نظرية المعرفة.. بين الفلاسفة اليونان والفلاسفة المسلمين

يهتم مبحث المعرفة أو ما يعرف بمبحث الإبستمولوجيا بدراسة المعرفة الإنسانية بصفة عامة، وحدودها والعلم من حيث شروط الصواب والخطأ فيه، أو الطرق المؤدية إلى اكتساب المعرفة.

ونظرية المعرفة  قديمة قدم الزمان عالجها فلاسفة اليونان من أمثال سقراط وأفلاطون وتلميذه أرسطو… وتعرض لها المسلمون بالدرس وبرز الاهتمام بها في العصور الحديثة، فكانت في مقدمة المسائل الفلسفية المطروحة. فكيف كانت نظرة فلاسفة اليونان لنظرية المعرفة؟ وكذلك المسلمون فلاسفة ومتكلمين ومتصوفة؟ وما هي نظرة محمد إقبال ؟ وما السر في إعادة طرح محمد إقبال لنظرية المعرفة؟

المعرفة عند اليونان

أفلاطون وأرسطو

 أولى فلاسفة اليونان عناية كبيرة لمبحث المعرفة فاعتبرها أفلاطون تذكارًا تحمله النفس من عالم المثل، أما تلميذه أرسطو فيرى أنها وليدة الإدراك الحسي والتجريد العقلي. وقد اهتم الرواقيون بمبحث المعرفة فذهبوا إلى أنها تعتمد على الحس مباشرة وصادرة عنه، وأن المعيار الصحيح فيها هو دائمًا الأخلاق والعمل، وذهب الأبيقوريون إلى أنه من دون المعرفة أيًا كانت درجتها من اليقين لا يمكن  للإنسان أن يعمل، فلكي يكون ثمة عمل لابد من القول بأن المعرفة ممكنة ولما كانت المعرفة اليقينية المطلقة غير ممكنة فالذي يجب أن يقال حينئذ هو أن المعرفة ممكنة هي المعرفة الظنية.

وهكذا يتضح لنا أن أفلاطون وأرسطو والرواقيون والأبيقوريون يؤمنون بإمكان قيام معرفة بشرية

ونجد بعض الفلاسفة يشكون في التوصل إلى حقائق الأشياء وأنكروا قدرة الإنسان على تحصيل العلم ، وعلى رأسهم الفيلسوف اليوناني بروتاغوراس (487 ق.م – 420 ق.م) الذي قال بنسبية المعرفة ونفى إمكان قيام معرفة بشرية.

ويمكننا تقسيم آراء فلاسفة اليونان حول نظرية المعرفة إلى قسمين:

الاعتقاديون الذين يرون إمكان قيام عرفان بشري، وأنه ليس للمعرفة الإنسانية نهاية تقف عندها حتى وإن قصر الإنسان في معرفة الكون بكل ما فيه فما ذلك القصور إلا نقص في عقله أو في طبائع الأشياء، وإنما هو قصور مرهون بزوال العوائق… وهذا الرأي أرسى قواعده سقراط وتلاميذه من بعده.

ويوجد الشكاك الذين يرون أنه ليس للجهل الإنساني بحقائق الأشياء حد يقف عنده، إذ لا وسيلة أمام الإنسان في وسعه التماسها ليعرف شيئًا خارج نفسه، ومنهم  الفيلسوف اليوناني يروتاغوراس وقد اختلف الفلاسفة كذلك في طبيعة الفلسفة فنسبها بعضهم إلى أشياء العالم الخارجي ، ونسبها آخرون إلى العقل وحده ونسبها غيرهم إلى الحدس.

وقد اختلفوا في مصادرها فقال بعضهم بالخبرة الحسية والحواس وعرف هؤلاء بالحسين أو التجريبيين، وقال غيرهم بالإدراك المباشر والعقل وهؤلاء هم العقليون، وجمع فريق بين الحواس والعقل وأخضع كل معرفة ناتجة عنهما إلى النقد وهؤلاء هم النقديون، وقال آخرون بالمعاناة وبالحدس وهؤلاء هم الحدسيون. فما موقف فلاسفة الإسلام ومفكريه من مسألة نظرية المعرفة؟

المعرفة عند فلاسفة الإسلام

اهتم فلاسفة الإسلام اهتمامًا ملحوظًا بمصادر المعرفة وطبيعتها وذلك استنادًا إلى أن  الإسلام يعترف بكل مصادر أو الوسائل المؤدية إلى تحقيق المعرفة أو العلم بأي أمر من أمور العقيدة والدين والحياة.

الكندي

فقد اعتبر الكندي أن الحس هو أحد المصادر الأساسية للمعرفة حيث يقول “وهو مشترك بين الإنسان والحيوان ولا مؤنة فيه ولا صعوبة، وهو يدرك المحسوسات المادية الجزئية الدائمة التغير التي لها صورة في المخيلة، والتي هي أقرب إلى الإنسان منها إلى حقائق الأشياء. والمعرفة الناشئة عن الإدراك الحسي غير ثابتة نظرًا لعدم ثبوت موضوعها من حيث الكيف”. كما  اعتبر العقل المصدر الثاني للمعرفة حيث عرفه بقوله “العقل جوهر بسيط مدرك للأشياء  بحقائقها”، وأضاف الكندي مصدرًا ثالثًا للمعرفة هو الوحي والإلهام وهذا يختص به الأنبياء وحدهم وأطلق على هذه المعرفة، المعرفة الإلهية أو العلم الإلهي، و هو هنا يكون قد احتفظ بثوابت العقيدة الإسلامية.

أما الفارابي فيؤكد في نظرية المعرفة على دور الحس وما له من أهمية إذ يقول “إن المعارف إنما تحصل عن طريق الحس فالمعاني والمقولات مصدرها ليس الألفاظ بل الأشياء الحسية و إدراك الحواس إنما يكون للجزئيات، وعن الجزيئات تحصل الكليات، والكليات هي التجارب على الحقيقة، وهذه التجارب هي أوائل المعرفة مبادئ البرهان”.

أما الوسيلة الثانية لتحصيل المعرفة عند الفارابي فهي العقل، حيث اهتم بها اهتمامًا كبيرًا، فوضع رسالة سماها “رسالة العقل” استعرض فيها ستة أنواع من العقول، و هي العقل بالقوة أو الهيولاني و العقل بالفعل والعقل المستفاد و العقل الفعال، وهي العقول الأربعة التي ذكرها أرسطو في كتاب النفس، بالإضافة إلى العقل الذي يقول به الجمهور بمعنى التعقل أي أنه يطلق على من كان فاضلاً جيد الرواية في استنباط ما ينبغي أن يؤثر من خير أو شر، و كذلك العقل الذي يردده المتكلمون حينما يقولون: هذا مما يوحيه العقل أو ينفيه أو يقبله أو لا يقبله و إنما يعنون به المشهور في بادئ الرأي عند الجميع أو الأكثر، ويربط الفارابي السعادة بالمعرفة العقلية، إذ بهذه المعرفة تستكمل نفس الإنسان حقيقتها.

ابن سينا

أما ابن سينا فالإدراك عنده يكون عن طريق الحواس، والحواس نوعان : ظاهرة و باطنة، و الظاهرة خمسة هي اللمس والذوق والشم والسمع والبصر. ثم هناك الحس المشترك، و لا عضو ظاهر له، و إنما هو نتيجة اشتراك الحواس الخمس “إذ لولا الحس المشترك ما كنا إذا أحسسنا بلون العسل إبصارًا حكمنا بحلاوته و إن لم نحس حلاوته”.

والطريقة الثانية لاكتساب المعرفة وهي المعرفة النظرية ولا يدركها إلا من وصل إلى مدينة العقل المستفاد. والطريق الثالث هو الحدس والإشراق وهي خاصة بمن منحوا القوة الحدسية أو العقل الحدسي وهم فئة قليلة من الناس: الأنبياء و الأولياء و المتصوفة الواصلون.