من الألغاز الغريبة التي لا نعرف لها أساسًا، معجزات الشفاء لبعض المرضى من أمراض عضال، فالكسيحون يمشون، والعميان يرون، والأورام تزول.. أمراض عجز الطب عن شفائها، ومرضى حفيت أقدامهم بحثا عن علاج.. كل ذلك ينقضي أحيانًا في لمح البصر دون سبب مفهوم. يأتي المريض محمولاً على محفة، أو زاحفًا على ركبتيه وينصرف ماشيًا على قدميه، أو يأتي أعمى يتلمس طريقه بعصا أو مستندًا على كتف صبي وينصرف بصيرًا يرى الأشكال والألوان.

حدثت هذه الظواهر ولا تزال تحدث في كل عصور التاريخ، وفي شتى أنحاء الأرض، وتتحول إلى قصص يرويها الناس، ويشكك فيها الأطباء والعلماء، فلا المرضى يتوقفون عن الذهاب، ولا الأطباء يقتنعون.

ولكن لكثرة ما حدثت هذه الظواهر، ولكثرة ما كتب عنها من تقارير، بعضها من وضع أطباء معالجين، ليس من السهل أن نرفضها ابتداء، فهي إحدى الغرائب والألغاز في هذه الحياة، وعلينا أن نقبلها ثم نختلف بعد ذلك في تفسيرها كما نشاء. ترى ما اسم هذه الظاهرة؟ وكيف تحدث؟ وما هو تفسيرها؟

العلاج الوهمي (البلاسيبو)

“البلاسيبو” (Placebo)، كلمة لاتينية الأصل تعني “سأتحسن”. والبلاسيبو أو العلاج الوهمي، هو العلاج بأدوية لا تحتوي على أي عناصر علاجية ولا تأثير لها على الإطلاق،  كإعطاء المريض “حبوب سكر” على أنها حبوب دوائية، أو إجراء العمليات الجراحية الوهمية، كجراحة “اللاشيء” التي ابتكرها أطباء ولاية تكساس.

وتتمثل في تخدير المريض وتهيئته نفسيًّا لعملية جراحية حقيقة، ولكن كل ما يحدث هو تخدير المريض وإحداث جرح بسيط بالمكان المراد علاجه ثم خياطته دون فعل أي شيء.

والمدهش حقًّا هو شفاء كثير من المرضى بعد إخضاعهم لهذا العلاج الوهمي، والسبب هو الاعتقاد، حيث أثبت العلماء أن الاعتقاد يمثل 30% من أي علاج.

أعطى الباحثون حبوبًا دوائية وهمية لبعض المرضى الذين يعانون من الاكتئاب الحاد، وأعطوا لمرضى آخرين حبوبًا دوائية حقيقية، فكانت النتيجة تحسن المجموعتين بنفس المستوى.

يرجع ذلك إلى عام 1955م، حيث ابتكر طبيب التخدير “هنري بتشر” فكرة العلاج الوهمي، إذ قام بعدة أبحاث ودراسات حول كيفية تحسين الصحة باستخدام مادة غير فعالة دوائيًّا، وأكد أن 35% من الحالات المرضية قد تماثلت لشفاء بالفعل بالعلاج الوهمي، وهو ما أثار شكوك الكثير من الأطباء والعلماء آنذاك، فما كان منهم إلا رفض الفكرة ودحضها والتشكيك فيها.

وفي  عام 2011م، توصلت دراسة في جامعة هارفارد الأمريكية، إلى إثبات صحة هذه النظرية، مؤكدة أن الوهم يلعب دورًا كبيرًا في شفاء كثير من الحالات، عن طريق إحداث تغييرات في العمليات الكيميائية في المخ.

ولا يقتصر دور العلاج الوهمي على علاج الأمراض الجسدية فقط، بل وصل للأمراض النفسية أيضًا، حيث يرى أطباء النفس أن البلاسيبو في الأساس “ظاهرة نفسية”، لذلك يمكن استغلالها لعلاج المرضى النفسيين.

وقد تم بالفعل تجربة فعالية العلاج الوهمي مع بعض المرضى الذين يعانون من الاكتئاب الحاد، عن طريق إعطائهم حبوب دوائية وهمية، في حين إعطاء مرضى آخرين حبوب دوائية حقيقية، فكانت النتيجة تحسن المجموعتين بنفس المستوى.

اللغز وتفسيره العلمي

بينت الأبحاث أن المريض الذي يتناول الدواء معتقدًا بالشفاء، فإن دماغه يطلق كمية من الأندورفين، وهذه المواد تلتحم بمراكز التحسس بالألم، وتحجب الإشارات العصبية المشعرة بالألم، وهكذا تتحقق الراحة. فالشفاء بالإيحاء والإيمان والتخيل، جميعها من مهام العقل الباطن. فالإيحاء بفكرة ما، تؤثر على العقل الباطن للإنسان تأثيرًا واضحًا؛ فإذا قلتَ أنا أنسى كثيرًا، أنا لست قويًّا، أنا كثير المرض.. فإن هذه الكلمات ستؤثر على حياتك سلبًا. وإذا قلت لشخص ما، “إنك تبدو مريضًا، لونك مصفر، أنت ضعيف.. فإنه سيتأثر بذلك ويصبح هذا الإيحاء حقيقة عنده.

تؤكد أيضًا بعض الأبحاث والدراسات فعالية العلاج الوهمي، وفقًا لعاملين هامين هما “التكيف” و”التوقع”، حيث إن لكل منها أثرًا كبيرًا في تحسن الحالة الصحية للمريض.

ويتمثل التكيف في الجو المحيط بالمريض، بداية من إرشادات الطبيب، مرورًا برائحة الأدوية وأصوات الآلات، إلى الجو العام بالمستشفى كاملاً.. كل هذه العوامل تعتبر محفزات بالنسبة للمريض، وتؤثر فعليًّا في تحسن حالته الصحية.

بالإضافة إلى توقع المريض واعتقاده أن هذا الدواء سيثبت فعاليته أم لا، فعلى حسب التوقعات تأتي النتائج في أغلب الأحيان، لذلك في حالات كثيرة يشترط الشفاء من مرض ما، بتحسن الحالة النفسية الناتج عن الاعتقاد والتوقع الذي يسكن العقل الباطن للمريض، فإذا كانت أفكاره سلبية ستكون النتائج سلبية أيضًا، فشعور المريض أن الدواء لن يجدي نفعًا تتسبب في تدهور حالته الصحية بالفعل، والعكس.

التفسير النفسي (الإيحاء الذاتي)

إن أشهر تفسير لمعجزات الشفاء أنها تتم بالإيحاء الذاتي؛ فإن عددًا كبيرًا من هؤلاء المرضى يؤمنون إيمانًا عميقًا بأن معجزة ستحدث في هذا المكان، فلا تلبث أن تحدث معجزة بالفعل، ربما باتحاد قواهم النفسية أو بقوة عقلهم الجماعي اللاواعي، وما إن تحدث حالة شفاء حتى يزداد الاعتقاد رسوخًا وتتكرر الظاهرة مرارًا.

يؤكد طبيب الأعصاب الألماني ” جوهان شولتز” (Johan Schultz) مؤسس هذا العلم الذي وضع الأطر الأساسية للاسترخاء بالإيحاء الذاتي عام 1930م، والتي أطلق عليها “المتولدات ذاتيًّا”، بأن إقناع أجزاء الجسم بتوليد أحاسيس خاصة بها هي أفضل الطرق للاسترخاء والتخلص من الضغوط الناجمة عن العمل أو المشاكل الأسرية أو حتى الصحية.

فالإيحاء الذاتي له قوة معنوية هائلة التأثير في الإنسان. فالإنسان جسد وروح، وكثيرًا ما تكون للأمراض العضوية أسباب نفسية، هذه الأسباب إذا زالت زال مظهرها العضوي بالتالي، وأغلب هؤلاء المرضى الذين تحدث لهم معجزات الشفاء في “الأماكن المباركة”، يكونون من هذا النوع، أي من المرضى النفسيين الذين يتخذ مرضهم شكلاً عضويًّا كالعمى أو الكساح، فإذا زاروا المكان وهم مؤمنون بالشفاء حتمًا، فإن مخهم يصدر الإشارات أو الموجات اللازمة لفك المرض العضوي الذي يشكون منه.

و لكن بعض الخبراء لا يكتفون بهذا التفسير، وإنما يتصورون أن البقعة التي يحدث فيها الشفاء توجد بها قوة خاصة قادرة على إبراء الأمراض، هذه القوة عبارة عن قوى مغناطيسية تستطيع التأثير في الجسم البشري.

تؤكد أيضًا بعض الأبحاث والدراسات فعالية العلاج الوهمي، وفقًا لعاملين هامين هما “التكيف” و”التوقع”، حيث إن لكل منها أثرًا كبيرًا في تحسن الحالة الصحية للمريض.

قد يستهين أناس بقوة تأثير الإيحاء النفسي، والحقيقة أن للقدرة على إتقان هذا الإيحاء تأثيرها المذهل، فهناك علاقة قوية بين العقل والجسد لا يمكن لأحد أن ينكرها، وكل يوم تكتشف الأبحاث والدراسات ما يثير دهشتنا حول هذه العلاقة ومدى تأثر الجسد بالعقل الباطن تحديدًا، ويتجلى ذلك في كثير من المواقف، وهذه بعض الأمثلة:

  • أراد بعض الأطباء النفسيين تجربة ذلك، فقاموا بتجربة ناجحة على شخص محكوم عليه بالإعدام، وذلك بأن ربطوه على منصة العمليات بأربطة شديدة، وعصبوا عينيه وأوهموه بأنهم سيجرون عليه تجربة علمية لمعرفة الزمن الذي سيموت فيه بعد النزيف، ثم وكزوه بإبرة طبية في عضلة رقبته وأوهموه أنها في الشريان، وعلقوا زجاجة من الماء بخرطوم يتساقط منها الماء، نقطة بعد نقطة.. وأوهموه بأن النقاط المتساقطة هي دماؤه وبعد ساعة توفي الرجل اعتقادًا منه أن دمه قد نزف، والواقع أنه مات من الوهم والإيحاء.
  • اكتشف باحثون إيطاليون أن العلاج بالإيحاء كان له أثر إيجابي كبير على أدمغة بعض مرضى شلل الرعاش (باركنسون) بصورة لم تكن متوقعة.
  • وأعطى باحثون من كلية طب جامعة تورين الإيطالية بقيادة الدكتور فابريزيو بانديتي، عددًا من المرضى، محلولاً ملحيًّا عاديًّا وأخبروهم أنه أحد أدوية المرض، ثم راقبوا الخلايا العصبية في أدمغتهم فوجدوا أن استجابة الخلايا لذلك المحلول الملحي تماثل استجابتها للدواء الحقيقي.
  • جاء في مجلة طبيبك عن الدواء (الدواء الغفل)، عبارة عن مواد لا مفعول لها، فهو حبوب سكرية أو نشوية، ويقال له جالب السرور. ولهذا الدواء تأثير فعال في شفاء الأمراض، فقد خفض صدمات الذبحة الصدرية بنسبة 82 إلى 93% ، وأنقص الصداع والشقيقة بنسبة 50%.

وأدى إلى شفاء القروح الاثني عشرية بنسبة 50 إلى 60%، وقلل آلام المفاصل والاكتئاب والقلق.. والسر في تأثير الدواء بالشفاء هو الحالة النفسية فقط، حيث يقتنع المريض بفائدته ويوحي إلى نفسه بالشفاء بعد تناوله.

  • يحكى أن أحد الأطباء اليونانيين قديمًا، استنكر على الملك إطلاق لقب “الطبيب الأول” على سقراط، وادعى أنه أفهم منه، فأبلغ الملك سقراط بقول الطبيب، فكان رد سقراط: إذا أثبت ذلك فإن اللقب سيكون من نصيبه. ولما سأل الملك الطبيب عن وسيلته لإثبات صحة قوله قال: أنا أسقيه السم الزعاف وهو يسقيني، فأيُّنا تمكن من دفع السم عن نفسه فهو الأعلم، أما الذي يصيبه المرض ويدركه الموت فهو الخاسر. قَبِل سقراط هذا النوع من التحكيم وحدد يوم النزال بعد أربعين يومًا، وبينما انهمك الطبيب في تحضير الدواء السام -وهو جار سقراط في المسكن- استدعى سقراط ثلاثة أشخاص وأمرهم أن يسكبوا الماء في مدق وأن يدقوا بقوة واستمرار، وكان الطبيب يسمع صوت الدق.. وفي اليوم المحدد، دخل الاثنان بلاط الملك، وطلب الطبيب من سقراط أن يبدأ هو بتناول السم ففعل، فأخذت الحمى مأخذًا من سقراط وعرق كثيرًا واصفر لونه، ولكن بعد ساعة برئ مما أصابه وتوجه إلى الطبيب قائلاً: أما أنا فلا أسقيك السم لأن شفائي دليل على علمي. ولكن الطبيب أصر على أن يشرب السم، ووسط إلحاح الحضور وعلى رأسهم الملك، أخرج سقراط قنينته وسكب نصف ما فيها في إناء، وأعطى القنينة للطبيب فتناول ما فيها، وبعد لحظات هوى صريعًا على الأرض. توجه سقراط إلى الحضور وقال: كنت أخاف ذلك عندما امتنعت من إعطائه، ولكن هل تعلمون أن الذي شربه الطبيب لم يكن سوى ماء عذب، والدليل على ذلك أنني سأشرب منه وأنتم ستشربون. وعندما سئل سقراط عن سبب موت الطبيب أجاب: إنه هوى صريعًا بسبب قوة الإيحاء النفسي لديه، حيث كان يعتقد أن ما تناوله سم زعاف، خصوصًا بعد أن سمع طوال أربعين يومًا أصوات الدق.

لقد كان العلاج الوهمي يستخدم منذ قديم الأزل قبل تقنيات الطب الحديث وآلياته، حيث كان يمارس بأشكال وطرق بدائية مختلفة، كالخلطات العشبية، أو العلاج بالنار لطرد الأرواح الشريرة من جسد المريض، والكثير من الخرافات التي أثبتت فعاليتها وساعدت في شفاء المرضى آنذاك ليس لصحتها، بل لقوة اعتقادهم وتوقعهم الشفاء بها.

(*) استشاري في طب وجراحة العيون / مصر.