جاء النحو العربي بعد استقرار الأوضاع اللغوية في أرقى صورها المتجلية في إعجاز القرآن الكريم، والنصوص الحديثية، وسليقة العرب الأقحاح ليقوّم ما أصابها من فساد وخلط في القواعد، ومن شيوع أغلاط لغوية زادت حدتها مع تقدم الزمن ودخول غير العرب أفواجا إلى ملة الإسلام، و قد بدأ التأثر يسيرًا أيام الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم برز واضحًا أيام الخلفاء الراشدين، الشيء الذي أجج خوف المسلمين على القرآن الكريم، كيف لا ولغته هي العربية.
انطلاقًا من القرن الأول الهجري بدأ التأليف في القواعد اللغوية والنحوية وذلك بوضع أصول وضوابط لها، فكثر المشتغلون بها والمؤلفون فيها، وهكذا روى لنا التاريخ جهود العلماء في وضع مباحث هذا العلم – النحو – واستكمال قواعده إلى أن نضجت واستوت ونال قبولاً واسعًا وشرفًا عظيمًا بين المسلمين، حتى حُق أن يقال له “أبو العلوم العربية”.
ومن بين المهتمين بهذا العلم نجد محمد بن عبد الله بن عبد الله بن مالك العلامة جمال الدين أبو عبد الله الطائي الجياني الأندلسي .(600هـ/672هـ) قرأ كتب سيبويه على علي أبي عبد الله بن مالك المرشاني، صرف همته إلى إتقان لسان العرب حتى بلغ فيه الغاية وأربى على المتقدمين، وكان إمامًا في القراءات وعالمًا بها.
أما النحو والتصريف فكان فيهما ابن مالك بحرًا لايشق لجُّه، أما اطلاعه على أشعار العرب التي يستشهد بها على النحو واللغة فكان أمرًا عجيبًا، ومن أهم ما استحدثه ابن مالك في النحو توسيع دائرة السماع باعتماده على لغة الحديث الشريف . وهو عمل لم يُسبق إليه، وفي هذا المجال أضاف ابن مالك إلى النحو أساسا جديدا، ولم يكن عمل ابن مالك هذا تقريرا اعتباطيا لأنه برهن أن جميع الصيغ الواردة في الأحاديث النبوية الشريفة لها شواهد من أشعار العرب الذين أجمع النحويين على الاستشهاد بهم، وكأنه بهذا يرد على أولئك الذين جاؤوا من بعده ينكرون عليه الاستشهاد بالحديث بذريعة جواز روايته بالمعنى وفي كتابه” التوضيح والتصحيح لشواهد الجامع الصحيح” رد علمي وعملي على المخالفين في صحة عربية مختلف روايات الحديث.
لكن هذا الأمر لا يمنع من القول إن النحويين قبل ابن مالك قد احتجوا بالحديث الشريف، ومنهم : أبو عمرو بن العلاء والخليل والأصمعي وابن قتيبة وابن فارس والجوهري وغيرهم.. ويمكن القول بأنه لايختلف موقف النحاة عن موقف اللغويين، إذ لا يعقل أن يستشهد الخليل بالحديث في اللغة ثم لا يستشهد به في النحو، فاللغة والنحو صنوان يخرجان من أصل واحد وإن كان شواهد النحاة من الحديث ليست في كثرة شواهد اللغويين.
إن مسألة الاحتجاج بالحديث مسلم بها لدى النحاة المتقدمين ومن الأدلة على ذلك أنهم لم يختلفوا في هذه المسألة كما فعلوا حين اختلف البصريون والكوفيون في القبائل التي ينبغي الأخذ بلغاتها.
ففي كتاب سيبويه مثلاً نجده قد استشهد ببضعة أحاديث ولكن لم يشر إليها على أنها من الحديث بل على أنها من كلام العرب؛ ومن ذلك كلامه عن ضمائر الفصل.
واحتج الفراء بالحديث النبوي في مؤلفاته، ومن ذلك استشهاده على تأنيث (الضلع) بحديث النبي صلى الله عليه وسلم :{ خلقت المرأة من ضلع عوجاء}.
كما استشهد ابن جني بالحديث الشريف، بل إنه استنبط من الحديث الشريف قاعدة تصريفية فقد أجاز أن يحكم بزيادة الألف والنون في كل اسم مضاعف في آخره ألف ونون نحو: مُرّان، ورمّان، وعدّان، وإبّان، وإن لم يدل على زيادتها دليل من الاشتقاق.
وهكذا يتضح أن النحاة المتقدمين قد احتجوا بالحديث الشريف في كتبهم، وإن لم يتعرضوا للاحتجاج به منفردًا عن غيره من القرآن الكريم، وكلام العرب، ومع ذلك فإن استشهادهم بالحديث إذا قيس بغيره من كلام العرب كان قليلاً. ويرجع إقلالهم بالاستشهاد إلى أنهم لم يكونوا يرون أنه ضرب قائم بذاته كما هو الحال عند علماء الشريعة الذين وضعوا حديث النبي صلى الله عليه وسلم في مرتبة تلي القرآن الكريم؛ حين استنبطوا الأحكام. وأما النحاة فقد كانوا ينظرون إليه نظرة أخرى إذ جعلوه مندمجًا في كلام العرب؛ لأن الرسول الكريم عليه أفضل الصلاة والتسليم كان عربيًا، بل هو أفصح العرب قاطبة، ومن البداهة أن يستشهدوا بكلامه صلى الله عليه وسلم.
وبعودتنا إلى ابن مالك فقد كان أمة في الاطلاع على الحديث، فكان أكثر ما يستشهد به القرآن الكريم، فإن لم يكن فيه شاهد عدل إلى الحديث، فإن لم يكن فيه شاهد عدل إلى أشعار العرب. وهكذا كان ابن مالك يضع مراتبًا للاستشهاد في وضع القواعد مستهلاً إياها بالقرآن الكريم ثم الحديث الشريف ثم أشعار العرب.
وقد كان ممن أكثر الاستشهاد بالحديث الشريف، حيث فاق أصحاب هذا الاتجاه وبلغ الذروة من خلال كتابه” شواهد التوضيح” وكذلك من خلال كتابه ”شرح التسهيل”، إكثار ضاق به أبو حيان شارح التسهيل غير ما مرة، ومن ثم قال :” والمصنف قد أكثر من الاستدلال بما ورد في الأثر متعقبًا بزعمه على النحويين، وما أمعن النظر في ذلك، ولا صحب من له التمييز” وهذا أمر يحسب لابن مالك الذي كان ينهل من معين الاجتهاد حينما أضاف إلى الدراسات النحوية مصدرًا من مصادر الاحتجاج؛ وذلك باعتبار النبي صلى الله عليه وسلم أفصح العرب لسانًا، وأحسنهم بلاغة.
ويظهر من خلال هذه النظرة الموجزة أن الباحث المتتبع لابن مالك الجياني و مختلف اجتهاداته بدءًا بالألفية ومرورًا بباقي خدماته التي أسداها للغة العربية – وهو الذي استقر النحو على يديه في الأندلس – تترسخ لديه قناعة واضحة مفادها إلغاء الفكرة السائدة التي سادت عند بعض الباحثين والدارسين لعلوم اللغة العربية عامة والنحو العربي خاصة في كون علماء الأندلس إنما أخذوا العلوم من المشرق فقط، وعليه فلا يمكن لأحد إنكار ما جاء به علماء الأندلس من علوم في شتى الميادين التي لازالت راسخة ووضعت لها موضع قدم في مورثنا العلمي العربي .