لا يخفى على شريف علمكم أن الله تعالى تكفل بحفظ دينه من كل وضاع منتحل أثيـم ويتجلى مقتضى هذا الحفظ في حفظ أساطينه ومرتكزاته المتمثلة في الأخبار التي تعتبر مناجم الأحكام، ومآخذ الحلال والحرام.
وقد قيض سبحانه وتعالى لهذه الغاية طائفة من الرجال تدبَّروا قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ) (الحجرات:6)، ورأوا أن أول ما ينبغي فيه إعمال لازم الآية هو ما يَرِد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهرعوا يمحصون ما نقل عنه من أقوال وأفعال وصفات وتقريـرات وتجردوا للأحاديث والسنن، غايتهم تحرير صدقها من كذبها وثابتها من زائفها، فوضعوا لذلك منهجًا علميًّا متينًا لا يحابي ولا يداهن، وأجرؤوا ذلك بالتركيز على الرحلة والأسفار ومعرفة أحوال الرواة والرجال، ووضعوا لذلك مصطلحات دقيقة لا تكاد تجدها عند غيرهم من أهل الفنون والعلوم، فكان إنجازهم أحوذيًّا.
وجب التنبيه على أن التحري في صحة الخبر لا يعني بالضرورة تكذيب من نقلـه وخاصة إذا كان من أهل العدالة والديانة وإنما يعني الاحتياط لما سيبنى عليه من مواقف وأحكام
ولبيان منهجهم ذاك، وطرح بعض مصطلحات فنونهم، رأيت أن أشير إلى نبذة من جهودهم مبتدئًا بما وضعه الصحابة رضوان الله عليهم من قواعد وضوابط سلَّطوها على الإسناد والمتن من أجل قبول الرواية أوردِّها، وانتقلت إلى غيرهم ممن كان له الفضل في إبراز طرق الجمع والرواية، مُركِّزا على بعض قواعد هذا الفن، الأمر الذي جعل منه سدًّا منيعًا حائلاً دون تسلل الخرافة والأساطير فكان بذلك منقطع النظير أو القريب، حتى صار ذا خصوصية فريدة تكفي لوحدها أن ترفع شأنه وتبرز مقامه، ليكون ركنًا ركينًا لهذه الشريعة وحجة لها.
إن منهج علم الحديث وقواعده منهج قرآني محض
فمنهج النظر في المرويات عن الرسول والاعتناء بها كان وليد تدبر الكثير من الآيات القرآنية التي تنص على ذلك بالعبارة والإشارة وبهما معًا، لذلك استشعر الصحابة رضوان الله عليهم أهميتها وفهموا مقاصدها، وحملوا أنفسهم على العمل بمقتضاها والامتثال لما جاءت به، فراموا حفظ كل أقوال وأفعال وأحوال الرسول صلى الله عليه وسلم باعتبارها واقعة في دائرة بيان القرآن الكريم، فكان أصل المنهج لديهم قرآنيا ومساراته وتنزيلاته قرآنية واستمداد حجيته وبرهانيته وبينته قرآنية كذلك، يتجلى ذلك في عدة أمور تستفاد من تتبع مباشرتهم في استفصاح ما ورد عن الرسول معتمدين في ذلك على طرائق تدل على أنها مستنبطة من النص القرآني، يمكن إجمالها فيما يلي:
– الامتثال و التأسي والمتابعة:
الامتثال بموجب قوله تعالى: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ (الحشر:7)، هذه الآية وغيرها فهم منها الصحابة رضوان الله عليهم على الحقيقة وجوب الاعتماد والارتكاز على السنة لأهميتها ومكانتها حيث تعتبر أحد نصيفي الوحي. يضاف إلى القسم الأول الذي هو القرآن الكريم الذي نص على القوة الاعتبارية للسنة وجعلها وعاء لبيان الأحكام وتأسيسها وتأكيدها فقوتها من قوته.
وقد أمر الله عز وجل بطاعته واتباعه أمرًا مطلقًا مجملاً لم يقيد بشيء، كما أمرنا باتباع كتاب الله، ولم يقل ما وافق كتاب الله كما قال بعض أهل الزيغ.
أما التأسي فموجبه قوله تعالى: (لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا) (الأحزاب:21)، وبموجب قوله تعالى: (قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ) (آل عمران:31-32).
والتأسي قد يكون في الفعل وقد يكون في الترك. التأسي في الفعل؛ أن تفعل كما فعل صلى الله عليه وسلم لأجل أنه فعل وعلى الوجه الذي فعل، و التأسي في الترك؛ أن تترك ما ترك صلى الله عليه وسلم؛ لأجل أنه ترك.
والمتابعة فقد تكون في القول وقد تكون في الفعل وقد تكون في الترك. فاتباع القول؛ امتثاله على الوجه الذي اقتضاه. وأما المتابعة في الفعل وفي الترك فهي التأسي. وبذلك يظهر أن المتابعة أعم من التأسي، والتأسي يستدعي معرفة ما يُتأسى به فكان أدعى لاستخلاص ما صدر من قول أوفعل أو تقرير، وهذا الاستخلاص يستوجب التوثيق، ولا يكون ذلك إلا بالحفظ والتقييد، لأن الفعل وعدمه دل الواقع أنه لم يكن محصورًا في وقت خاص ولا محدودا بسلوك معين أو مكان محصور، بل إنه شامل لكل نشاطاته الفردية والاجتماعية التي مبتدؤها بعثته واستمرارها حتى وفاته صلى الله عليه وسلم، فكان حفظها اعتمادًا على الذاكرة أمرًا عسيرًا، إن لم يكن مستحيلا، وفي هذا المضمار قال ابن الجوزي رحمه الله (اعلم أن حصر الأحاديث المروية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعيدُ إمكانه، غير أن جماعة من أهل العلم بالغوا في تتبعها وحصروا ما أمكنهم، فأخبر كل منهم عن وجوه) وحصر هؤلاء وتتبعهم كان عن طريق التدوين.
– التدويــــــــن
مادامت أفعاله صلى الله عليه تنصب على شؤون الحياة التشريعية والخاصة فإنها ستتعدد بتعدد ما تنصب حوله من قيام وقعود وتوجيه وبيان وإقرار، لذلك نجد الصحابة رضوان الله عليهم قد وضعوا كل تصرفاته تحت المراقبة. وقد بلغ حرصهم على تتبعهم لأقواله وأعماله أن كان بعضهم يتناوبون ملازمة مجلسه يومًا بعد يوم، حتى أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: كنت أنا وجار لي من الأنصار من بني أمية بن زيد وهي من عوالي المدينة، وكنا نتناوب النزول على رسول الله صلى الله عليه وسلم ينزل يومًا وأنزل يومًا، فإذا نزلت جئته بخبر ذلك اليوم، وإذا نزل فعل مثل ذلك.
منهج النظر في المرويات عن الرسول والاعتناء بها كان وليد تدبر الكثير من الآيات القرآنية التي تنص على ذلك بالعبارة والإشارة وبهما معًا، لذلك استشعر الصحابة رضوان الله عليهم أهميتها وفهموا مقاصدها، وحملوا أنفسهم على العمل بمقتضاها والامتثال لما جاءت به.
ولا شك أن الصحابة متفاوتون في حفظهم وقوة ذاكراتهم، فهم كسائر الناس من هذه الجهة يحفظون وينسون، وأمام حرصهم الشديد على التعلق بسنن الرسول الكريم حفظًا وإعمالاً فلا مندوحة لهم عن التدوين تفاديًا لانفلاتها من العقول، لذلك نقول أن التدوين بدأ في عهد الصحابة، وأن ماجاء من أحاديث النهي عن كتابة غير القرآن فلها توجيه يبعث على الاطمئنان والركون إليه، ذكره الخطيب البغدادي في كتاب “تقييد العلم” والخطابي في “معالم السنن.
والخلاصة أنه ثبت أن امتناع الصحابة عن الكتابة إنما جاء من نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن كتابة شيء غير القرآن وذلك فيما رواه أبو سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “لا تكتبوا عني. ومن كتب عني غير القرآن فليمحه وحدثوا عني ولا حرج”. و هنا يأتي دور الرواية الشفهية التي لا تقل أهمية عن المكتوبة، بل إنها تحفظ المنقول وكيفية نطقه وتلاوته.ثم جاء الإذن من النبي لعبد الله بن عمرو بن العاص بالكتابة، فقد جاء عنه قوله: كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله أريد حفظه فنهتني قريش وقالوا أتكتب كل شيء تسمعه ورسول الله بشر يتكلم في الغضب والرضا؟ فأمسكت عن الكتاب. فذكرت لرسول الله فأومأ يإصبعه إلى فيه فقال. اكتب فو الذي نفسي بيده ما يخرج منه إلا حق. وكذلك أبو سعيد الخدري راوي حديث النهي عن الكتابة روي عنه حديث: “ما كنا نكتب شيئا غير القرآن والتشهد”. والتوفيق بين النصوص يكون بالإعمال بدل الإهمال. وتوجيهه أن الإذن بالكتابة كان آخر الأمرين.
التمحيص والنقد
وهما أيضا منهجان قرآنيان ينبنيان على مقتضى التوجيه الوارد في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ) (الحجرات:6)، فالخطاب في الآية موجه إلى المؤمنين لتنبيههم على ضرورة التبين فيما يجيئهم من أخبار وفي ذلك أمر لهم بالتحلي بالمنهج العلمي المعتمد على التحري والتثبت فيما ينقل.
وهذا أدعى للبحث في المتن والسند، وهو منهج أخذ به الصحابة أولاً. فقد روى البخاري وأبو داود من طرق عبد الله بن الزبير قال. قلت للزبير إني لا أسمعك تُحدِّث عن رسول الله كما يحدث فلان وفلان، قال: أما إني لم أفارقه ولكن سمعته يقول: “من كذب علي فليتبوأ مقعده من النار”، وفي رواية: “من يقل علي ما لم أقل فليتبوأ مقعده من النار”.
وهذا أبو بكر الصديق يطلب البينة من المغيرة بن شعبة رضي الله عنه حينما أخبره بأن رسول الله أعطى للجدة السدس. فقال أبو بكر هل معك غيرك؟ فقال محمد بن مسلمة الأنصاري، فقال مثل ما قال المغيرة، فأنفذ لها أبو بكر.
وعلى نفس النهج سار من جاء بعده ومعه من الصحابة إلى أن وصل الأمر إلى التابعين وتابعيهم، لمَّا طالت الأسانيد وانتشرت الروايات وكثرت أسماء الرواة وألقابهم وكناهم وخيف على السنة، فاضطروا إلى إعمال النقد ووضع قوانين لتحصيله، فانكبوا على دراسة المرويات من جهتي السند والمتن.وكان ذلك في بداية القرن الثاني الهجري.
هكذا تأسس منهج التعامل مع المرويات في عهد الصحابة، وتعمقت قواعده عند علماء الحديث، غايتهم في ذلك حفظ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى لا يدخل فيه ما ليس منه، منطلقين من فرضية نسيان الراوي وفرضية خطئه أو كذبه. وهذا المنهج لو طبق على نصوص التاريخ في الدنيا ما صح منها خبر مطلقًا.
لا شك أن الصحابة متفاوتون في حفظهم وقوة ذاكراتهم، فهم كسائر الناس من هذه الجهة يحفظون وينسون، وأمام حرصهم الشديد على التعلق بسنن الرسول الكريم حفظًا وإعمالاً فلا مندوحة لهم عن التدوين تفاديًا لانفلاتها من العقول
ووجب التنبيه على أن التحري في صحة الخبر لا يعني بالضرورة تكذيب من نقلـه وخاصة إذا كان من أهل العدالة والديانة وإنما يعني الاحتياط لما سيبنى عليه من مواقف وأحكام، لذلك كان أساس علم الحديث هو افتراض خطأ الراوي أو نسيانه أو كذبه، لأن آفة الأخبار رواتها. وهو افتراض مشروع ينبني على الشك المنهجي، أوجده الاحتياط الشديد للدين والإخلاص لدلالة الخطاب الوارد في الآية السابقة.
وجهود أهل الحديث في هذا الأمر، تكشف عما يكتنزه تراثهم من قوانين علمية ساهمت في بناء الفكر الذي يعتمد الدليل ويطالب به عند الادعاء وقد ثبت عند علماء المسلمين قولهم: “إذا كنت ناقلاً فالصحة أو مدعيًّا فالدليل”. لذلك كان التثبت في الأخبار منهج المحدثين في حفظ الحديث.
وهكذا يتضح أن تبين الأمر والتثبت منه منهج قرآني أصيل، ومنهج علمي ينطق به كتاب ربنا، من شأنه أن يبني ويقوي قدرات العقلية المسلمة المدققة الناقدة، ويكوِّن بيئة آمنة تتكسر على صخرتها سهام الغزو الإعلامي الهادف إلى إلحاق الهزائم النفسية بالمسلمين ويحمي المرء من تصديق كل ما ينقل إليه. في زمن كثرت فيح الأقاويل وانتشرت فيه الأكاذيب، خاصة عبر ما يعرف بوسائل التواصل الاجتماعي والشبكات العنكبوتية.
إنه من أفضل الطرائق والسبل التي اختارها المسلمون حين تعاملهم مع الأحاديث والأخبار النبوية، لذلك كان واجبًا علينا الالتفات إلى هذا المنهج قصد دراسته وتدارسه واستخراج كنهه قصد تنزيل فقهه على واقعنا مع جيراننا وأهلنا وأبنائنا ومع جميع مكونات محيطنا.