إن الفواكه التي تزين موائدنا، وتبتسم إلينا من بين الشوك تارة، ومن بين الرياض تارة، ومن فوق الأشجار تارة أخرى.. أجل، كيف تتكوّن هذه الفواكه التي تشكّل غذاء لأبداننا، ولذة في أفواهنا؟
من أجل أن نستوعب ذلك جيدًا، ينبغي أن ندرك موضوع البناء الضوئي قبل كل شيء.
إن البناء الضوئي يتحقق في عالم النبات بسهولة وبكثرة. والبشرية رغم تقدمها التقني والتطور التكنولوجي المذهل، لم تستطع إنجاز ما تقوم به شجرة حتى الآن. فالماء، وثاني أكسيد الكربون، والكلوروفيل في الأشجار الخضراء والطاقة الشمسية، ينتج السكر الذي يسمى بـ”الكربوهيدرات”، فيتم امتصاص ثاني أكسيد الكربون من قبَل مسام الأوراق الخضراء على الشجرة ويتحقق تنفس الهواء، وهذا يسمى بـ”الامتصاص”، كما ينتقل ثاني أكسيد الكربون بطريقة “الانتشار” داخل ورقة الشجرة إلى موقع الكلوروفيل. وهذا الكلوروفيل هو العنصر الأساسي للاخضرار. وعندما يتم الاختلاط بالماء الآتي من الجذور، ينتج السكر.
إن قدرة خارقة لا تترك ثمرة على شجرة بدون عناية، هل يُعقل أن تَترُك الإنسان -الذي هو ثمرة شجرة الكون- بلا عناية؟
هذه النتيجة تتحقق عبر عملية يسيرة جدًّا، وهكذا يخلق المولى سبحانه كل ذلك بسهولة للغاية، ولكنها من صنف “السهل الممتنع” الذي يعجز البشر عن القيام به. فهذه الفواكه الشهية التي تتدلى من أغصان يابسة، تُخلق بهذه الطريقة السهلة الممتنعة.
وأثناء عملية البناء الضوئي، تقوم الشجرة بعملية التنفس، وتستهلك طاقة معينة. ولكن لكي تحصل على كمية الهواء اللازمة، تستهلك خمسة أو عشرة أضعاف طاقتها المعتادة. والسبب في ذلك هو أن أمام هذه الشجرة ليلة مظلمة تضطرها إلى تغيير طريقة تنفسها أثناءها. ثم سيأتي فصل الشتاء الذي يصعب فيه القيام بعملية التنفس هذه، فضلًا عن زيادة كمية الطاقة المستهلكة لدى الأجزاء غير الخضراء أيضًا في هذه الشجرة.
فأيّ تدبير خارق هذا! وأيّ وعي دقيق! وما أشد حمق من ينسب هذا التدبير المذهل إلى تلك الشجرة التي لا تملك عقلًا ولا تفكيرًا!
إن الإنسان الذي خُلق للخلود، يستحيل أن يُترَك في القبر للبِلى والتلاشي، بل سيبعث من جديد في عالم آخر.
إن القدرة الخارقة التي لا تترك ثمرة على غصن شجرة في أي مكان في الأرض بدون عناية واهتمام؛ كيف يُعقل أن تَترُك الإنسان -الذي هو ثمرة شجرة الكون- سُدًى!؟ فالباري المتعالي الذي يلبّي حاجة أصغر مخلوق في الكون، أيُعقل ألّا يلبّي أعظم رغبة لأعظم مخلوق (الإنسان)، وهي رغبة الخلود؟
كلا، إن الإنسان الذي خُلق من أجل البقاء والذي لا يرضى إلا بالباقي الحقيقي، يستحيل أن يُترك في القبر للبِلى والتعفُّن والتلاشي، إنه سيبعث من جديد في عالم آخر لكي يعيش حياة متناسبة منسجمة مع ظروف ذلك العالم.
ويشير القرآن إلى هذه الحقيقة بقوله تعالى: ﴿قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الآخِرَةَ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ (سُورَةُ العَنْكَبوتِ: 29/20)، ﴿فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللهِ كَيْفَ يُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ (سُورَةُ الرُّومِ: 30/50).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصدر: نفخة البعث، شواهد الحياة بعد الموت، فتح الله كولن، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة، الطبعة الأولى، ٢٠١٥، ص: ٧٥-٧٨.
ملاحظة: عنوان المقال من تصرف المحرر.