حاجات الإنسان والمجتمع والأمة أربعة، هي الأمن والكفاية والصلاح والانتصار. بحصولها تتم النعمة وتستكمل الحقوق، لكن قد يعكر عليها أشياء مانعة تمنع منها، فيقع ضدها الخوف بدلاً من الأمن، والجوع بدلاً من الكفاية، والفساد بدلاً من الصلاح، والهزيمة بدلاً من الانتصار. والناس في العادة لا يلتفتون إلى السبب الحقيقي المانع، بل يبحثون عن أسباب ثانوية يحمّلونها وزر ما حل بهم. فما السبب الحقيقي لما يحل بالناس من أمور تمنع عنهم تلك النعم الأربعة، وتحل بهم النقم الأربعة، وما الأسباب الثانوية؟
لنقف أولاً على الأسباب الثانوية التي تقع على الناس فتمنع عنهم النعم، إنها بعد التأمل:
1- كوارث ومصائب طبيعية تنزل بالإنسان أو الأمة؛ فأما التي على الإنسان فهو ما يجده من الشؤم والعذاب في نفسه، من ضيق وقلق واكتئاب وضعف ووهن وعدم توفيق، كما قال تعالى: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا)(طه:124).
وأما التي على الأمم فتكون في صورة زلازل أو براكين أو أعاصير أو فيضانات ونحوها، تأخذ كثيرًا من الناس، كما قال تعالى: (فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ)(الأحقاف:24).
2- جور السلطان؛ فإما أن يكون جبارًا ظالمًا يسومهم العذاب، أو مضيعًا للأمانة.
3- عدوان معتد، فيحتل الأرض، ويسلب المال، ويستولي على الأملاك.
هذه أسباب مباشرة للنقم الأربعة المانعة من النعم الأربعة، وهي أسباب ظاهرية يقف وراءها سبب غير مباشر هو أصل البلية وسبب النقمة. ولمعرفة ما هو، علينا العودة إلى كتاب الله تعالى بالتدبر والتأمل، فإنه فيه هداية ترفع الضلالة، وشفاء ورحمة ترفع العذاب، وعلم يرفع الجهل، يقول الله تعالى: (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ)(الإسراء:9)، (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ)(النحل:89).
وإذا ارتفعت الضلالة والعذاب والجهل، ذهبت النقم الأربعة التي هي الخوف، والجوع والفساد والهزيمة. فهذا القرآن ينبؤنا أن لديه حلاًّ وعلاجًا لمشكلاتنا الكبرى، فماذا يقول فيها؟
يقول: إن ما يلحق بنا من نقم سببها منا؛ من أنفسنا، قال تعالى: (وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ فَأَذَاقَهَا اللهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ)(النحل:112)؛ بينت الآية سبب زوال نعمتي الأمن والكفاية، إنه الكفر بأنعم الله. فلما كفرت ألبسها لباس الجوع بدلاً من لباس الشبع، ولباس الخوف بدلاً من لباس الأمن، وكفرانها إما جحودها نعمة الله عليها بالادعاء أنها حصلت نعمها بقوتها وحيلتها، كقوله: (قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي)(القصص:78)، أو نسيانها شكر الله تعالى على ما أنعم؛ بالقيام بحقها من طاعة وترك معصية.
آية أخرى في المعنى أيضًا، قوله تعالى: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)(الروم:41)؛ سبب فساد البر والبحر هو ما كسبت أيدي الناس من الخطايا، وهذا تعبير قرآني؛ أي ما وقعوا فيه من الذنوب باختيارهم وإرادتهم وهواهم. وآية ثالثة قوله تعالى: (أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ)(آل عمران:165).
هذا في معركة أحد، كان المسلمون من النصر قاب قوسين أو أدنى، وكان الرماة على الجبل، قد أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا يبرحوا مكانهم ولو تخطفهم الطير، فلما رأوا المشركين مدبرين تاركين وراءهم السلاح والمال، نزلوا عن الجبل يبتغون الغنائم، فدار المشركون من ورائهم فصعدوا الجبل، فأعملوا فيهم بالسلاح، فقتل منهم من قتل. فكان سبب هزيمتهم عندئذ هو إقبالهم على الغنائم، وتركهم وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدل هذا على أن الإقبال على الدنيا -بتقديمها على أمر الله تعالى- يورث الهزيمة.
ثلاث آيات بينت لنا بيانًا شافيًا كيف تزول النعم، وتحل النقم، فهي:
1- كفران النعم بجحودها أو نسيان شكرها، فهذه تورث الخوف والفقر.
2- اكتساب الخطايا بالأيدي، وهذه تورث فساد البر والبحر والجو والحال.
3- الإقبال على الدنيا، وهذه تورث الهزيمة بيد الأعداء.
كما بينت طريق التخلص والوقاية من هذه النقمة، وذلك باجتناب هذه الأسباب المشؤومة.
إن القرآن خط قاعدة تبين سبب كل تغير يلحق بالناس، سواء من النعمة إلى النقمة، أو من النقمة إلى النعمة، حين قال سبحانه: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ)(الأنفال:53)، وقوله: (إِنَّ اللهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ)(الرعد:11).
إذن، ابتداء التغيير يكون من النفس ذاتها، فلا يغير الله تعالى على إنسان حالاً هو فيه، أو الأمة حالاً هي فيه، حتى يكون البدء من النفس لا من الله تعالى. فقد يكون الناس في نعمة تامة استوجبوها بإيمانهم وصلاحهم وكفهم عن الخطايا، فإذا ما غيروا إلى الكفران والفساد واقتحام الذنوب، استوجبوا حينئذ تغيير ما بهم من نعمة إلى نقمة، والعكس صحيح. لن يغير الله ما بهم من نقمة إلا إذا غيروا ما بأنفسهم من كفر بائس وعمل ساقط.
وهذه قاعدة قرآنية في حق المؤمنين، أما المجرمون فلهم قاعدة أخرى؛ يمدهم بكل ما يشتهون، يجمع عليهم حججًا ليوم القيامة ليشتد عليهم العذاب يومها، كما قال تعالى: (لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلاَدِ مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ)(آل عمران:196-197). فأما المؤمنون فإنه يبادرهم بعقوبته في الدنيا لأمرين:
الأول: يكفّر بها خطاياهم تلك إنْ هم احتسبوا وصبروا على ما أصابهم لعلمهم أنه منهم.
الثاني: يمنع عنهم بعذاب الدنيا عذاب الآخرة الذي هو أشد، فمن عوقب هنا أمن هناك: (لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلاَ أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا)(النساء:123).
من الآيات القرآنية التي تبين سبب تحصيل النعم، آيات الاستغفار. قال الله تعالى: (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا)(نوح:10-12).
نعمة الكفاية في الرزق في هذه الآية بادية، بل ما نزلت إلا لها. فملازمة الاستغفار يورث الغنى بالمال والولد، والمساكن الطيبة في مواضع هي جنات فيها ثمر ونهر. وقال تعالى: (وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ)(هود:3).
ذكر هنا ثمرة الاستغفار وهي المتاع الحسن، وبه تحصل الكفاية في الرزق، والصلاح في أحوال الناس، فلا فساد بينهم يفسد على المرء هذا المتاع الحسن. وذكر من ثمرة الاستغفار (وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ)؛ أي كل صاحب له حق يأخذه بلا عنت ولا خوف، فهذا به يحصل الأمن على الحقوق.
وفي آية ثالثة بيان لفضل الاستغفار أيضًا في تحقيق ما يرجوه الناس، قال تعالى: (وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلاَ تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ)(هود:52)؛ في هذه الآية ذكر نعمة المطر، وبها تحصل الكفاية في الرزق، ثم ذكر القوة ثمرة للاستغفار، وبالقوة يحصل الأمن والانتصار على العدو. وهكذا تجتمع كافة النعم الأربعة وهي؛ الأمن والكفاية والصلاح والانتصار، تحت ظلال الاستغفار الذي معناه طلب الوقاية من آثار الذنب.
هذا سبيل القرآن لمن أراد صلاح حال نفسه، أو حال الناس والأمة؛ أن يبدأ من النفس: (حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ)(الرعد:11)، ولا يبدأ من خارج كما يبدأ ويتقدم به أكثر الناس، فإنهم إن رأوا خللاً عالجوه من فروعه الظاهرة، وغفلوا وجهلوا جذوره الباطنة؛ لذا لا تنجح محاولات الإصلاح لديهم، فتبقى قاصرة عن بلوغ الكمال أو المرجو، كمن يظن أن إصلاح الأمة المنحطة والمتأخرة والمغيبة، يبدأ من تغيير الحاكم. فكم من حاكم تغير بأي وسيلة كانت، ثم بقيت الأمة على حالها من الانحطاط والتأخر عن الاستجابة لأمر الله تعالى. إنما البدء بما بدأ به القرآن ثم سار عليه الأنبياء: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ)(محمد:7-8).
(*) أستاذ بجامعة أم القرى، مكة المكرمة / المملكة العربية السعودية.