هل تشعر في بعض الأحيان أنك مراقَب؟ .. أن أحداً يرمقك بنظراته؟.. يسترق السمع يحاول التقاط ما يتلفظ به لسانك ؟.. يسير خلفك مقتفيا أثرك ؟..هل مررت بتجربة كهذه؟..
إذا كانت الإجابة نعم؛ فما رد فعلك تجاه هذا الظل ؟.. ما الشعور الذي يهيمن عليك؟..هل المتعة؟ أم الضيق؟..
لا شك في أن الإنسان – بصفة عامة – يحتاج إلى الحضور .. أن يشغل مساحة ترضيه في عقول الآخرين وقلوبهم.. أن يكون محط أنظارهم..اهتمامهم..أحاديثهم..حياتهم الداخلية التي يحيون فيها مع خواطرهم، وهذا لا يأتي من فراغ إنما يترتب علي العلاقة التي تحكم صلتك بالعالم، ما ترسله إليه من أفعال وما تتلقاه منه..كل هذا لايحول دون القول:إن الإجابة عن السؤال السابق لن تكون ثابتة، بل ستختلف باختلاف المواقف وطبائع البشر.
هذا ما نحاول أن نضع أيدينا عليه من خلال متابعتنا لهذا العالم الإبداعي المصغر “الآخر” لدي الأديب محسن خضر وهي قصة قصيرة ضمن مجموعته القصصية “سأعود متأخرًا هذا المساء” التي نشرت في سلسلة أصوات أدبية عام 1994 ضمن إصدارات الهيئة العامة لقصور الثقافة.
عندما تقرأ هذه القصة ربما يتبادر إلى ذهنك علي الفور عشرات التجارب التي قد تكون عايشتها مع بعض المقربين منك أو خضتها أنت بنفسك وكنت أنت بطلها أو شاهدتها علي شاشة السينما أو التليفزيون أو عرضت عليك مقروءة.. وجميعها تقريبًا يبدأ بالتعبير “واحد صاحبي حصل له..” أو “واحدة صاحبتي حصلت لها..” .. إن هذه حيلة فنية بارعة يلجأ إليها البعض لإخفاء تجاربهم الحقيقية عن الآخرين متظاهرين بأن ما يقصونه عليهم قد وقع لغيرهم، ألا تذكرين أنتِ مواقف من هذا النوع مع صديقاتك في المرحلة الثانوية أو في مرحلة الجامعة؟..
إن بطل قصة الآخر يتحدث بضمير المتكلم عن شخص ما، يقوم هذا الشخص بمراقبته يسير معه ملازما إياه كظله يرصد أفعاله وحركاته بشكل مفصل دون أن يترك لبطل قصتنا فرصة للهروب أو الفكاك لدرجة أن هذه العملية – أي المراقبة – قد تحولت إلى سلوك مشترك؛ فكما أن هذا الآخر يراقب البطل فإن البطل يلجأ إلى مراقبته أيضا..
” لمت من اختاروه لمراقبتي.. أعترف أن ظهوره المفاجيء بدد حالة الملل في حياتي وأكسبها طعما مغايرا.. حفظت ملامحه إلي الدرجة التي رسمتُ وجهه عشرات المرات علي الورق في المنزل والشركة.. أتسلي عشرات المرات بمراقبته من جانب نافذة مكتبي بالشركة أو من وراء ستائر غرفة النوم.. أعترف بتفانيه في عمله وأمانته في أداء مهمته.. نتبادل المواقع: يراقبني في الطريق وأراقبه من داخل شقتي أوعملي؛ أليس من حقي أن أتلصص عليه كما يفعل وأرصد حركاته وعاداته ولوازمه الدقيقة بالمثل؟..” من قصة الآخر في مجموعة سأعود متأخرا هذا المساء ص94 ،95.
هل تلاحظ معي أيها القاريء هذا التناوب والتجاور المثير بين ضمير المتكلم وضمير الغائب في هذا النص؟ بين الـ(أنا) المتكلمة التي تشير إلي شخصية البطل والـ(هو) الذي يرمز إلي هذا الآخر الغائب؟.. إن هذه الحالة تسمي بـ(الالتفات).. تخيل نفسك أمام كاميرا وأنت تمثل مشهدًا في فيلم أو مسلسل ستجد هذه الكاميرا تركز عليك أحيانا وعلى الآخرين الموجودين إلى جوارك أحيانًا أخري.. إن هذه العملية ليست ببعيدة عن سياق الحياة الواقعي؛ فأنت بين الناس تكون في منطقة الضوء أحيانًا وفي أحيان مغايرة تنصرف هذه الأنظار التي كانت مسلطة عليك في وقت ما متحولة إلى غيرك.. وهذا حالك أيضا مع الناس تطوف بعدستك التي تري بها بين أجزاء العالم المحيط دون أن تتجمد بشكل دائم عند شيء بعينه مهما كانت درجة جاذبية هذا الشيء بالنسبة لك .
إن الإبداع على اختلاف أشكاله يدرك هذه المسلمة الواقعية وهاهو ذا محسن خضر في قصة الآخر يوظفها في سبيل التأكيد على الفكرة التي يمكن التقاط أجزائها من النص السابق.. إننا أمام مطاردة طرفيها: ذات وآخر ، فالآخر يطارد البطل المتكلم (الذات) والبطل المتكلم يطارد هذا الآخر في الوقت ذاته.. ويبدو أن هذه العملية مستمرة – إلى حد كبير – يدل علي ذلك الأفعال المضارعة في هذا النص
“أتسلي..أعترف..نتبادل..يراقبني..أراقبه..أتلصص..أرصد..”..
إن هذا الاستمرار يؤكد أيضا على فكرة الملازمة؛ فكل من الذات(الأنا) والآخر(الهو) لا يبرح الآخر وهذا يعني أنك لست بمعزل عن وعي الآخرين حتي وإن تظاهروا بتجاهلك؛ فكل منا قد يجد متعة بدرجة ما في الابتعاد عن واقعه الشخصي وعالمه الفردي الخاص بمحاولة اقتحام عوالم الآخرين متلذذا بمتعة المشاهدة.. بموقع المتفرج علي مشاهد من الحياة أقرب إلى ما نشاهده في السينما أو المسرح نري فيها الغير يؤدي دور البطولة قد نضحك أحيانًا.. نسخر أحيانًا.. نتعاطف أحيانًا.. نرفض أحيانًا.. وقد نبكي في أحيان أخري حتي نغسل بعضًا من أحزاننا وهمومنا وفي هذه اللحظة بالذات نصبح علي يقين أننا لسنا وحدنا في هذه الحياة الذين يتألمون بل هناك آخرون مثلنا وقد يكونون أكثر منا في معاناتهم.
إن محسن خضر في إطار ثنائية (الذات والآخر) يؤكد على أن حياتك أيها القاريء مواقع فأنت في عالمك الخاص بك البطل وفي حياة الآخرين مهما بلغت درجة معايشتك لهم واقترابك منهم المشاهد.. إذًا فأنت في هذا السياق الإنساني الكبير الرائي والمرئي في الوقت نفسه، الذي يضع الآخرين تحت مجهره الخاص بانيًا علي ذلك مواقف ووجهات نظر.. لكنه في اللحظة ذاتها يقع تحت سمع الآخرين وأبصارهم، يشاهدونه.. يستمعون إليه.. يؤيدون ما يصدر منه حينًا وقد يسخرون منه أو يرفضونه حينًا آخر..
لكنك حينما تعاود قراءة قصة الآخر مرة ثانية والنص السابق على سبيل المثال يمكنك أن تكتشف أن هذا البطل الذي يتحدث أمامك بضمير المتكلم والآخر المشار إليه بضمير الغائب شيء واحد.. وهذا يذكرك بالتعبير “واحد صاحبي حصل له كذا..” و“واحدة صاحبتي حصلت لها كذا..” إن المبدع لجأ في الحقيقة إلي الحديث عن نفسه من خلال ما يسمي بـ(الإسقاط) أي عندما تسقط علي شخص أو شيء ما في الخارج ما بداخلك أنت من أفكار..خواطر..هواجس..انفعالات، هكذا فعل محسن خضر في قصة الآخر؛
إن هذا البطل الملازم له دائمًا الذي يراقبه وقد رمز إليه في إبداعه بضمير المفرد الغائب ما هو في الحقيقة إلا هذا الإنسان الكامن بداخل كل واحد فينا، نحاوره أحيانا.. نناقشه..نجادله ، وقد يصل الأمر إلى حد الصراع والشجار مع هذه الذات الساكنة فينا، إنها الإنسان الوحيد الذي لا ينفصل عنا أبدًا؛ لذا فهو يعرف عنا كل شيء.. يلامس أعماقنا من الداخل..الوحيد الذي يعرف حقيقتنا يدرك متي وأين وكيف ينفصل ظاهرنا عن باطننا حينما نتظاهر أمام الآخرين بعكس ما تضمره نفوسنا.
إن هذا الإسقاط المتجسد في إبداع محسن خضر يأخذنا إلى حالة أخري تحدث عنها علماء النفس ألا وهي “الفصام” أو”الشيزوفرينيا” فهذه المطاردة المتبادلة بين البطل والآخر هي في الحقيقة تشكيل درامي لحالة الانفصال عندما يشعر الإنسان أنه في حالة ابتعاد عن عالمه.. عن بنائه الشخصي: الفكري والعاطفي.. هذا التفكك للشخصية قد يكون بوعي أو بغير وعي..المهم أن الشخصية عندما تشعر في وقت ما بعجز عن التواصل مع عالمها الخارجي ومع المحيطين بها وعدم قدرة في الوقت نفسه علي التصالح مع حياتها الخاصة قد تصاب بهذه الحالة.
لكن إبداع محسن خضر يسعي بالتشكيل الدرامي لهذه الحالة أن يؤكد لنا على هذه الثنائية الإنسانية التي سبق ذكرها ألا وهي “الرائي والمرئي” .. يجب أن تدرك جيدًا طبيعة ما تقوم به من أدوار في هذا العالم.. قيمتها..الأثر الناجم عنها لأنك في هذه الدنيا لست وحدك ولست بمعزل عن السياق المحيط بك وكل ما تؤديه من أفعال يؤثر بدرجة ما في الواقع من حولك وبسبب هذا التأثير المرتبط بأدائك فأنت تحت رقابة الآخرين سواء أعطوك الفرصة لأن تدرك ذلك أم لا..
واعلم أن هناك رقابة من طراز خاص لن تستطيع الفكاك منها مهما حاولت ولن تستطيع أن تخدعها مهما كانت قدرتك على المراوغة إنها ذاتك الداخلية ضميرك الذي يعرف عنك أدق التفاصيل..
ولأن اللغة أداة فعالة نعبر من خلالها عن رؤيتنا للعالم ونقوم بتوظيفها كذلك في رسمه على الورق وتحويله إلى كلمات بإمكانها الحضور في مساحة أكبر من البشر والتواصل مع فضاءات زمانية ومكانية وسياقات ثقافية مختلفة فإن هذا التلازم الحاصل بين الذات الإنسانية وهذا الآخر الكامن بداخلنا قد تحول إلى تلاصق علي مستوى اللغة ولنتوقف مع محسن خضر عند هذين التركيبين في النص السابق من قصة الآخر:الأول “يراقبني” والثاني “أراقبه”.. إن التركيبين على المستوي الزمني ينتميان إلى المضارع ومن ثم فإنهما يعبران عن حال قائم ومتجدد.. أما عن الياء في التركيب الأول فهي إشارة إلي زمن المضارع وفي الوقت نفسه تعبر عن ضمير الغائب المفرد المذكر (هو) .
إن هناك ذاتًا فاعلة تقوم بفعل المراقبة هي هذا الآخر الـ(هو) الذي يتجسد لغة من خلال هذه الياء في الفعل “يراقب”..أما عن المفعول به الذي يقع عليه أثر هذا الفعل فهو ضمير المتكلم المعبر عنه بحرف الياء في التركيب “يراقبني” إنه هذه الـ(أنا) الواقعة في دائرة الضوء بالنسبة لهذا الآخر..تأمل معي أيها القاريء حرف الياء إنه في بداية التركيب يشير إلى الآخر.. الغير المحيط بك في عالمك وفي نهاية التركيب يعبر عن الـ(أنا) المتكلمة ألا يثير فيك هذا الأمر شيئًا؟.. إنها يا عزيزي اللغة التي يمكنها أن تحتوي العالم..أن تختزله.
إن اللغة وعاء يضم البشر والأشياء.. يحتضنها على ما بينها من تناقض..فالياء حرف من حروف اللغة وهي شاهد على أن هذه اللغة قادرة علي احتواء الثنائيات التي يتضمنها العالم..الأنا والهو (الآخر)..الأبيض والأسود..الحركة والسكون..الليل والنهار..
إن هذا التلاصق بين الياء الأولى المعبرة عن الآخر والياء الأخيرة المعبرة عن المتكلم في التركيب “يراقبني” تحيلنا إلى التلازم الحاصل بين كل واحد فينا وذاته الداخلية التي تكاشفه دائما..ترفع الغطاء عنه ويبدو أمامها بلا حجب تحول دون وقوفها – إلى حد كبير – على جواهر الأشياء المتعلقة به، وفي هذه المساحة الفاصلة بين الياء الأولى والياء الثانية في “يراقبني” تتشكل دراما المواجهة بين الطرفين؛ صراع الإنسان الداخلي..تفاعلاته الذهنية والعاطفية التي تؤثر في تقييمه لذاته وإعادة تشكيله لها..هنا يدخل التركيب “أراقبه” الذي تظهر فيه الذات المتكلمة أولاً من خلال حرف الهمزة ويأتي الآخر ثانيًا من خلال ضمير الغائب (الهاء) في نهاية التركيب.
إن هذا التركيب علي وجه التحديد يعبر عن هذا الدور الذي يقوم به هذا الآخر الساكن داخلنا تجاهنا، إنه هذه المرآة التي نقف أمامها لنري أنفسنا..نحاول أن نتلمس مواطن القبح والجمال في بنائنا الإنساني. إن هذا الآخر قد ظهر في اللغة من خلال ضمير اسمه (الهاء) وفي سياقنا الواقعي نطلق علي هذا الشيء الكامن داخلنا اسم الضمير أيضا أليس كذلك؟ إنه الموجه لنا..المرجع الذي نحتكم إليه إذا ما شعرنا أننا مهددون بالجنوح أوالانحراف عن الطريق الآمن المستقيم.
إن التركيبين “يراقبني” و“أراقبه” عند محسن خضر يعدان أدوات جمالية استعان بها هذا المبدع في رسم لوحة للذات البشرية داخل العالم في علاقتها بشقها الداخلي الذي جعل منه كاتبنا كيانا إنسانيا كامل التكوين تشكل بواسطة اللغة في كلمة واحدة هي “الآخر”.
ويبدو أن رسم هذه اللوحة ليس مقصورًا على ثقافة محددة أو إطار زمني بعينه ولنتوقف عند نموذج موجود في ثقافة اللغة الإسبانية، هل تعرف أديبًا اسمه “خوان خوسيه مياس”؟هل تعرف أن لهذا الرجل قصة قصيرة تلتقي – إلى حد كبير – علي مستوي الفكرة مع قصة الآخر عند محسن خضر؟ إن كانت إجابتك بنعم فما اسمها إذاً؟ إنها قصة “تناظر” التي تولى ترجمتها إلى العربية مع إبداعات قصصية أخري لأدباء من إسبانيا ومن أمريكا اللاتينية الأستاذ الدكتور محمد أبو العطا، والذي قام بنقل هذه الإبداعات إلي ثقافتنا العربية تحت إطار دلالي عام يحتويها هو “وفي جيبه المطر” وبطريقة تقدم لنا نموذجًا للمترجم المبدع الذي يتجاوز حدود النقل فحسب ليكون مثالا للشخصية الناطقة بصوتين: صوت اللغة التي يأخذ من ثقافتها وصوت اللغة التي تستقبل هذا الوافد في مزيج متجانس يمنح لكل ثقافة مدارها الذي تتحرك فيه بحيوية ليجتمع الاثنان في النهاية عند نقطة التقاء واضحة هي هذه الشخصية حلقة الوصل.
ومع خوان خوسيه مياس سنتوقف عند تشكيله لهذه الدراما المعتمدة علي المواجهة بين الـ(أنا) وهذا الآخر الكامن داخلها الملازم لها دائما..وقد وضع لهذه الدراما عنوان “تناظر” وهو اسم قصته القصيرة التي يمكن القول: إنها تأتي بموازاة “الآخر” عند محسن خضر..ألا تقودك هذه الكلمة؛ تناظر إلي شيء؟..إن من جيرانها في المعني (مناظرة)..عندما يتواجه طرفان في قضية ما كل طرف له أسانيده التي يحرص على البرهنة بها علي صواب موقفه في محاولة لكسب معركة يراها قائمة مع طرف آخر..ألا تري عزيزي القاريء أن معظم صراعات العالم بل جميعها – إن صح القول – تقوم على هذه المناظرة؟ كل طرف يري الحق معه لذا فإن عليه أن يصارع من أجل ضمان بقائه..إن المناظرة القائمة في واقعنا بتبعاتها السلمية وغير السلمية كان لها صداها في الإبداع الإنساني علي اختلاف أشكاله.
وهاهو ذا خوان خوسيه مياس يوظفها في تجسيد هذه المواجهة الكائنة على المستوي الفردي داخل الذات البشرية الواحدة مستخدمًا كلمة تناظر..إن الكلمتين: تناظر ومناظرة قد خرجا من جذر لغوي واحد هو الفعل (نظر) الذي يعني تركيز العدسة الرائية على الآخر المنظور..وأنت تعلم أن النظر مرتبط بالعين..والعين لها مكانها في مقدمة وجه الإنسان لذا لن يكون من العسير عليك أخي الكريم أن تربط بين النظر والتناظر والمواجهة التي هي مشتقة من الجذر اللغوي (وَجَه) ومصدره وجْه والوجه بالنسبة الإنسان يمثل أداة فعالة نستطيع من خلالها التمييز بين شخص وآخر..على كل حال فإن عنوان قصة خوان خوسيه مياس “تناظر” قد جاء علي وزن (تفاعل) وهذا الوزن في اللغة العربية يعني المشاركة أي أن كلا الطرفين المتناظرين يقوم بهذه العملية (المناظرة)؛ فإذا كان هذا الآخر الكامن بداخلك ينظر إليك..يراقبك فأنت بالمثل تفعل معه ما يفعله تجاهك.
ولنحاول أن نتعايش مع قصة خوان خوسيه مياس من خلال النص الآتي ” حسن لقد حرمني الشخص الوقح المذكور من متعة مشاهدة ذلك الفيلم التسجيلي المثير والمكثف الذي فاتتني منه بلا ريب أشياء كثيرة لكن الأنكي أنه بعد الخروج من السينما راح يتعقبني في كل شارع بوقاحة وخبث مثيرين، بوقاحة لأنه لم يفعل شيئا سوي النظر إليَّ وبخبث لأنه بدلا من أن يسير خلفي سار أمامي ولكنه كان دائم الالتفات وعلي وجهه تعبير ارتياب وكأنني من الأشقياء المعروفين أو شيء من هذا القبيل.أخفقت في التخلص منه بشتي الحيل ولكن يلاحظ أن الشخص أستاذ في هذا الضرب من المطاردات ولم أجد سبيلا إلي إزاحته عن كاهلي إلي أن توقف بعد ساعتين من مطاردة لا ترحم أمام قسم للشرطة ونبس بشيء إلي حارس البوابة مشيرا إليَّ وأنا واصلت التقدم دون أن أرتاب فيما كان ينتظرني، ما حدث أنني ما إن بلغت بناية الشرطة حتي استوقفني الحارس وسألني عن مبرر تعقبي ذلك السيد شرحت له دون أن أفقد أعصابي أو هدوئي أنه مخطيء فالمطارَد هو أنا ومع ذلك أجبرني علي الدخول ومعي الشخص الآخر الذي اتهمني أمام وكيل النيابة بأنني ضايقته بمرفقي وركبتي أثناء عرض الفيلم وبالسير وراءه طيلة المساء”
من قصة تناظر لخوان خوسيه مياس ضمن إبداعات قصصية أخري لأدباء من إسبانيا ومن أمريكا الاتينية بعنوان: وفي جيبه المطر، ترجمة: محمد أبو العطا، ص 44 45، سلسلة آفاق عالمية، إصدارات الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة،2007م.
إن البطل المتكلم كان يري ويُري في الوقت نفسه، انتبه معي إلى قول البطل متحدثًا عن ذلك الآخر الظل داخل القصة “..بدلا من أن يسير خلفي سار أمامي” إن السير للأمام يعطي إيحاء كما لو أن هذا الظل يعرف كل شيء عن هذا البطل: ماضيه، حاضره، وحتي مستقبله ودليل ذلك أنه يسير أمامه لا خلفه، إن السير للأمام يعني أنه يسبقه بخطاه وكأنه علي يقين مما سيقوم هذا البطل المتكلم بفعله..هذه الدرجة من الإدراك تجعلك مضطرًا لأن تعيد حساباتك جيدًا قبل أن تنجز أي فعل من شأنه أن يضعك في موقف لا تحسد عليه مع هذا الظل الساكن داخلك المراقب لك دائمًا.
إذًا فأنت عندما تتعمق في عالم خوان خوسيه مياس تجد أن بطله المتكلم هو الفاعل الرائي والمفعول المرئي معًا.. في أحيان كثيرة يحاول الإنسان التخلص من عيوبه وما قد يقع فيه من أخطاء بأن يرمي بها علي الغير في سعي من جانبه إلى تفادي مواجهة ربما لا يستطيع تحملها لأن نتائجها ستكشف عن واقع يسعي هو للهروب منه.. إن هذا الواقع الإنساني الحاصل والمتكرر بصفة دائمة حاول المثقف الأديب الذي يتجاوز بخطابه الإبداعي حيز ثقافته وإطاره الزمني المحدود متوجها به إلى الجماعة الإنسانية بصفة عامة أن يجسده في ثوب درامي يعكس هذه المطاردة بين الذات وكيانها الداخلي..هذا الصراع بين الطرفين..من المسئول عن الفعل؟ هل أنا؟.. أم هذا المحرك النابع من داخلي الذي يدفعني إلي القيام به؟..ما رأيك أنت؟..أحيانًا عندما يضيق الخناق علينا نقول: “غصب عني” أو نقول: “نعم أنا مخطيء ولكن فلانًا هو المسئول لأنه فعل أو قال كذا وكذا..” أو نلوذ بالصمت توخيًا للسلامة وسعيًا لتعمية الحقيقة.
إن الآخر عند محسن خضر وخوان خوسيه مياس محاولتين إبداعيتين لعلاج عيوب تعاني منها الذات الإنسانية على المستوي الواقعي..هذه العيوب قد تسجن الذات..تحتجزها..تحول دون انطلاقها داخل فضاءات العالم بوعي وبإيجابية..
وهذا ما حاول خوان خوسيه مياس التعبير عنه بطريقة رمزية عندما أشار إلى أن بطل قصته المتحدث بضمير المتكلم قد احتجزوه داخل قسم الشرطة “أما أنا فقد احتجزوني عدة ساعات، في نهاية الأمر أجبروني علي دفع غرامة..أطلقوا سراحي مع التهديد بمثولي أمام القضاء إذا عاودت الكرة..منذ ذلك الحين كلما طاردني..يلقون القبض عليَّ أنا” من قصة تناظر ص45 ،46.
..في النهاية ألم يحن الوقت بعد لأن نرفع من قاموس حياتنا قدر الاستطاعة تعبيرات مثل: “معلهش..ما كنش قصدي..غصب عني..لو كنت عملت كذا ما كنش حصل كذا..”؟