من الثابت تاريخيًا أن العرب عرفوا المكتبات في فجر الإسلام وقبل ظهور الورق ومما يؤكد ذلك ما ذُكر أن عبد الله بن العباس رضي الله عنهما حين توفاه الله أخرجو من بيته أحمال من الكتب.
وقد عني الخلفاء المسلمون منذ فجر العصر الأموي بالكتاب وتكثيره ونشره بين الناس، وعمدوا إلي إنشاء الخزائن التي تضم الكتب والدفاتر والسجلات، كما عنوا بالحصول على كتب العلم القديمة لتكون مرجعًا لهم ولأبنائهم، وكانوا يزودون المساجد الجامعة في كل إقليم بالخزائن التي تضم المصاحف وكتب العلم، وكان كثير من العلماء منذ زمن قديم يوقفون كتبهم وأوراقهم ومحفوظاتهم على خزائن المساجد ودور العلم يتقربون بذلك إلى الله ويرجون مثوبته ومرضاته، كما لجأ من أحب نشر العلم إلى إنشاء مكتبة يجمع فيها الكتب، ويفتح أبوابها للناس.
ومن أشهر المكتبات الخاصة في العصر الأموي:
أولاً: مكتبة خالد بن يزيد بن معاوية (13- 90هـ) حفيد الخليفة الأموي الأول معاوية بن أبي سفيان وابن الخليفة الثاني يزيد بن معاوية.
ثانيًا: مكتبة الإمام البارع أبو هاشم القرشي الأموي الدمشقي، أخو الخليفة معاوية والفقيه عبد الرحمن كان مهتماً بالعلوم وراعيًا للمشتغلين بها، وهو أول من اهتم من العرب بعلم الكيمياء وترجم فيه الكتب من اللغة اليونانية إلى اللغة العربية وألف فيه رسائل، وكانت مكتبته في مدينة حمص هي من بدأت عصر الترجمة في الإسلام.
ثالثًا: مكتبة الخلفاء الأمويين في قصر الخضراء في دمشق ويروي أن الخليفة عمر بن عبد العزيز أخرج منها كتباً في الطب استخار الله أربعين يومًا قبل أن يدفعها للناس.
المكتبات في العصر العباسي
كانت المكتبات أهم مظاهر الحضارة في العصر العباسي، فلقد شهد القرن الثالث الهجري (التاسع الميلادي) حركة مكتبية مزدهرة، فقد كانت معظم المساجد تضم مكتبات، وكانت لكل مدرسة مكتبة، وقد وجدت المكتبات عندما ظهرت أهمية السجلات المكتوبة في تنظيم العلاقات الإنسانية، كان الغرض من إنشاء المكتبات القديمة هو حفظ الوثائق والأرشيف لتيسير عمليات التجارة أو إدارة الدولة أو بث المعتقدات وتوصيلها إلى الأجيال المتعاقبة، أي أن المكتبة كانت دائما ولا تزال ثمرة للتنظيم الاجتماعي والبحث والدراسة.
وفي العصر العباسي انقسمت المكتبات إلى عامة وخاصة، العامة فقد كان ينشئها الخلفاء والأمراء والعلماء والأغنياء، وكانت تشيد لها أبنية خاصة، وأحيانًا كانت تلحق بالمساجد والمدارس، وقد كانت هذه المكتبات كثيرة جدًا بحيث كان من العسير أن تجد مسجدًا أو مدرسة دون أن تكون مزودة بمجموعة من الكتب يرجع إليها الطلاب والباحثون، أما الأبنية الخاصة بهذه المكتبات فكانت تشمل على حجرات متعددة تربط بينها أروقة فسيحة، وكانت الكتب توضع على رفوف مثبتة بالجدران، وكل حجرة تخصص لفرع من فروع العلم، فلكتب الفقه غرفة، ولكتب الطب غرفة، ولكتب الأدب غرفة وهكذا، وكذلك كانت المكتبات الخاصة فقد كان الكثير منها مبذول لمن يريد الاطلاع والعلم.
وكانت الكتب توضع على رفوف مثبتة للنساخ، وغرف للراحة وتجديد النشاط، وغرف لحلقات الدراسة والنقاش العلمي بين رواد تلك المكتبات، وكانت جميعها تؤثث تأثيثاً فخمًا ومريحًا، وكان في بعضها غرف طعام روادها ومنامة للغرباء منهم
ومن أشهر المكتبات الخاصة في العصر العباسي وما بعده:
أولاً: مكتبة القاضي ابن سوار بالبصرة : وهو عبد الله ابن سوار بن عبد الله بن قدامة الإمام العلامة القاضي (ت: 245هـ)، صاحب مكتبة عظيمة جمع فيها أشهر الكتب وأنفسها في عصره وهي مكتبة ذات شأن خاص، وكان التدريس فيها عنصر هام بجوار الكتب.
ثانيًا: مكتبة الجاحظ (159-255هـ): وهو أبو عثمان عمرو بن بحر بن محبوب بن فزارة الليثي الكناني البصري أديب عربي كان من كبار أئمة الأدب في العصر العباسي، ولد في البصرة وتوفي فيها، من أكبر المولعين بالكتب وقد جمع مكتبة عامة بالكتب النادرة النفيسة، قال بعض المؤرخين إن كتبه أدت إلى موته، فقد كان من عادته أن يصف كتبه فوق بعضها محيطة به فسقطت عليه فأصابته بشلل، ثم مات بعد ذلك.
ثالثًا: مكتبة خزانة الحكمة لعلي بن يحي المُنجم على بن يحي المُنجم: وهو أبو أحمد يحيى بن علي بن يحيى ابن أبي منصور، ابن المنجم الأديب الشاعر المتكلم النديم. أحد أعلام بني المنجم المعروفين بأدبهم وعلمهم وظرفهم ومنادمتهم للخلفاء العباسيين (241 -300هـ )، قال عنها ياقوت الحموي في معجم الأدباء: “وكان بكركر – قرب بغداد – ضيعة نفيسة للمنجم وقصر جليل فيه خزانة كتب عظيمة يُسميها خزانة الحكمة يقصدها الناس من كل بلد فيقيمون فيها ويتعلمون منها صنوف العلم والكتب مبذولة في ذلك لهم والصيانة مشتملة عليهم والنفقة في ذلك من مال على بن يحي”.
رابعًا: مكتبة دار العلم لأبوالقاسم الموصلي: وهو أبوالقاسم جعفر بن محمد بن حمدان الموصلي (240-323هـ) صاحب المكتبة العظيمة الشهيرة التي يقول عنها ياقوت الحموي: انه كان في الموصل دار أنشأها أبو القاسم جعفر بن محمد بن حمدان الموصلي الفقيه الشافعي، وسماها دار العلم، وجعل فيها خزانة كتب من جميع العلوم وقفًا على كل طالب علم، لا يُمنع أحد من دخولها، وإذا جاءها غريب يطلب الأدب وكان معسرًا أعطاه ورقًا وورِقًا (أي: كتابا ونقودا) وكانت دار العلم تُفتح في كل يوم ويجلس فيها إذا عاد من ركوبه، ويجتمع إليه الناس ويملي عليهم من شعره ومن شعر غيره.
خامسًا: مكتبة دار العلم بطرابلس- لبنان- أقامها الحسن بن عمار القاضي وحاكم طرابلس عام 473هـ. وكانت مكتبة ضخمة تحوي ثلاثة ملايين كتاب منها خمسون ألف نسخة من القرآن الكريم. وكان يعمل فيها مئة وثمانون ناسخاً، ثلاثون يعملون ليل نهار. وكان في طرابلس معمل لإنتاج الورق، ولها رجال يجوبون البلاد في شراء الكتب وكان يقصدها العلماء من كل مكان، وكان يسكن فيها طلاب ومدرسون.
سادسًا: مكتبة المبشر بن فاتك وهوالأمير محمود الدولة أبو الوفاء المبشر بن فاتك الآمري من أعيان أمراء مصر العبيدية وأفاضل علمائها. كان دائم الاشتغال محب للفضائل والاجتماع بأهلها وبماحثتهم والانتفاع بما يقتبسه من جهتهم وكان ممن اجتمع به منهم وأخذ عنه كثيرًا من علوم الهيئة والعلوم الرياضية، وكان صديقًا للطبيب علي بن رضوان واشتغل بالطب أيضا (ت 480هـ). كانت خزائن كتبه كبيرة العدد عظيمة القدر، وكان في أكثر أوقاته ليس له دأب إلا المطالعة والكتابة، ويرى أن ذلك أهم ما عنده، وكانت له زوجة كبيرة القدر من أرباب الدولة، فلما توفي نهضت هي وجواري لها إلى خزائن كتبه، وفي قلبها من الكتب، وأنه كان يشتغل بها عنها، فجعلت تندبه، وفي أثناء ذلك ترمي الكتب في بركة ماء كبيرة في وسط الدار هي وجواريها.
سابعًا: خزانة كتب المسجد الزيدي أنشأها أبو الحسن على بن احمد الزيدي وزير الخليفة المُستضيء بأمر الله العباسي حكم في بغداد بين عامي (566-577هـ) استطاع صلاح الدين في عهده استُعادت القدس جزئيًا ثم استعادها كاملة بعد حربه مع الصليبين في عهد ابنه الناصر لدين الله، وكان المستضيء نذر إن عاد إلى الخلافة التي عزل منها أن يرسل إلى الزيدي ألف دينار فلما عاد زادها ألفًا أخري فاشتري الزيدي دارًا وبناها مسجدًا ووقف فيها كتبه وكانت كثيرة وتلقت هذه الخزانة منحة مجموعتين من الكتب واحدة جاءتها من دمشق وقفها على المسجد أبو الخطاب العلمي الدمشقي
ثامنًا: مكتبة أبو الفضل المطرف وكان أبو الفضل المطرف ( 582-685 هـ) عالم فقيه أديب من عشاق الكتب، جمع منها في كافة العلوم ما لم يجمعه أحد في عصره بالأندلس، وكان له ستة وراقين ينسخون له دائمًا، وكان إذا علم بكتاب حسن عند أحد من الناس طلبة ليشتريه منه ويبالغ في ثمنه، وأوقف مكتبته على طلاب العلم في عصره.
تاسعًا: مكتبة شافع بن على الكناني الإمام الأديب ناصر الدين شافع بن علي الكناني العسقلاني المصري (649-730هـ) وكان جماعًا للكتب، خلف ثمانية عشر خزانة مملوءة كتبًا نفيسة أدبية، أصابه سهم في صدغه سنة 680هـ فكان سبب عماه، فلزم بيته وكانت زوجته تعرف ثمن كل كتاب، وبقيت تبيع منها إلى سنة تسع وثلاثين وسبعمائة وكان إذا لمس الكتاب وجسه قال: هذا الكتاب الفلاني وملكته في الوقت الفلاني، وكان إذا أراد أي مجلد قام إلى خزانته، وتناوله كأنه الآن وضعه بيده.
وقد سارت هذه المكتبات على نظام دقيق، كالذي قيل في مكتبة علي بن يحيى بن المنجم، فقد كان له قصر عظيم في ضاحية بغداد، جعله مكتبة وسماها خزانة الحكمة، يقصدها الناس من كل بلد، فيقيمون فيها، ويتعلمون فيها صنوف العلم، والكتب مبذولة في ذلك لهم، والأرزاق مغدقة عليهم، وكل ذلك من مال علي بن يحيى نفسه، وكان في الموصل دار أنشأها أبو جعفر بن محمد بن حمدان الموصلي، وسماها دار العلم، وجعل فيها خزانة كتب من جميع العلوم وقفًا على كل طالب علم، لا يمنع أحد من دخولها، وإذا جاءها غريب يطلب الأدب وكان معسرًا أعطاه صاحب هذه الدار ورقًا (كتباً ونقوداً) وكانت تفتح أبوابها في كل يوم.
الحضارة الإسلامية وعلم إدارة المكتبات
وقد توصل العرب قبل غيرهم من الأمم إلى علم إدارة المكتبات وتصنيف المؤلفات تصنيفا موسوعيًا ووظفوا بالمكتبة موظفون يرأسهم الخازن وهو أمين المكتبة والذي كان يُختار من أهل العلم والمكانة ومن أشهر خزان المكتبات في التاريخ الإسلامي سهل بن هارون وابن مسكوب وأبي يوسف الأسفراني وكان بكل مكتبة عدد من النساخين والمترجمين والمجلدين بالإضافة إلى عدد من المناولين الذين يحضرون الكتب للقراءة وقد أطلق عليهم اسم الخدم تميزا لهم عن الفراشين الذين يقومون بتنظيف فراش وأثاث المكتبة وقد زودت المكتبات بكل ما يحتاج إليه الباحثون والمطلعون من أدوات كتابية مثل الأقلام والأحبار والأوراق بل زودت أيضا بالمياه الباردة لراحة الباحثين والمراجعين والناسخين والمترجمين بل رتب فيها معلمون يدرسون للناس المعرفة والعلوم وكان يجتمع في هذه المكتبات صفوة العلماء والأدباء وتقام فيها الندوات والمناظرات.
ومن المعروف أن الحضارة الإسلامية قد أقامت نهضتها على أكتاف المكتبات وأن هذه المكتبات قد أقامت نهضتها على أكتاف النساخين والوراقين الذين اضطلعوا بنسخ الآلاف المؤلفة من المخطوطات والمدونات التي شملت كافة مجالات العلوم والمعرفة الإنسانية، فقد لعب النساخون والوراقون دورا كبيرا في نشر الثقافة فكانوا يلعبون دور آلات النسخ والطباعة التي نستخدمها في عصرنا الحالي بل كانوا مدرسة تخرج منها العلماء فكثير من المؤلفين بدءوا حياتهم كنساخ وكتبة ووراقين في قصور الخلفاء أو حوانيتهم التي أصبحت تشغل أحياء كاملة في كل مدينة عربيه.
يذكر اليعقوبي (ت: 278هـ/891 م) أنه كان في بغداد في القرن التاسع الميلادي (الثالث الهجري) أي بعد أقل من قرن من الزمان منذ أن أدخل العرب صناعة الورق، ما يزيد على المائة وراق استخدمت حوانيتهم في نسخ الكتب وبيعها والاتجار فيها، وأن محلاتهم كانت مراكز للنسخ وللخطاطين والمنتديات الأدبية، وكان كثير من طلاب العلم يكسبون عيشهم عن طريق نسخ المخطوطات وبيعها للوراقين، وألحق بأغلب الجوامع مكتبات عامة، وكان يوجد في بعض المدن مكتبات تضم كتبًا قيمة، يباح الإطلاع عليها للجميع.