أرسى الإسلام العديد من القواعد التي من شأنها تكوين مجتمع متماسك، بحيث يكون مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد، وقد حثنا نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم، على أن يكون أساس المجتمع الإسلامي قائمًا على التآلف والمودة والرحمة مع الآخرين.
إن من طبيعة الإنسان البشرية أن يحب ويبغض، ووفقًا لهذه الطبيعة فإنه يُصدر أعمالاً وأقوالاً، ومن ثمة فالحب ينتج عنه عوامل الائتلاف والمودة والتعاون والرحمة بين الناس، فتسعد الجماعات والأمم والأفراد، وعلى النقيض فإن البغض يؤدي إلى القطيعة والهجران، والتفرقة، والقسوة بين الناس، فتتفكك الجماعة وتفسد الأمم، وكثيرًا ما يسير الإنسان وراء هواه في حب الناس وبغضهم؛ لهذا لم يترك الإسلام مقاييس الحب والبغض وفقًا لهوى النفس البشرية، بل وضع لها موازين محددة، بحيث يكون حب الإنسان وبغضه في لله، فيقول صلى الله عليه وسلم : “من أحب لله وأبغض لله، وأعطى لله، ومنع لله، فقد استكمل الإيمان” (صحيح سنن أبي داود). ولأن منزلة الحب في الله تسمو لأعلى المراتب، فقد ترتب على الحب في الله آثار عظيمة، منها أنه استكمال لمراتب الإيمان.
والحب لا يكون حقيقيًا، ولا يكون قادرًا على تخليص الإنسان من إحساسه بالوحدة والعزلة في هذا الوجود، إلا عندما يكون حبًا منزهًا عن الغرض، والمصلحة، والاحتياج، أي يكون حبًا في الله؛ ولهذا نجد أن النبي صلى الله عليه وسلم، يعلم اتباعه حلاوة هذا الحب، ويبين لهم الأثر المحمود له، فيقول صلى الله عليه وسلم: “ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار” (أخرجه البخاري ومسلم).
الحب ليس كلمة تقال، وإنما هو واقع يعيشه المحب لحبيبه، من نصح وإرشاد، بذل وعطاء، تضحية وإيثار، وتفقد ودعاء..
وفي الحب في الله راحة نفسية، وسعادة للمحب قبل المحبوب، ولعظم وأهمية هذا الحب، فقد جعله الله تعالى عبادة يثاب عليها المؤمن يوم القيامة، فعن أبي هريرة- رضي الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم:”أَنَّ رَجُلاً زَارَ أَخًا لَهُ فِي قَرْيَةٍ أُخْرَى، فَأَرْصَدَ اللَّهُ لَهُ عَلَى مَدْرَجَتِهِ مَلَكًا، فَلَمَّا أَتَى عَلَيْهِ قَالَ: أَيْنَ تُرِيدُ؟ قَالَ : أُرِيدُ أَخًا لِي فِي هَذِهِ الْقَرْيَةِ؟ قَالَ: هَلْ لَكَ عَلَيْهِ مِنْ نِعْمَةٍ تَرُبُّهَا؟ قَالَ : لاَ، غَيْرَ أَنِّي أَحْبَبْتُهُ فِي اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. قَالَ: فَإِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكَ بِأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَبَّكَ كَمَا أَحْبَبْتَهُ فِيهِ” (رواه مسلم).
ولقد حرص الإسلام على القواعد التي تجعل هذا الحب واقعًا ملموسًا يعيشه المسلم، ويستظل به في هذه الدنيا، فيقول صلى الله عليه وسلم: “إذا أحب الرجل أخاه فليخبره أنه يحبه” (رواه أبو داود والترمذي)،وفي الحديث إفشاء للحب بين أتباعه، وإعلام للغير به حتى لا يكون هذا الحب من طرف واحد، وحتى يصبح المجتمع متآلفاً، وعن أنس رضي الله عنه، أن رجلاً كان عند النبي، فمر رجل به فقال: يا رسول الله، إني أحب هذا، فقال له النبي:”أأعلمته؟” قال: لا، قال: “أعلمه”، فلحقه، فقال: إني أحبك في الله، فقال: أحبك الذي أحببتني له” (أخرجه أبو داود).
ولعل السبيل الوحيد لتحقيق هذا الحب المجرد عن الغرض، هو أن ينقي المؤمن قلبه من مشاعر العداوة والحسد والتعالي، مع محاولة أن يسبق هذا الحب، مرحلة تمهيد له، وهي أن يحب الإنسان لأخيه ما يحب لنفسه، ثم أن يغفر له إن أساء، مع التوقف عن النظر إليه من ناحية المنفعة التي ممكن أن تأتي منه، فالحب في الله هو الحب لذات الشخص، بغض النظر عن أية منفعة من وراء هذا الحب، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن من عباد الله عبادًا ليسوا بأنبياء يغبطهم الأنبياء والشهداء” قيل: من هم لعلنا نحبهم؟ قال: “هم قوم تحابوا بنور الله من غير أرحام ولا أنساب، وجوههم نور، على منابر من نور، لا يخافون إذا خاف الناس، ولا يحزنون إذا حزن الناس”.
الحب لا يكون حقيقيًا، ولا يكون قادرًا على تخليص الإنسان من إحساسه بالوحدة والعزلة في هذا الوجود، إلا عندما يكون حبًا منزهًا عن الغرض
والحب ليس كلمة تقال، وإنما هو واقع يعيشه المحب لحبيبه، من نصح وإرشاد، بذل وعطاء، تضحية وإيثار، وتفقد ودعاء، إنها معان عظيمة تظهر على المتحابين في الله، و لما كان هذا العمل عظيمًا كان الجزاء عليه أيضًا عظيمًا. والإسلام بحق دين قائم على الحب والوئام، وخير دليل على ذلك المحبة التي غرسها رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار- والتي جاءت بعد أن كان الناس أعداء في شحناء وبغضاء وخصام- تلك المحبة التي عجزت الدنيا أن تأتي بمثلها إلا في الإسلام .
هذه المحبة امتدت لتشمل من رأيناهم ومن لم نرهم وتمتد المحبة في الله للذين عاصرناهم والذين لم نعاصرهم .. تقول الآية الكريمة (وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ)(الحشر:10) هذه المحبة تربط أجيال بأجيال أخرى لم يحصل بينهم أي تلاقى للأجساد ولكن جمعتهم المحبة في الله .
فيا لها من عبادة عظيمة، ولكنها منسية إلى حد كبير، ويغفل عنها كثير من الناس؛ لذا فقد أصبح الإنسان يعيش وحيدًا يحس بالوحشة وهو بين أهله؛ ومن ثمة فعلينا أن نلجأ إلى الله ونعيش في معيته، وفي صحبة الآخرين، الذين تربطنا بهم علاقة الحب الخالص لوجه الله تعالى، لكي نكون من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله.