إن ما عرفه التاريخ من الوصول إلى الذرى والقمم لبعض الشعوب والأمم لم يحصل كله مرة واحدة وفي عصر واحد، بل -كما هو الحال في فيزياء الأرض- ما فتئت القمم والذرى تتبادل مواقعها مع السهول والسهوب أو شواطئ البحار، والأعماقُ السحيقةُ مع الجبال والتلال.
فالذين ظهروا على مسرح التاريخ يوما، قد اندثروا واحدًا تلو الآخر، ثم تبعهم آخرون جاؤوا من بعدهم في مداوَلة تاريخية لا تتوقف. وبينما كان الزمان -في خضم تدفقه- يقدم باقاتِ زهور من الإقبال لطائفة ما، كان يطبع بأختام الإدبار على طائفة أخرى. فربما قفزت أمم من ذروة إلى ذروة أعلى، في حين أن أمما أخرى عجزت عن دس رؤوسها في حفرة تحميها، مع أنها جميعا كانت تعيش في حقبة زمنية واحدة. ولذلك لا تُعَدّ القرون الوسطى قرونا مظلمة للأمم جمعاء، كما لا يُعَدّ عصرُ التكنولوجيا والعلوم الذي نعيش فيه نورًا وضياء للمجتمعات كلها.
إن التداول التاريخي ما فتئ يعيد نفسه، فقد ظهر تصاعد إلى الذرى هنا أو هناك، لكن لم ينحصر السموق ولا الهبوط في قارة بذاتها وفي عصر بعينه أبدا.
نعم، إن التداول التاريخي ما فتئ يعيد نفسه في تشابه يقترب من التماثل، فقد ظهر تصاعد إلى الذرى هنا أو هناك، وفي هذا العصر وذاك، لكن لم ينحصر السموق ولا الهبوط أبدًا في قارة بذاتها وفي عصر بعينه.
وكذلك هو الحال اليوم؛ ففي العقود الأولى من القرن الحادي والعشرين، ترى شعوبا في بلاد من الأرض يسابقون العصر ويسبقون غيرهم بأشواط تذهل العقول؛ فيطأون القمر بإحدى قدميهم، وكوكبا آخر بالقدم الأخرى، في حين أن آلافا من الذين خاب حظهم في بلاد مظلمة من الأرض، يئنّون وجعًا في براثنِ بداوةٍ وبؤس موروثٍ من ألف عام.
هذا، وينبغي أن لا نرتاب في أن إنساننا وبخاصة الأجيال الفتية منه، سيكونون في القابل القريب أصحاب القول الفصل في سنوات الألفية الثالثة، ما لم تعصف رياح معاكسة فتتبدد المكاسب المتراكمة حتى الآن بطريقة أو بأخرى.
إن الذي سيحدد ملامح انبعاثنا المرتقب هو المستوى الفكري والثقافي لإنساننا المعاصر وأعماقه الإنسانية ورحابته الروحية.
فإن أجيال اليوم المتشبعة بالإيمان والمثابرة على السير في الطريق، المشدودةَ بتحفز روحي كامل استعدادًا لمنازلة الغبن والقهر الذي أصابها منذ قرون، يزفّون بتحفزهم بشائر مهمة عما سيتم من تجديدات جذرية في جميع طبقات المجتمع في مطالع الألفية الثالثة. وحينما يحل الموسم سيؤتي الإيمانُ والعزم والثبات وعشقُ الحقيقة والفكرُ المنهجي بثماره -علما بأن كلا منها طاقة كامنة للقوة في حد ذاته- وسنعيش “انبعاثات عديدةً” تحتضن وحدات الحياة كلها.
إن الذي سيحدد ملامح هذا “الانبعاث” القديم قِدَمَ التاريخ البشري والذي يُعَدُّ قَدَرَه المشرق السعيد هو المستوى الفكري والثقافي للإنسان المعاصر وأعماقُه الإنسانية وسعتُه الميتافيزيقية ورحابته الروحية.
المصدر: ونحن نبني حضارتنا، فتح الله كولن، ص: ٥-٧، دار النيل للطباعة والنشر، ٢٠١١، الطبعة الثانية، القاهرة
ملاحظة: عنوان المقال من تصرف المحرر.