القيامة واقعة لا محالة، وهي حقيقة أكدتها العلوم الوضعية وأهل العلم بالإجماع، إلا أن العلماء يتوقعون ذلك في مستقبل بعيد، في حين يمكن أن تقع في أي لحظة نتيجة حدث من الأحداث الاستثنائية العديدة التي تطرأ على الأرض يوميًّا.
فلو أراد القمر -مثلًا- الذي انفصم عن الكرة الأرضية في ماض سحيق، أن يعود إلى صدر أمه مرة أخرى، فسوف يؤدي ذلك إلى انفجار هائل يدمر الأرض وفق القوانين الذرية.
وقد ورد في الحديث النبوي أن الرسول صلى الله عليه وسلم عندما كان يشرح لأمّنا عائشة رضي الله عنها كلمة “غاسِق” في قوله تعالى: (وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ)(سُورَةُ الفَلَقِ: 113/3)، أشار إلى القمر وقال: “يَا عَائِشَةُ اسْتَعِيذِي بِاللَّهِ مِنْ شَرِّ هَذَا، فَإِنَّ هَذَا هُوَ الغَاسِقُ إِذَا وَقَبَ”[1]، ولذلك اعتبر أهل الخبرة والدراية رؤية القمر في المنام علامة للشر، ورؤية الشمس علامة للخير، وعبروا الرؤى بناء على ذلك.
إن الخالق الذي يبعث النباتات في كل ربيع ويفرشها أمام أنظارنا لمحيي الموتى حتمًا وباعثهم مرة أخرى.
وقد تقوم القيامة باصطدام مذنَّب بالكرة الأرضية، أو بتجربة نووية خاطئة.. فمهما كانت الأسباب الظاهرية، فإن القدرة التي تمسك بزمام المؤثرات المبثوثة في ثنايا كل هذه الأحداث، ستأمر بنفخ الصُّور يومًا، وتقوم القيامة الكبرى لا مناص.
من الذرات إلى المجرات
لقد عالج القرآن الكريم حقيقة البعث بعد الموت من زاوية “التمثيل القياسي وتقديم النظير”. فمن خلال هذه الزاوية يثبت القرآن الكريم وجود البعث والنشور، حيث يقدم أدلة من الكون الشاسع تارة، وأدلة من عالم الذرة الصغير تارة أخرى، كما يجمع بين آيات الكون العظيمة وعجائب الذرة في سياق واحد، وهذا ما نسميه بـ”الدليل الكلّي”، إذ يتم التأكيد به على الخلق بمعناه المطلق، وفيما يلي نحاول شرح ما ذكرناه:
يبسط القرآن الكريم أدلة دامغة على وجود الحشر والنشور من خلال التمثيل القياسي عبر آيات الكون: (اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الأَمْرَ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ) (سُورَةُ الرَّعْدِ: 13/2).
إن الله الذي سيبعث الناس ويحشرهم من جديد، رفَع السماء بغير عمَد نراها، ووضع لها نظامًا تتحرك فيه النجوم وتجري إلى أجَلها المسمى.. لا شك أنكم تندهشون من ارتفاع هذه السماء دون عمَد، وتذهلون من حركتها الدائمة دون أيّ خلل أو فتور! ثم يستوي الله –أيًّا كان معنى “الاستواء” على الخلاف المذكور في علم أصول الدين- على العرش وينفذ حكمه من هناك، وبالتالي يسخّر الشمس والقمر ويعطيكم زمام الاستفادة منهما.. كل ذلك يتم بحسابٍ دقيق ليريكم رب العزة لَأْلَاءَ الحكمة من علمه اللانهائي.
أوَيعجز القدير المطلق الذي أقام قصْرَ الكون عن بناء قصور أخرى لبني آدم في الجنة؟
أجل، البعث والنشور وعد من الله سبحانه، فهو الذي يكشف عن آيات قدرته في كل شيء، وهو الذي يقوم بتنظيم كل ما في الأرض والسماء؛ يفصّل آياته لكم لتدركوا قدرته وعظمته، ولتفكّروا وتتأملوا وتؤمنوا بحقٍّ أنكم سترجعون إليه في يوم من الأيام مهما طال الزمن.
إننا نؤمن بالآخرة، ونؤمن -كذلك- بوحدانية الله عزّ وجلّ.. وإنه تعالى بعظمة ربوبيته وقداسة حكمته سيأمر بقيام الحشر وبالطريقة التي يشاؤها هو.
(يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ)(سُورَةُ الأَنْبِيَاءِ: 21/104)؛ أي نحن مَن سنطوي السماء كطي السجل للكتب ونخرجها من ماهيتها التي هي عليها الآن.. عندها تفقد حركتها وحرارتها ثم تتوقف عن الدَّوَران.. سنطوي كتاب الكون الذي أخرجناه من محفظته وفرشناه أمام بصائركم، ثم نعيده إلى محفظته كما بدأناه في أول خلقه، فكل المخلوقات ستعود إلى خلقها الأول في نهاية المطاف، فكما سكتت الأسباب عند الخلق الأول، فستسكت كذلك عند الخلق الثاني، ثم سنفتح الكتاب كرة أخرى كما طويناه، ونخلق الذرات من جديد.
(أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير)(سُورَةُ الأَحْقَافِ: 46/33)؛ إن الله تعالى الذي خلق السماوات والأرض وسيّرهما داخل نظام بديع دون عيّ منه ولا تعب، أَوَليس قادرًا على أن يحيي الموتى من جديد؟ أمعنوا النظر في الكائنات وتأملوا فيها جيّدًا، سترون بجلاءٍ قدرةَ الله في كل شيء، إنه تعالى لا يمسّه تعب ولا يحتاج إلى راحة أبدًا، وفي آية أخرى يقول تعالى: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ)(سُورَةُ ق: 50/38).
أجل، أوليس الله بقادر على إحياء الموتى من جديد؟
فكما يحيي الله الأشجار اليابسة الميتة، فسيحييكم في فصل ربيعكم مرة أخرى بعد موتكم ودفنكم في باطن الأرض.
إن التمثيل القياسي في القرآن الكريم هو منهج استدلال واضح، وعن طريقه تقدَّم أدلة وبراهين من العالم الفسيح الذي نعيش فيه لإثبات خلّاقية الله سبحانه وتعالى جلية، ولتهيئة الأذهان للإيمان بخلق الكون من جديد، ومن ثم يزداد الإنسان يقينًا بيوم البعث والنشور.
(أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ)(سُورَةُ يس: 36/81)، (أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا)(سُورَةُ النَّازِعَاتِ: 79/27).
أَوَأنتم أشد خلقًا أم خلقُ الجن وخلقُ كل ما يحيط بالإنسان من قوانين وأنظمة؟ أوَيعجز القدير المطلق الذي أقام قصْرَ الكون عن بناء قصور أخرى لكم في الجنة؟
(وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)(سُورَةُ فُصِّلَتْ: 41/39).
عندما جفت تربة الأرض وأجدبت؛ تمثلت -كالإنسان الذي يعترف بعجزه أمام ربه- أمام الله خاشعة خاضعة تسأله الإمداد بالغيث والماء، فيغيثها بالمطر، فتنتعش وتهتز وتتحرك، ثم تبدأ البذيرات تتشقق، والبراعم تطل برؤوسها من تحت الأرض، وسرعان ما تتحول الأرض إلى خضرة أخاذة وحدائق غناء، وهذا دليل على أن الله عزّ وجلّ قادر على إحياء الموتى كما يحيي الأرض الميتة في كل ربيع. أجل، إن مَن يبعث هذه النباتات في كل ربيع ويفرشها أمام أنظاركم لمحيي الموتى حتمًا، وباعثهم مرة أخرى.
إن الله الذي خلق السماوات والأرض وسيّرهما وفق نظام بديع دون عيّ منه ولا تعب، ألا يقدر على إحياء الموتى من جديد؟
إذًا فمثلما يحيي الله الأشجار اليابسة الميتة، والحشرات والهوام الغارقة في سبات الموت، فسيحييكم في موسم خريفكم مرة أخرى بعد موتكم ومواراتكم التراب ودفنكم بالأرض.
قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ) (سُورَةُ الْحَجِّ: 22/5).
لقد ورد في آخر الآية، أنكم ترون الأرض وكأنها هامدة قاحلة عاجزة عن الإنبات والعطاء، وما إن نُنزل عليها الماء الغزير من السماء، حتى تبدأ بالحركة والاهتزاز، فينبت نباتها بقوة، وينمو زرعها بشكل سريع. أجل، ويخلق الله سبحانه زوجين من كل شيء، وترسم يد القدرة مشاهد من الجمال خلابة تبهج القلوب وتبهر الأنظار.
(ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (سُورَةُ الْحَجِّ: 22/6)؛ فجميع ما ترونه حقّ لأنه من الله تعالى، هو الذي سيحيي الموتى وهو على كل شيء قدير، يكشف لكم قدرته من خلال تجليات خلقه، ومن خلال تدبيره لآلاف الوقائع والأحداث التي تحيط بكم.
(وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ) (سُورَةُ الْحَجِّ: 22/7)؛ لا ريب أن كل هذه الآيات تشير إلى قيام الساعة، وتؤكد على أن الله سبحانه وتعالى سيبعث كل مَن في القبور مرة أخرى ويحشرهم من جديد.
ومما هو واضح في كل هذه الآيات، أن الله تعالى أثبت البعث من خلال الأحداث التي تقع في الأرض التي نعيش عليها؛ فكما أنه تعالى يحيي البذور وينبتها في ربيع جديد بعد تعفّنها وموتها تحت الأرض، فكذلك سيحيي الإنسانَ الذي يتآكل جسده في القبر ويتبعثر؛ في يوم البعث والنشور الذي هو ربيعه الثاني.
عالم الذرة وبداية الخلق
هذا هو أسلوب القرآن المبهر في بسط القضايا وإقناع العقول، كان المخاطَبُ فيلسوفًا أو راعي غنم، فليس ثمة أسلوب يفوق أسلوبه في العرض والإقناع والتأثير، لقد حسم القرآن القضية وبتّ فيها، وما كُتِب أو قيل حول الموضوع من طرفنا نحن البشر، إنما هو شرح أو تفصيل لما ذكره القرآن العظيم لا غير.
وفي السياق نفسه نجد أن القرآن المجيد عندما يريد إثبات الحشر الأعظم عبر دلائل أنفسية، يحيل أنظارنا إلى عالم الذرة ويفتق أذهاننا بقوله: (كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ) (سُورَةُ الأَعْرَافِ: 7/29)؛ فكما أنه تعالى خلقكم أوّل مرة من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة، فكذلك سيجمعكم ويعيد ذراتكم إلى أصلها مرة أخرى وسيخلقكم من جديد.
القيامة حقيقة أكدتها العلوم الوضعية إلا أنهم يتوقعون ذلك في مستقبل بعيد، في حين قد تقع في أي لحظة نتيجة حدث استثنائي.
ويقول جل شأنه: (أَوَلَمْ يَرَ الإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ * وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ) (سُورَةُ يس: 36/77-79)؛ إن كفرة القرون الأولى وبقايا كفرة هذا القرن، ينطقون باللغة نفسها وبالأسلوب نفسه فيقولون: “مَن يستطيع جمع هذه العظام، ونفخ الحياة فيها بعد أن صارت رمادًا؟” فيجيبهم القرآن قائلًا: “قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ”.
ويقول عزّ وجلّ: (الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ) (سُورَةُ يس: 36/80)؛ إن رب العزة هو مَن أخرج مِن الشجر الأخضر الرطب نارًا، بينما تقرر القاعدة عدم اجتماع النقيضين، ولكن صاحب القدرة الأزلية الأبدية جمع هنا بين النقيضين وبكل سهولة، ومن المعروف لدى العرب أن شجر المَرِخ والعَفَار الذي يتقطر منه الماء سريع الوَرْي والاتّقاد؛ إذا قُدحتْ أحد أعواده بالآخر -وهو يتقطر ماء- تولّدت النار من بينهما.
وهكذا، فإن الله الذي تجلت عظمته في هذا الشجر، قادر على جمع العظام البالية وبعث الحياة فيها من جديد، وبالتالي على إحياء الإنسان وحشره لحياة ثانية مرة أخرى.
مراحل الخلق
سار القرآن الكريم على الأسلوب نفسه في إثبات البعث والنشور وهو يستعرض آيات الكون الصغير الذي يتألف من أصغر أجزاء الذرة وجزيئاتها، قال تبارك وتعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ) (سُورَةُ الْحَجِّ: 22/5)؛ أيْ، إن كنتم في ريب من الحشر والنشور، فانظروا إلى هذا الحدث الذي يقع في ماهيتكم، وتأملوا هذا الدليل الأنفسي الآتي:
إن الله عزّ وجلّ خلقكم بادئ الأمر من تراب، وصنع خميرة ماهيتكم من بعض العناصر المبثوثة في الأرض، وخلط هذه العناصر ببعضها مكوّنًا منها حساء بروتينيًّا، ثم نفخ الروح فيها لتتحول إلى قطرة من ماء مهين، ثم إلى علقة فمضغة مخلقة وغير مخلقة، وعندما أصبحتم مضغة خلقكم أو أماتكم؛ أي سقط بعضكم من بطن أمه قبل استكمال مدة الحمل، واستكمل بعضكم الآخر مسيرته وأخذ صورة تناسب بذرة ماهيته ونال شرف التكريم بسرّ “أحسن تقويم”.
لو قرر القمر الذي انفطم عن الأرض في ماض سحيق العودة إلى أمه ثانية، فسيؤدي ذلك إلى انفجار هائل يدمر الأرض وفق القوانين الذرية.
أجل، يقرّ الله تبارك وتعالى في الأرحام ما يشاء إلى أجلٍ مسمى؛ فأحيانًا يَسقط الجنينُ وهو في شهره الثالث أو الرابع، أو يسير إلى الحياة فيولد في الشهر السابع، أو يستكمل نموه حتى الشهر التاسع، وأنتم يا أيها الذين خلقناكم أطفالًا أبرياءَ أنقياءَ، تسلكون بعد ذلك دربَ الحياة أملًا في الوصول إلى الغاية التي خُلقتم من أجلها، ولكن منكم مَن يُتَوفّى مبكرًا، ومنكم مَن تمتد به الأيام ويُردّ إلى أرذل العمر؛ فتضعف أرجلكم، وتصاب ظهوركم، وتنحني قاماتكم، وتشتعل رؤوسكم شيبًا، وتنهزمون أمام الشيخوخة متقهقرين، ها قد باتت حياتكم كلها معاناة، لكي تعلموا أنكم لا تساوُون شيئًا مهما علا شأنكم.. إذ تبدؤون الحياة أطفالًا عاجزين، وتفارقونها أطفالًا عاجزين، ولكن بلِحيةٍ هذه المرة.
يقول الله تعالى: (أَيَحْسَبُ الإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى * أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى * ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى * فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى * أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى) (سُورَةُ القِيامَةِ: 75/36-40)؛ إن الله الذي تنقّل بكم في منازل من الخلق شتى حتى سوّاكم على هذه الهيئة الرائعة التي أنتم عليها، ألا يستطيع أن يبعثكم من جديد؟
المصدر: نفخة البعث، شواهد الحياة بعد الموت، فتح الله كولن، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة، الطبعة الأولى، ٢٠١٥، ص: ٢٧-٣٧
ملاحظة: عنوان المقال والعناوين الجانبية من تصرف المحرر.
[1] سنن الترمذي، تفسير سورة (113، 114) 1؛ مسند الإمام أحمد، 6/215.