تنتمي فراشة الحرير المنزلية الشهيرة والمعروفة “بومبيكس موري” (Bombyx mori) إلى فصيلة “بومبي سيديا” وهي من طائفة الحشرات مفصليّة الأرجل، وتتبع رتبة قشريّات الجناح. وعادة ما يكون لون الفراشات البالغة صفراء اللون أو ما بين الصفرة والبياض، وذات جسم سميك به شعر، ولها جناحان يبلغ طوله حوالي 3,8 سم (نحو واحد ونصف بوصة) وتمتلك الفراشة فمًا بدائيًا وهي لا تأكل أثناء فترة بلوغها قصيرة الأمد، وتموت الأنثى بعد وضع البيض مباشرة بينما يعيش الذكر لفترة قصيرة بعد ذلك.
اليرقات والصيام
لمرة واحدة تضع أنثى فراشة الحرير ما بين 300-400 بيضة لونها يميل إلى الأزرق، وتقوم الأنثى بتثبيت بيضها على سطح مستوٍ عبر طريق مادة صمغية تفرزها، ولا تفقس البيوض بعد وضعها بأيام كما هو حال بيوض عدد كبير من الحشرات، بل تبقى في حالة نوم/ سبات، من نهاية فصل الشتاء حتى بداية فصل الربيع حيث تبدأ أوراق شجرة التوت بالنموـ يطلق اسم “دودة القز” (Silk worm) على اليرقة المنتجة للحرير ويبلغ طولها حوالي 0,6 سم (حوالي 0,25 بوصة) وبعد ستّة أسابيع يصل طول اليرقات البالغة 7,5 سم (نحو ثلاث بوصات) ويكون لونها رماديًا يميل إلى الاصفرار أو رماديًا غامقًا. ولليرقة خمسة أعمار يتخللها صيام لأربع مرّات، مرة بين كل عمرين وتستغرق فترة الصيام كلّ مرّة (24 – 48) ساعة حيث تمتنع اليرقات عن الطعام وعن الحركة. ويلاحظ أنّه بعد كل فترة صيام ينسلخ جلد اليرقات، ويتكوّن جلد جديد أكبر حجمًا يتلاءم مع ازدياد حجمهن.
حرير اليرقات وموت الفراشات
تتغذى اليرقات على أوراق نباتات التوت الأبيض أو البرتقال أو الخس. وتنتج يرقات دود القز التي تعيش على أوراق التوت أجود أنواع الحرير الطبيعي، ويقدم ورق التوت أربع مرّات/ يوميًا على شكل شرائح يتم فرمها بالسكين أو بواسطة فرّامات آليّة، ويزداد حجم الشرائح مع ازدياد عمر اليرقات، كما تزداد كميّة وجبة العشاء. وتتطلب تغذية دودة الحرير قدرًا كبيرًا من العناية والرعاية والصبر، ويعامل منتجو الحرير دود القز بحرص ولطف كعنايتهم بالأطفال حديثي الولادة، ويقومون بتربيته عند درجات حرارة محددة تتم بدرجة فائقة من التحكم، ويحمونه من البعوض والذباب وباقي الحشرات. أما “الحرير البري” (التوسة) فيـُستخرج من دود الحرير الذي يتغذى علي أوراق البلوط، وتنمو هذه الديدان إلى أحجام كبيرة خصوصًا في الصين والهند، ويصعب تبييض حرير (التوسة) لأن لونه الطبيعي بني أو أصفر غامق، كما أنه أقل لمعانًا من الحرير الطبيعي، ويستخدم حرير (التوسة) كنسيج حشو المنسوجات، ويخلط غالبًا مع ألياف أخرى.
وعمومًا بعد الفقس بحوالي ستة أسابيع تتوقف دودة القز عن الطعام وتبدأ في نسج الشرانق وتعيش خاملات داخلها أسبوعين، ثم تتحوّل إلى فراشات “ترفض ثوبها الحريري البراق” فتخرج منه، فتعيش مدّة قصيرة تضع خلالها البيض وتموت، ولما كانت عمليّة خروج الفراشات تؤدي لتمزّق الشرانق، وتقطّيع الخيط الحريري المتصل الذي يبلغ طوله (300 – 900) مترًا مما يفقده قيمته التجارية والصناعية. يعمد المربون إلى قتل الفراشات داخل شرانقها، وذلك بإحدى الطرق التالية: غمس الشرانق في الماء المغلي ثم تجفيفها، أو تعريضها لبخار الماء الساخن، أو وضعها في أفران ساخنة لمدة قصيرة، أو تعريضها لأشعّة الشمس المباشرة وتقليبها عدّة أيّام. لكن عند إنتاج الحرير لأغراض تجارية يسمح لعدد كاف من الفراشات البالغة بالخروج (سالمات) من الشرانق لضمان استمرار النوع والإنتاج.
” طريق الحرير” كيف ينسجن حريرهن؟
يوجد في فم دود القز زوج من الغدد اللعابية “غدد الحرير” وتستخدم في إنتاج الشرانق الحريرية وتقوم “الغدد الحريرية” بإفراز سائل صاف لزج يخرج عبر فتحات تسمى المغازل، وعندما يخرج السائل ويحتك بالهواء فإنه يتصلب، ويتحدد سمك خيط الحرير الذي يتم إنتاجه من خلال قطر المغزل. ويستخدم الحرير الطبيعي (حرير مزروع/ مستزرع وحرير بري) على نطاق واسع في صناعة المنسوجات الفاخرة، والمطرّزات، والخيوط الجراحيّة، ومظلاّت الطائرات، ويكفي معرفة قيمته العريقة بإنشاء “طريق الحرير” الشهير. الذي كان له أثر كبير على ازدهار كثير من الحضارات القديمة مثل الصينية والمصرية والهندية والرومانية حتى أنه أرسي قواعد نشوء العصر الحديث.
وهو مجموعة طرق مترابطة كانت تسلكها القوافل والسفن، ويمتد طريق الحرير من المراكز التجارية شمال الصين حيث ينقسم لفرعين شمالي وجنوبي، يمرّ الفرع الشمالي من منطقة بلغار- كيبتشاك عبر شرق أوروبا وشبه جزيرة القرم حتى البحر الأسود وبحر مرمرة والبلقان وصولاً للبندقية. أمّا الفرع الجنوبي فيمرّ من تركستان وخراسان وبلاد ما بين النهرين والعراق والأناضول وسوريا عبر تدمر وأنطاكية إلى البحر الأبيض المتوسط أو عبر دمشق وبلاد الشام إلى مصر وشمال أفريقيا.
وتستوقفنا حادثة شهيرة أطلت من خلالها قامة أحد “كبار صائدي” الميكروبات، إنه العالم الفذ “لويس باستير” فلقد طلب منه أستاذه القديم (دوماس) أن يطبب دود القز المريض في جنوب فرنسا. ويبحث عن حل لمرض “الندوة” الذي يتراءى على الدود في صورة بقع صغيرة سوداء كالفلفل، وقد دمر صناعة الحرير وتجارته. فحزم “باستير” أدواته، وثلاثة من أعوانه النشيطين، وكذلك أولاده وزوجته وسافر بهذه الحمولة كلها إلى حيث الوباء الفاتك بملايين من دود القز، فطاف “باستير” بالمناطق المصابة بالداء وألقي المحاضرات، وسأل الأسئلة، وعلم الفلاحين استخدام المجاهر. ثم عاد إلى معمله يوجه مساعديه ويزودهم بالنصائح، إلى أن تمكن من اكتشاف ميكروب المرض الفتاك وصاده بشباكه الفعالة. وتبقي يرقات فراشات الحرير نَسَّاجات بارعات على طريق الحرير بل إنهن “ملكات النسج” بلا منازع، إنه روعة التقدير في خلق يرقات الحرير.