يعد جابر بن حيان أول من حضّر الماء الملكي، فبعد أن حضّر كلاًّ من حمض النتريك وحمض الهيدروكلوريك، مزجهما، ثم أضاف إلى هذا المزيج ملح النشادر أو كلوريد الأمنيوم، فوجد أن الخليط يذيب الذهب، فسماه “ماء الذهب” أو “الماء الملكي”.
واستطاع جابر تحضير الأسفيذاج من الرصاص، وسماه أبيض الرصاص؛ وهو ملح كربونات الرصاص القاعدية (Pb(OH)2.2PbCO3) في الكيمياء الحديثة.
وابتكر جابر طريقة فحص النحاس نوعيًّا، واكتشف أن اللهب يكتسب اللون الأزرق بمركبات النحاس. ويعزى إليه عمليات كيميائية مبتكرة لتنقية المعادن وتحضير الفولاذ، وابتكر كثيرًا من الأدوات والأجهزة المختبرية، وصنفها وشرح كيفية عملها. كما وصف ما قام به من عمليات كيميائية؛ كالإذابة والتكليس والتشميع والتنقية والتقطير والاختزال والبلورة وغيرها، وبيّن أهمية كل منها.
ويرجع الفضل إلى جابر بن حيان في وضع أسس علم السموم من النباتات والحيوانات والأحجار، وساعده في ذلك، الاهتمام بتقطير السوائل والعصارات الحيوانية، فوصف السموم التي استخرجها وصفًا دقيقًا، ومقدار ما يعطى للمريض، بطرق مبتكرة لدفع مضار السموم.
وأسس جابر لعلم البلمرات الحديث، باختراعه أنواعًا كثيرة من الطلاء، منها ما يقي المعادن من الصدأ، ومنها ما يحمي الأخشاب من الاحتراق، ومنها ما يقي الملابس من البلل. وقادته تجاربه الكثيرة إلى اكتشاف نوع من الورق غير قابل للاحتراق، ولا يخفى ما لهذا الاكتشاف الخطير، من أهمية في كتابة الرسائل المهمة والعهود والعقود والمواريث وغيرها. ويرتبط بهذا الاكتشاف أيضًا، قيام جابر بتحضير نوع مضيء من الحبر (مداد)؛ استخرجه من المرقشيتا الذهبية (كبريتيد الأنتيمون). ويشكل هذا الاكتشاف أهمية خاصة؛ حيث استخدم في كتابة المؤلفات والمخطوطات الثمينة بدلاً من الذهب الخالص، كما استخدم في مراسلات الجيوش الحربية التي تمكنت من قراءتها في ظلام الليل الحالك.
وبالإضافة إلى ما سبق، يُعد جابر بن حيان أول من اكتشف الصودا الكاوية، وأول من استخرج نترات الفضة والمعروفة بـ”حجر جهنم”، واستخدمها في كيّ الجروح والعضلات الفاسدة، وما زالت هذه المادة معروفة حتى الآن. وهو أول من لاحظ ما يحدث من ترسب كلوريد الفضة عند إضافة محلول ملح الطعام إلى محلول نترات الفضة، وعرف آيون الفضة النشادري المعقد. وجابر أول من استخرج ثاني أكسيد الزئبق (السليماني) وحامض النيتروهيدروكلوريك (الماء الملكي)، وأول من أدخل طريقة فصل الذهب عن الفضة بالحل بواسطة الحامض، ولا تزال هذه الطريقة تستخدم إلى الآن في تقدير عيارات الذهب في السبائك الذهبية وغيرها. كما عرف جابر استخدام ثاني أكسيد المنجنيز في صناعة الزجاج، واستحضر كربونات البوتاسيوم، وكربونات الصوديوم، وكبريتيد الأنتيمون (الأثمد). وابتكر طريقة تصفية المعادن وتنقيتها من الشوائب المختلطة بها، وأبدع الفرن، والبوتقة، ليعيد ما يجري في الطبيعة.
تعبر مؤلفات جابر بن حيان عن مرحلة هي الأهم في تاريخ الكيمياء الإسلامية، كما لا تقل أهميتها في تاريخ الكيمياء العالمي. وهذا ما جعل جورج سارتون يطلق على المدة التي تقع بين سنتي (750-800م) “عصر جابر بن حيان”، وذلك لمجهوداته العظيمة في علم الكيمياء. فكان لكيمياء جابر ومؤلفاته أثر واضح في تطور علم الكيمياء العربي الإسلامي لدى اللاحقين من الكيميائيين المسلمين، وامتد هذا الأثر حتى الكيميائيين الغربيين في العصر الحديث.
أبو بكر الرازي
وإذا تتبعنا من جاء بعد جابر من مشاهير علماء المسلمين في الكيمياء، وجدنا أبا بكر الرازي (864- 925م) يُرجع الاهتمام بدراسة الكيمياء، إلى إدراكه أن موضوعاتها تتصل اتصالاً وثيقًا بدراسة الطب. ولذلك نراه يصنف كتابًا قيمًا في الكيمياء أسماه “سر الأسرار”، امتد أثره في العصور اللاحقة، وعُرف في العالم الغربي باسم (Libersecre Torum). وهذا الكتاب يبين أن الرازي قد عُني بعلم الكيمياء، وصرف جهودًا كبيرة في إجراء التجارب الكيميائية المختلفة.
درس الرازي كل ما أتى به جابر واستوعبه، الأمر الذي قاده إلى تطوير وتحسين بعض آراء ونظريات جابر بن حيان، وأضاف للكيمياء إضافات جليلة، جعلت منه مؤسسًا للكيمياء في الشرق والغرب. فلقد طوّر الرازي الكيمياء الطبية تطورًا مهمًّا امتد أثره إلى العصر الحديث، وذلك حينما أثبت -بتجاربه الكثيرة- أن شفاء المريض يرجع إلى إثارة التفاعلات الكيميائية في جسمه. كما قادته تفاعلاته الكيميائية وتجاربه، إلى الإبداع في تقسيمه المواد المستعملة في الكيمياء إلى ثلاثة أقسام: مواد برانية، ومواد نباتية، ومواد حيوانية.
أما المواد البرانية أو الترابية، فقد أوضح الرازي بتجاربه، كيفية تحضيرها، وميّز بين الجيد منها والرديء، وعرّف بألوانها، وصنفها في ستة أصناف هي: الأرواح والأجساد والأحجار، والزاجات والبوارق والأملاح. وأما المواد النباتية، فذكر الرازي أنها نادرة التداول في الكيمياء، ومنها الأشنان الذي يستعمل رماده في تحضير القلي. وتشمل المواد الحيوانية المتداولة في الكيمياء، الدم، واللبن، والبول، والبيض، والقرون، والشعر، والصوف.
ويعد هذا التقسيم للمواد المستعمل في الكيمياء الذي وضعه الرازي، أهم التقسيمات التي حفل بها تاريخ علم الكيمياء في عمومه. وليس أدل على ذلك من استمراره في الدراسات الكيميائية في العصور اللاحقة على الرازي وحتى العصر الحديث؛ إذ قامت الكيمياء الحديثة على أقسام الرازي مدمجة في قسمين، الأول قسم الكيمياء غير العضوية أي البرانية كما سماها الرازي، والآخر قسم الكيمياء العضوية ويحتوي على المواد الحيوانية والنباتية.
وكان لاهتمام الرازي بالتجارب الكيميائية واعتماده عليها، أثره الواضح في ابتكاره كثيرًا من الأدوات والأجهزة الكيميائية المعدنية والزجاجية، واستخدامها في إجراء التجارب، ومنها البوتقات، والجفنات، والدوارق، والكؤوس الزجاجية والخزافية، والأحواض، والملاقط، وملاعق الاحتراق، والأفران… كما استخدم أنواعًا كثيرة من الحمامات، مثل حمّام البخار، وحمّام الرماد، وحمّام الرمل، والحمّام المائي.
إن هذا التنظيم الذي اتبعه الرازي بين الأدوات والأجهزة والمواد، هو نفسه التنظيم العلمي المتبع في معامل ومختبرات الكيمياء الحديثة.
اعتبر الرازي أن التجربة هي المحك أو المعيار في العمليات الكيميائية، فما تثبته التجارب فحقّ مقبول، وما لم تثبته فباطل مرفوض. فأرسى بذلك دعائم المنهج التجريبي في الكيمياء سيرًا على درب أستاذه جابر بن حيان. وبتطبيق المنهج التجريبي، استطاع الرازي تحضير المستحضرات الكيمائية وأدخلها في الطب، وعدّ بذلك رائد الكيمياء الطبية والصيدلانية.
فالرازي أول من استخرج الكحول من النشويات والسكريات المتخمرة، واستعمله -صيدلانيًّا- في تركيب الأدوية وتحضيرها. وأبدع الرازي في تجبير كسور العظام باستحضاره الجبس أو كبريتات الكالسيوم اللامائية؛ عن طريق حرق كبريتات الكالسيوم المائية ومزجها بالبيض. كما أبدع الرازي -ولأول مرة- طريقة تنقية المواد الكيميائية من الشوائب الملونة، والتي ما زالت مستخدمة حتى اليوم، وذلك باستخدامه الفحم الحيواني في قصر الألوان، وإزالة الأوساخ، وخاصة الملونة من المواد. وعلى الرغم من التشابه الكبير بين الصودا الكاوية (كربونات الصوديوم) والبوتاس (كربونات البوتاسيوم) في الخواص الطبيعية والكيميائية، إلا أن الرازي ميّز بينهما تمييزًا دقيقًا أفاد الكيمياء الحديثة. وقادته تجاربه إلى أن النحاس إذا تعرض للهواء الرطب، تحول إلى كربونات النحاس القاعدية الخضراء، أما إذا تم تسخينه بحرارة شديدة، فإنه يتحول إلى مادة سوداء، أو أكسيد النحاسيك في الكيمياء الحديثة. وشرح الرازي طرق وتجارب استعمال ثاني أكسيد المنجنيز في صناعة الزجاج، وابتكر ميزانًا دقيقًا لحساب الوزن النوعي للمعادن وكثافتها، أسماه بـ”الميزان الطبيعي”.
أبو القاسم المجريطي
ومن الكيميائيين المسلمين الذين تأثروا بفكر وكيمياء جابر بن حيان، أبو القاسم مسلمة بن أحمد المجريطي (950-1008م)؛ رائد الحركة العلمية في الأندلس إبان القرن العاشر الميلادي. آمن بنظرية جابر في تكوين المعادن، وسيطرت عليه فكرة تحويل المعادن الرخيصة إلى ذهب وفضة. ولشدة تأثره بكيمياء جابر ومنهجه فيها، كان ينصح بدراسة كتبه والتدريب على تجاربه، وقد أجرى هو نفسه كل تجارب جابر الكيميائية، ثم تجاربه الجديدة التي انتهت به إلى إضافات كيميائية غير مسبوقة انتحلها بعض رواد الكيمياء الحديثة من الغربيين، ومنها هذه التجربة التي يصف المجريطي إجراءاتها قائلاً: أخذت الزئبق الرجراج الخالي من الشوائب، ووضعته في قارورة زجاجية على شكل بيضة، وأدخلتها في وعاء يشبه أواني الطهي، وأشعلت تحته نارًا هادئة بعد أن غطيته وتركته يسخن أربعين يومًا وليلة، مع مراعاة ألا تزيد الحرارة على الحد الذي أستطيع معه أن أضع يدي على الوعاء الخارجي، وبعد ذلك لاحظت أن الزئبق الذي كان وزنه في الأصل ربع رطل، صار جميعه مسحوقًا أحمر ناعم الملمس، وأن وزنه لم يتغير.
بهذه التجربة، وضع المجريطي أساس قانون الاتحاد الكيميائي وقانون حفظ الكتلة، حيث زاد وزن الزئبق نتيجة تفاعله مع الأكسجين، وينتج من التفاعل الأكسيد الأحمر. ومن العجيب أن يكرر “بريستلي” و”لافوازيه” نفس تجربة المجريطي بعد ستة قرون وينسبان لأنفسهما نتائجها، وخاصة وقد وضع المجريطي أساس قانون الاتحاد الكيميائي وقانون حفظ الكتلة.
ابن سينا
أما الشيخ الرئيس ابن سينا (980-1037م)، فقد أنكر إمكان تحويل المعادن أو العناصر الخسيسة إلى ذهب وفضة، وسخر من الكيميائيين في عصره الذين اعتقدوا ذلك، وشكك في قدراتهم على تحويل مواد صلبة من عنصر إلى آخر. فليس -كما يقول ابن سينا- في مقدور المدعين، تحويل العناصر من نوع إلى آخر تحويلاً حقيقيًّا، ولكن باستطاعتهم تقليد العناصر تقليدًا جيدًا من حيث اللون والمظهر فقط.
ومع أن ابن سينا قد أنكر تحويل المعادن، إلا أنه سلك مسلك جابر بن حيان في تكوين المعادن واتبع نظريته، وأتى بنظرية متطابقة مع نظرية جابر، مقررة أن جميع الأجساد في الجواهر زئبق انعقد بكبريت المعدن المرتفع إليه من بخار الأرض واختلفت لاختلاف أعراضها، ويرجع اختلاف أعراضها إلى اختلاف نسبها.
وكما تأثر ابن سينا بنظرية تكوين المعادن الجابرية، أشار أيضًا إلى كثير من العمليات الكيميائية التي قام بها جابر ومن بعده الرازي، مثل الترشيح والتشميع والتقطير والتصعيد والاستخلاص، واستخدم نفس أجهزة جابر الكيميائية في إجراء هذه العمليات، تمامًا مثلما استخلص بطريقة جابر كثيرًا من المركبات الكيميائية من أصل حيواني، وأخرى من أصل نباتي.
أبو إسماعيل مؤيد الأصفهاني (الطغرائي)
ومن تلاميذ مدرسة جابر بن حيان الكيميائية، “الطغرائي”؛ أبو إسماعيل مؤيد الدين الحسيني بن علي الأصفهاني (1061-1121م)، والطغرائي نسبة إلى انشغاله بكتابة الطرة بالقلم الجلي أعلى الكتابات والمناشير متضمنة اسم الملك وألقابه.
فقد صرف الطغرائي جل ماله وحياته في محاولة تحويل المعادن الخسيسة إلى ذهب وفضة وتحضير الإكسير، ووضع الطغرائي مؤلفات كيميائية كثيرة يأتي على قمتها من حيث الأهمية كتاب “جامع الأسرار” في الكيمياء؛ حيث بيّن فيه وشرح مدى تأثره بجابر بن حيان، لتمكنه من الصنعة بخلاف كل من اطلع على تراثهم الكيميائي من اليونانيين والمسلمين، وانتهى إلى تمجيد جابر.
ولم يتوقف تأثير جابر بن حيان على الكيميائيين المسلمين فحسب، بل امتد هذا التأثير إلى العالم الغربي وأسس علم الكيمياء الحديثة.
لقد جاء “المسيو بارتيلو” في الجزء الثالث من كتابه “الكيمياء في العصور الوسطى”، المنشور في باريس عام 1893م، بتحليل دقيق للكيميائيين العرب. ويعتقد أن كل مادتهم يمكن تقسيمها إلى قسمين أحدهما، إعادة تعبير عن بحوث الكيميائيين الإغريق في الإسكندرية، والثاني بحوث أصيلة. ويعتبر كل هذه المادة الأصيلة، أثرًا من آثار ما قام به جابر بن حيان، الذي يصبح بذلك في الكيمياء، في مكان أرسطو من المنطق، وينشر بارتيلو في كتابه ستة مؤلفات لجابر اعتبرها ممثلة لكل المادة الكيميائية العربية التي أدت إلى قيام علم الكيمياء الحديث كما يقول ديلاسي أوليري.
ولقد ترجمت مؤلفات جابر إلى اللاتينية في وقت مبكر بمعرفة “روبرت الشستري” (1144م) و”جيرار الكريموني” (ت1187م). وترجم أيضًا “مجموع الكمال” لجابر بن حيان إلى الفرنسية سنة (1672م)، ومثلت هذه المؤلفات، الأسس المهمة التي قام عليها علم الكيمياء الحديثة.
من كل ما سبق يمكننا القول، إن جابر بن حيان، صاحب مدرسة كيميائية ممتدة، قدمت إنجازات علمية موثقة (بتطبيق المنهج التجريبي)، وكانت بمثابة الأسس التي عملت على تطور الكيمياء الإسلامية فيما بعد عصر جابر، وأسست علم الكيمياء الحديث.
(*) أكاديمي وباحث مصري.