الرفق بالحيوان.. ضرورة حياتية وتربوية

من بين المقاصد الكلية الضرورية التي دل الشرع الإسلامي على حفظها واعتبارها؛ “مقصد المحافظة على الكون” بمفهومه الواسع الذي يشتمل على كل ما سخره الله لخلقه من بحار وأرض وجبال ومعادن وطبيعة. فما يحصل اليوم في حياة الناس من جراء التفاعل غير الصحيح مع الكون، وما تعانيه البشرية من تلوثات ومجاعات وتهديد بنفاد المسخرات الإلهية، إنما يعبر عن جهل الناس لمقاصد الشارع الحكيم، كما أوضحتها الديانات السماوية عامة والدين الإسلامي على وجه الخصوص، والتي دلت على حفظ الدين والنفس والعقل والمال والنسل، كما دلت على حفظ الكون. فهذه الأخيرة تؤدي غرضين في موضوع الاستخلاف: التسخير المادي وما يشتمل عليه من خيرات هي قوام العمران البشرى، والبناء الحضاري في جانبه المدني والمعاشي.

إن مقاصد الشارع في الكتاب والكون والأنفس، وُضعت لتحقيق مصالح العباد في الدارين، وبها سيحصل الاستخلاف الذي وجد البشر من أجله. ومن ناحية أخرى فالبيئة بمعناها الشامل، قد تبدو في الظاهر أن لا علاقة لها بالأفراد من حيث دخلهم أو سكنهم أو رفاههم، ولكن تلوث البيئة أو الإخلال بها، من العناصر التي تنقض على الناس في مختلف دولهم وفئاتهم الاجتماعية دون استثناء وتنغّص عليهم حياتهم. بل أصبح من المؤكد أن أمراضًا بعينها هي نتاج حتمي للعبث بالبيئة أو إضرار بإحدى مكوناتها. وهناك في الحقيقة تساند بيئي في إطار معيشة الإنسان، فهو يعيش في إطار أنظمة رئيسية ثلاثة ليس له مخرج منها، لأنها تتحكم في حياته تحكمًا كاملاً، وتتفرع منها وتحيط بها أنظمة فرعية شتى.. وأما الأنظمة الثلاثة الرئيسية هي النظام البيولوجي، والنظام التقني، والنظام الاجتماعي.

وعندما استيقظ وعي الإنسان بالطبيعة المحيطة به، اكتشف في الوقت نفسه تبدل علاقاته بها؛ إذ وضع نفسه خارجها لكي يراها على نحو أفضل، ولكنه نمى آنذاك ميلاً ضارًّا إلى رؤية نفسه مستقلاًّ عن الطبيعة، مما أفضى إلى فصم روابط التضامن القوية التي كانت تربط بين الإنسان وبيئته. ونجد أن الرؤية الإسلامية للإنسان والكون تعيد عُرى الترابط بينهما، وتوجد وشائج القربى بين ذلك الإنسان الذي هو خليفة الله في الأرض، وهذا الكون المسخر لخدمته ومساعدته على تحقيق رسالته.

وإن الإنسان وسط هذا المثلث من الأنظمة الثلاثة هو الفاعل الرئيسي، ونشاطاته في شدة أو خفوت التفاعل بين عناصرها سلبًا أو إيجابًا. فالإنسان هو المبتكر والمطوّر للنظام التقني، وهو القائد في النظام الاجتماعي؛ فقراراته -هنا وهناك- تؤثر في النظام الحيوي، وإن آثار قراره على استخدام الطاقة النووية لإنتاج الكهرباء غير آثار قراره عند استخدامه مساقط المياه أو الفحم الحجري لإنتاج الكهرباء. فالأنظمة الثلاثة إذن، تتفاعل من خلال قرارات الإنسان، ونتائجها تعود للتأثير على حياته. فالإنسان هو سبب تلك المشكلات البيئية، وهو هدفها أيضًا، وبالتالي فإن وعيه هو الأساس في تنظيم تفاعلات عناصرها.

وسوف نتوقف في بحثنا هنا عند جزء هام من بيئة الأرض المحيطة بالإنسان، وهو الخاص بـ”عالم الحيوان”، وكيف ينتظمه الإسلام في بيئة الكون البيولوجية والتي تحتاج إلى الرعاية والاهتمام، ويعتبر ذلك جزءًا أساسيًّا من اهتمام الإنسان المسلم بالطبيعة والكون وبالحياة المحيطة به، والتي هي في أمس الحاجة إلى رعايته واهتمامه.

إن للحيوان حق الرحمة والرأفة والاهتمام بالرعاية والعناية كحق الإنسان، وذلك لما له من خصائص وطبائع وشعور لا تقل عما لدى الإنسان، والشاهد على ذلك قصة النبي سليمان عليه السلام مع النملة التي كانت تحذر قومها من أن يطأهم سليمان وجنوده بالوادي، فتبسم إليها ضاحكًا، وجلس تحاوره ويحاورها بوحي من الله تعالى، لأنها وأمتها خلق من خلق الله.

والرحمة بالحيوان خُلقًا يوجب المغفرة، كما أن الإسلام قد كرّم الإنسان أحسن تكريم، بل إنه لا يقف عند هذا وإنما نجده قد حرّم تعذيب الحيوان، وجعل ذلك موجبًا من موجبات عذاب الله. فكما أن تحمّل الحيوان فوق طاقته مُنكر قد حاربه الإسلام واستنكره، نجده كذلك قد حرّم -في إطار حقوق الحيوان- إجاعته وتعريضه للهزال والضعف والتلف. فقد مر رسول الله صلى الله عليه وسلم ببهيمة قد لصق ظهرها ببطنها، فهاله ما رأى من خرق حقوق هذا الحيوان، فانتفض غاضبًا وقال: “اتقوا الله في هذه البهائم المعجمة فاركبوها صالحة وكلوها صالحة” (رواه أبو داود).

ولذلك يقول الدكتور عبد الواحد بوشداق في بحثه عن”حقوق الحيوان في الإسلام”: “ومما يستفاد من هذا الحديث، أن النفقة على الحيوان واجبة على صاحبه، ومما استخلصه الفقهاء كذلك أنه يُجبر كل من امتنع عن إطعام الحيوان على بيعه أو الإنفاق عليه أو ذبحه.

ويذكر التاريخ أن الخليفة عمر بن الخطاب  كان يسير يومًا وهو يتفقد أحوال الرعية، فرأى رجلاً يسحب شاة برجلها ليذبحها، فهاله ما رأى من إساءة بالغة في حق شاة بكماء، فقال له: “ويلك قدْها إلى الموت قودًا جميلاً”. ومما قرره فقهاؤنا من حقوق للحيوان، أنه إذا لجأت هرة عمياء إلى بيت شخص وجبت نفقتها عليه، إذ لم تقدر على الانصراف.

ولقد نال الرفق بالحيوان اهتمام الدولة الإسلامية ومؤسساتها الاجتماعية؛ فقد كان الخلفاء يذيعون البلاغات العامة على الشعب، يوجهونهم فيها إلى الرفق بالحيوان ومنع الأذى عنه. فقد أذاع  عمر بن عبد العزيز في إحدى رسائله إلى الولاة، أن ينهوا الناس عن ركض الفرس في غير حق، كما كتب إلى أصحاب السكسك (النخاسون) ألّا يسمحوا لأحد بإلجام دابته بلجام ثقيل أو أن ينسخها بمرفقة في أسفلها حديدة.

وقد ورد في كتاب “نهاية الرتبة في طلب الحسبة” لـ”الشيرازي” أنه كان من إحدى وظائف المحتسب، أن يمنع الناس من تحميل الدواب فوق ما تطيق، أو تعذيبها، أو ضربها أثناء السير، ومن يراه يفعل ذلك، أدّبه وعاقبه. ومن الطريف أن المسلمين جعلوا نوعًا من الوقف مخصصًا للعناية بالحيوان.

وقليل من الناس يعرف أن أرض معرض دمشق الدولي سابقًا، هي في الأصل وقف مخصص للحيوانات الأليفة الهرمة التي لم تعد نافعة لخدمة الإنسان، إذ كانت هذه الحيوانات تترك طليقة في ذلك المرج الأخضر، لتأكل من الحشيش الذي يزرع لها سنويًّا، وتشرب من مياه بئرها الجارية، وتستمر في تلك الحياة الرغدة الناعمة دون أن تكون عالة على أصحابها حتى يأتي أجلها. وما أبعد الفرق بين أن يُقتل الحيوان الهرم، وبين أن يترك آمنًا في مرج وقفي.

إن للحيوان في حياة الإنسان دورًا تربويًّا واضحًا، خاصة في مجال التعلم، وفي التأثير الأخلاقي والقيمي والنفسي.. إن الأطفال لا يتعلمون من البشر فقط، ولكنهم يتعلمون أيضًا من الحيوانات. والحيوانات حاضرة في حياة الأطفال بشكل كبير، سواء الذين يعيشون بالقرب منها في الأرياف والغابات والحقول، أو الذين يعيشون في المدن الحضرية.

دراسة الإنسان للحيوان مورد رائع للبحث في المستقبل، فثمة سلوكيات كثيرة في الحيوانات يمكن رؤيتها بسهولة وعرضها للأطفال في صور قصصية لتعليمهم قيم التعاطف، والمهارات التفاعلية، واحترام الآخرين، والوعي الذاتي والاجتماعي.

وهي مهارات مفيدة خصوصًا لدى الأطفال ذوي العاهات الخلقية، وكذلك لدى أصحاب حالات التوحد من الأطفال، وسوف يتعلم الأطفال قراءة الإشارات غير اللفظية، ولغة الجسد، ومن ثم يرتقون إلى قراءة الإشارات غير اللفظية لدى البشر، حيث يمكن للحيوانات أن تبين لنا كيف نرى العاطفة ونعبّر عن المشاعر، ونتواصل مع الآخرين دون كلمات.