!

إن مناقشة هذه القضية جزء من مبدأ أصيل في العرف والقانون كما في الدين ولو ظهر بمسميات شتى، إنها قضية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الذي توسع علماء أمتنا الأصلاء في تحديد مواصفاته وشروطه ووسائله فضلاً عن مجالاته وأهله. وقد عده الكثير منهم قاعدة محورية في الدين كما في الدنيا.

إن التطاول على علماء الأمة المشهود لهم بالسبق بين أهل العلم، أصبح من منكرات العصر. ولعل أمثلة الراقصين على جراحنا كثيرة في هذا الباب، إلا أن آخرها نزل مثل الصاعقة على كثير من الصادقين من أبناء أمتنا العظيمة. إنه العلامة النابغة، المبدع المجدد، العابد الزاهد القدوة، الأستاذ محمد فتح الله كولن، الذي شُنت عليه هجمات منظمة منذ سنوات بعيدة، ليس ما يحدث اليوم إلا مشهدًا من فصولها. والغريب أن كل الابتلاءات السابقة واللاحقة تكاد تدور حول تهمة واحدة، وهي اتهام هذا الرجل الصادق الأصيل بمحاولة الانقلاب على الدولة. والأغرب من ذلك أن أحدًا من كل المتهِمين قديمًا وحديثًا، لم يستطع تقديم دليل واحد على كل تلك الاتهامات، ومع ذلك فهي مستمرة اليوم ظلمًا وعدوانًا. والعجيب في الأمر أن هذا الرجل الذي ابيضّ شعره وتعب جسمه وتقدم سنه، استمر قابضًا على دينه ومنهجه كالقابض على الجمر، لم يَعْيَ أو يمل من تجرع كل تلك الاتهامات ولسنوات طويلة بصبر غريب، ونفي للتهم بأسلوب لبيب، وتلمس الأعذار للمتّهمين عجيب… إنه نموذج من الذين نقرأ عنهم في التاريخ.

والذي عنده أدنى معرفة بمنهج هذا الرجل، يعلم أنه يدعو -وفي سلمية منقطعة النظير- إلى أن إصلاح أوضاع الأمة لا تستقيم إلا بالرجوع إلى الإسلام، سالكًا في ذلك أقصى درجات التعاون والتعايش والحوار والتلطف. وبمنهجه الرشيد استطاع أن يتفوّق في العمل المدني الذي تنبه إلى أهميته منذ الستينات، للتعبير عن آرائه وأفكاره، حتى آمن بفكره ومنهجه تيار واسع من المؤيدين في كل أرجاء العالم. بل استطاع هذا الرجل أن يكسب احترام فئات عريضة من المفكرين ذوي التوجهات الدينية والفلسفية والفكرية والحقوقية، داخل المنظومة الإسلامية وخارجها.

وإني أزعم أن الرجل لو كان يطمع في السلطة السياسية -كما يروج البعض اليوم- لما استطاع أن ينافسه فيها أحد منذ زمن وإلى اليوم، الشيء الذي يؤكد صدقه في توجهاته الدعوية الإصلاحية، وبُعد نظره في أهدافه الإنسانية. والمقام لا يسمح في هذه العجالة بالتفصيل في رأي ثلة كبيرة من العلماء المعتد برأيهم -من داخل الأمة وخارجها- حول إعجابهم بهذا الرجل العبقري، وكلامهم فيه، وأوصافهم له بالعلم والفقه والخلق والولاية والإبداع والتجديد، من أمثال السادة العلماء: وحيد الدين خان، وسلمان العودة، وعائض القرني، والمرحوم فريد الأنصاري، ومحمد عمارة، وغيرهم كثير.

إن التطاول على علماء الأمة المشهود لهم بالسبق بين أهل العلم، أصبح من منكرات العصر. ولعل أمثلة الراقصين على جراحنا كثيرة في هذا الباب.

وإذا كان خير الكلام كلام الله تعالى، فقد دبج كتابه العظيم بعدد من القصص والأحداث لهداية العامة وتوجيه الخاصة من الناس. فما أشبه اليوم بالبارحة، حين قال الله تعالى: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ)(المائدة:27). قال الشهيد سيد قطب في ظلاله: “هذه القصة تُقدم نموذجًا لطبيعة الشر والعدوان، ونموذجًا كذلك من العدوان الصارخ الذي لا مبرّر له، كما تُقدم نموذجًا لطبيعة الخير والسماحة، ونموذجًا كذلك من الطيبة والوداعة، وتقفهما وجهًا لوجه كل منهما يتصرف وفق طبيعته. وترسم الجريمة المنكرة التي يرتكبها الشر والعدوان الصارخ الذي يثير الضمير، ويثير الشعور بالحاجة إلى شريعة نافذة بالقصاص العادل، تكف النموذج الشرير المعتدي عن الاعتداء، وتخوفه وتردعه بالتخويف عن الإقدام على الجريمة، فإذا ارتكبها -على الرغم من ذلك- وجد الجزاء العادل المكافئ للفعلة المنكرة، كما تصون النموذج الطيب الخير وتحفظ حرمة دمه، فمثل هذه النفوس يجب أن تعيش، وأن تصان، وأن تأمن في ظل شريعة عادلة رادعة”.

نعم قد يكون ظلم الخصوم أو المخالفين في التاريخ أو العقيدة أو الدين أو الوطن، مفهومًا أو مبررًا لممارساتهم الظالمة، لكن أن تحصل الاتهامات المجانية والقذف والتشهير ممن يعدون من ذوي القربى، فهذا ما يجعل الجرح أكبر إيلامًا. ومثل هذا الصنف من الناس ما داموا مسلمين، كمثل القابض على الجمر أيضًا، فهم ولو نجحوا في تعليل ظلمهم أو تبرير فِعالهم، لا شك أن ضمائرهم ستستيقظ في لحظة من اللحظات أو يوم من الأيام فيقول قائلهم: (يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ)(المائدة:31). ومهما حصل، لا شك أنهم سيعانون من تبعات ذلك، في العاجل أو الآجل من الزمن.

ورحم الله طرفة بن العبد حين أُحضر أمام ابن عمه -الملك عمرو بن هند- وقد عزم على معاقبته فقال:

وظلْم ذوي القربى أشد مضاضة                                          على المرء من وقْع السهام المهنّد

إن من العلماء من يكون في مرتبة الولاية التي كثيرًا ما ذكر الله تعالى مواصفاتها، وكرّم أهلها وقرّبهم وأثنى عليهم بما هم أهل له عنده سبحانه وتعالى. وهذا يدفعنا للتأمل مليًّا في ما تتعرض له كوكبة من العلماء الأجلاء من أعيان أهل العلم في عصرنا من التطاول والإهانة والقذف والافتراء.

فنقول: إذا كان لجلّ المخلوقات تحت الشمس في زمن العولمة يوم أو مناسبة للوفاء والتكريم والاعتراف بالجميل -من الرجال والنساء والأطفال والأبطال والفنّانين وحتى الحيوانات- فما هو نصيب العلماء -بله الأولياء- من هذا التكريم البشري المزعوم؟

إن التطاول والتجاوزات التي تطال العلماء في هذا العصر، بلغت مبلغًا مخيفًا من التهميش والتضييق، إلى التحرش والحصار والمطاردة والتهديد الذي يتم على مرأى ومسمع من كل العالمين. نعم إن مآسي الناس في عالم اليوم تزاحمت، لكن مأساة العلماء أعظم لأنهم ورثة الأنبياء، فما بالك بالأولياء!؟ لكن وبالرغم من كل ما يلاقونه، فهم المنافحون عن إرث النبوة وهديها حتى يبلغ أقصى مدى يمكن بلوغه. وهم حريصون على تبليغ الحق، قابضون على أسبابه كالقابض على الجمر الذي لا يسلم من الأذى مهما حاول تجنبه.

وإذا كان أولياء الله تعالى قومًا مصطفين بمحبّته فآثرهم على الناس بفضله ورحمته، لا لشيء إلا لأنهم آثروا حياة الخلود -التي وعد الله بها عباده الصالحين- على حياة الترف والشهوات التي لم يصبر على التمتع بها كثير من المترفين. أولئك الأعلام هم الذين وُفّقوا عبر التاريخ إلى تلمس أسباب السعادة الحقيقية والنجاح المعتبر، من خلال الاجتهاد في البحث عن رضى الله تعالى، والتفاني في بذل كل شيء من أجل الآخرين في هذه الحياة الفانية، دون أن يأخذوا منها شيئًا.

إني أزعم أن فتح الله كولن لو كان يطمع في السلطة السياسية -كما يروج البعض اليوم- لما استطاع أن ينافسه فيها أحد منذ زمن وإلى اليوم،

من أجل ذلك فتَح الله عليهم بالقبول، وجعل لهم حظوة بين الناس تغيظ المُقصرين والمخالفين والمترفين، الذين يلهثون وراء هذه الحظوة بكل ما يملكون من وسائل مشروعة وغير مشروعة، لكنهم -وعبر التاريخ- إنما يَجْرون وراء السراب. وقد استوقفني حديث قدسي يهزّ كياني كلما تأمّلته، وهو الحديث الذي رواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن الله تعالى قال: من عادى لي وليًّا فقدْ آذنتُه بالحرب، وما تقرّب إليّ عبدي بشيء أحبّ إليّ مما افترضْتُه عليه، وما يزال عبدي يتقرّب إليّ بالنوافل حتى أُحبّه، فإذا أحببتُه كنتُ سمعَه الذي يسمع به، وبصرَه الذي يُبصر به، ويدَه التي يَبطش بها، ورجلَه التي يَمشي بها، وإن سألني لأعطينّه، ولئن استعاذني لأُعيذنّه”.

هذا الحديث أخرجه البخاري، وخرجه الإمام أحمد بمعناه، وخرجه الطبراني عن أبي أمامة وغيره. وقد قيل إنه أشرف حديث روي في ذكر أولياء الله تعالى. فقوله صلى الله عليه وسلم: “من عادى لي وليًّا، فقد آذنتُه بالحرْب” يعني: فقد أعلمتُه بأني محارب له، حيث كان محاربًا لي بمعاداة أوليائي. ويدعم هذا المعنى الزيادة التي وردت في حديث عائشة رضي الله عنها: “فقد استحل مُحاربتي”، وزيادة أبي أمامة وغيره في رواية أخرى: “فقد بارزني بالمحاربة”. ولا نملك في مثل هذا المقام إلا الإشفاق على من تورّط في معاداة العلماء وأولياء الله تعالى، لأنهم من جهة إخواننا في الدين، ومن جهة ثانية فهُم قد يفتحون أبوابًا لا يملكون مفاتيح إغلاقها، ويلِجون حربًا لا قِبَل لهم بجُنودها.

والنتيجة أن أولياء الله تجب موالاتهم وتُحرم معاداتهم، قال تعالى: (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغَالِبُونَ)(المائدة:55-56).

ولأن الخواص من المؤمنين ألجموا أهواءهم بلجام الحق والصدق مع الله تعالى، وجاهدوا أنفسهم، ونأوْا بها عن ما ينغمس فيه عموم الناس، فقد استحقوا من الله تعالى العون والوقاية من مزالق الأهواء التي أهلكت عددًا من أولي الأمر من الخواص فضلاً عن العوام عبر التاريخ، وإن سنة الله في فتنة الذين آمنوا ظاهرة على مر الزمان، قال الله تعالى: (الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ)(العنكبوت:1-2). وإن صور تلك الفتنة والابتلاء تعدّدت وتنوّعت حتى غابت عن كثير من الناس؛ فقد تكون بالخير وتكون بالشر كما بالشدة والرخاء، وقد تصدر عن الخصوم كما ترد من الأدعياء بل من الأقرباء. ومن ثم بشّرهم الله تعالى بقوله: (أَلاَ إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ)(يونس:62).

إذا كان التواطؤ والعدوان سنّة الله تعالى في ابتلاء المؤمنين، فإن خاتم الأنبياء صلى الله عليه وسلم أخبرنا في ما أخرجه ابن ماجة وصحّحه عن مصعب بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه قال: قلتُ يا رسول الله أيّ الناس أشد بلاء؟ قال: “الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على حسب دينه”. فهنيئًا للذين حُشروا في صفّ الأنبياء، والذين تأسّوا بهم وساروا على دربهم.. هنيئًا.. هنيئًا.. هنيئًا.

(*) جامعة أبو شعيب الدكالي، مدينة الجديدة / المغرب.