يتمتع الإنسان بفضائل عالية ويعاني في الوقت نفسه من نقائص عديدة، ولم يَسبِق لكائن قبل الإنسان أنْ جَمَع في نفسه هذا الكم من المتناقضات؛ فهو من الأعاجيب التي تنحرف فجأة فتسقط إلى مهاوي الجحيم في الوقت الذي ترفرف وتحلِّق في أجواء الجنان. ومن العبث البحث عن علاقة بين هذه الانحدارات والارتفاعات الهائلة، فإن الأسباب والنتائج تسير في الإنسان على خط مختلف للغاية.
تراه أحيانًا مثل سنابل الزرع الخضراء الطريّة تتمايل وتعتدل مع النسمات يمنةً ويسرة، وتراه أحيانًا أخرى مهيبًا شامخًا مثل دلب سامق ثم يخر على الأرض ساقطًا لا يستطيع النهوض، له أوقاتٌ كثيرة تغبطه فيها الملائكة، وله أزمان وحالات تكاد الشياطين تخجل منها.
إن المعاصي ليست أصلاً في الإنسان، لكنها من الأقدار المتوقعة فيه، وهو الذي يعاني هذا الكم من أنواع الانحدار والارتقاء، وتلوُّثُه بها -وإن كان أمرًا عارضًا- لكنه محتمل، لذا فالعفو لمن كانت فطرته معرَّضة لفساد بسبب التلوث، هو الكل في الكل.
إن طلب العفو وانتظارَه، والأنينَ بسبب فوت الفرص أمرٌ عالي القيمة، لأنه منوط بمستوى الإدراك والشعور؛ وكذلك العفوُ عن الآخرين لا يقل عنه قيمة، بل قد يفوقه سموًّا وفضيلةً. إن الفصل بين العفو والفضيلة خطأ فادح، ويا له من مثَل حكيم ذلك الذي يقول: “التقصيرُ ديدن الصغار والعفوُ ديدن الكبار”.
إن طلب العفو وانتظارَه، والأنينَ بسبب فوت الفرص أمرٌ عالي القيمة، لأنه منوط بمستوى الإدراك والشعور؛ وكذلك العفوُ عن الآخرين لا يقل عنه قيمة، بل قد يفوقه سموًّا وفضيلةً.
إن إحراز العفو يعني الترميم والرجوع إلى الأصل واكتشاف الإنسان لجوهره، ولذلك فإن أحب أعمال المرء إلى صاحب الرحمة اللانهائية، هو ما يعانيه من الخفقان عندما يبحث عن هذه الأوبة.
لقد تعرفَت الكائنات كلها على العفو من خلال الإنسان، كما أبرزَ الحق تعالى عفوه من خلال الإنسان، ووضع في قلب هذا الكائنِ ذلك الجمال الذي يزهو به العفو. وحينما هوى الإنسان الأول بضربة على جوهره بتلك الزَّلة التي هي من مقتضيات فطرته، كان الأمر المسموع من وجدانه هو الأنَّة والتضرع، وكان جواب هذا التضرع هو العفو النازل من السماء.
لقد حافظ الإنسان طوال العصور على هذه الهدية التي وَرِثَها عن جده الأول باعتبارها وسيلة للأمل والتسلية، فكلما ارتكب خطيئة رَكِب متنَ هذا العرش السحري فارتقى وتفلَّتَ من خجل خطاياه وإحباطها ووصل إلى الرحمة اللانهائية، كما أكسبته عزة وترفعًا إذ جعلته لا يرى أخطاء الآخرين وزلاتهم وكأنها محجوبة عنه بستار.
وبفضل الأمل في إحراز العفو، يرتقي الإنسان فوق غيوم اليأس القاسية التي تتلبّدَ فوق رأسه، ويتمكن من رؤية عالمه نيِّرًا مضيئًا. والسعداء المحظوظون الذين هم على دراية بأجنحة العفو الـمُـرَقِّية؛ يعيشون طولَ أعمارهم وهم يسمعون ألحانًا تبعث الانشراح في الأرواح.
إننا نؤمن بأن العفو والتسامح سيضمد كثيرًا من جراحنا، المهم أن يكون هذا السلاح السماوي في أيدي من يفهمون لغته ويحسنون استخدامه، وإلا فإن كثيرًا من المعالجات الخاطئة التي دأَبْنا عليها، ستضعنا أمام مضاعفات وتعقيدات كثيرة، وستجعلنا بعد هذا الحين أيضًا في حيرة وارتباك.
إن الإنسان الذي لا يزال قلبه متعلقًا بطلبِ العفو عن أخطائه، لا يمكن أن نتصوره بعيدًا عن مشاعر العفو عن الآخرين أيضًا، فهو يحب أن يعفو عن غيره كما يحب أن يُعفَى عنه. وإذا كان يعلم أنَّ ارتشافه وارتواءه من كوثر العفو هو السبيل إلى خلاصه من نار المعاناة التي أشعلتها آلام المعاصي في دواخله، فهل يمكن له ألا يعفو هو أيضًا لا سيّما إذا أيقن أن العفو عنه يمرّ عبر طريق العفو عن الآخرين؟
لن ينال المغفرة إلا من يغفر، ومن لا يَغفِرْ فلن يُغفَر له، أما من يسدون طرق التسامح أمام الآخرين، فهم وحوش فَقدوا إنسانيتهم، وإن غلاظ القلوب الذين لم يَسبِق لهم أن تلوَّوْا بوعكات ذنوبهم، لن يتذوقوا ما في العفو من لذة سامية.
رأى السيد المسيح عليه السلاتم ذات يوم امرأة آثمة يسوقها الناس ليرجموها، فقال لمن احتشدوا هناك: “من كان منكم بلا خطيئة فليرم بأول حجر”، فهل يُتصوَّر من أي شخص أدرك الرسالة الدقيقة التي تنطوي عليها هذه العبارةُ المعبِّرة أن ينبري لرجم الآخرين وهو يعلم أن له رأسًا يستحق الشج قبل الآخرين؟! فيا ليت التعساء الذين يستهلكون أعمارهم في أيامنا هذه في سبيل مقاضاة الآخرين، يستوعبون هذه الرسالة.
صحيح أنه ينبغي أن يَلقَى المجرم جزاءه، وليس لأي شعور راقٍ -بما فيه الشفقة- أن يَحُول دون تطبيق هذا الحكم الذي نزل الأمر به من المقام السامي، ولكن ليس هناك حُكمٌ يقضي برجم مَن أدانتهم عداوتُنا وبغضاؤُنا، بل يستحيل ذلك، والحق أننا ما لم نحطم ما في ذواتنا من الأصنام بشجاعة كشجاعة إبراهيم عليه السلام، فلن نستطيع أن نتخذ قرارات صائبة، لا في حقنا ولا في حق غيرنا.
إن الإنسان الذي لا يزال قلبه متعلقًا بطلبِ العفو عن أخطائه، لا يمكن أن نتصوره بعيدًا عن مشاعر العفو عن الآخرين أيضًا، فهو يحب أن يعفو عن غيره كما يحب أن يُعفَى عنه.
لقد ظهر العفو إلى الوجود بالإنسان، وبه وصل إلى الكمال، وتجلى بأرقى صوره في أعظم شخصية عرفها الوجود صلى الله عليه وسلم.
وأما الحقد والكراهية والبغضاء فهي بذور جهنمية بَذَرَتْها الأرواح الخبيثة بين بني الإنسان، وعلينا أن نُنقذ إنساننا الذي يُساق نحو عواقب مجهولة في خضم ألفِ أزمة وأزمة، علينا أن ننقذه لنقاوم بذلك الذين ينفخون في كِير العداوة والبغضاء، ويحوِّلون وجه المعمورة إلى مهاوي الجحيم. لقد لُوِّث القرنان المنصرمان على أيدي الذين لا يعرفون العفو والتسامح أيَّما تلويث! وشُوِّها أيَّما تشويه! وحينما يَرِد على بالنا احتمالُ أن يتحكم هؤلاء التعساء في مستقبلنا، فلا نتمالك إلا أن نرتعد فرقًا وتختلج قلوبنا. إن أكبر هدية يقدمها أجيالُ هذا العصر لأولادهم وأحفادهم، أن يعلِّموهم “فضيلة العفو”، وأن يدربوهم على الصفح عن أسوأ التصرفات وأشدِّ الأحداث إثارةً للغثيان.
أما التفكير في العفو عن تلك الأرواح الطاغية الثائرة التي تفترس الإنسان وتتلذذ بتعذيب الآخرين، فهو إهانة لمؤسسة العفو. أجل، إن العفو عنهم إهانة وتحقير للإنسانية، فضلاً عن أنه ليس من صلاحياتنا، ولا نعرف أحدًا يرى مثل هذه الإهانة أمرًا معقولاً.
لقد ترعرع جيل على تشجيع العداوة، ثم ألقي به في عالم ظلّ يشاهِد في حلباته مَشاهد الوحشية المروِّعة، فكان لا يرى إلا مناظر الدماء والصديد حتى في الأوقات التي تُضيء آفاقه وينبلج فيها فجر جديد. فهل كان لهذا الجيل أن يتعلم شيئًا من مجتمع يصوِّت بالدم ويتنفس بالدم ويفكر بالدم ويضحك بالدم؟
لقد كان ما يُقدَّم له مختلفًا تمامًا عما كان يتلهف إليه قلبه بفارغ الصبر، فاكتسب فطرة ثانية تحت تأثير الإهمال والتلقينات الخاطئة. وليتنا في هذا الوقت الذي صارت فيه الفتن سيلاً هادرًا والفساد طوفانًا كاسحًا، تَفَهَّمْنا مشكلاته على الأقل، ولكن هيهات هيهات، وأين نحن من تلك البصيرة؟!
إننا نؤمن بأن العفو والتسامح سيضمد كثيرًا من جراحنا، المهم أن يكون هذا السلاح السماوي في أيدي من يفهمون لغته ويحسنون استخدامه، وإلا فإن كثيرًا من المعالجات الخاطئة التي دأَبْنا عليها، ستضعنا أمام مضاعفات وتعقيدات كثيرة، وستجعلنا بعد هذا الحين أيضًا في حيرة وارتباك.
اِعرف المرضَ أوَّلاً ثم تصدَّ للتداوي،
هل تحسب أن كل مرهم لأي جرحٍ يداوي! (ضياء باشا).
(*) نشر هذا المقال في مجلة “سيزنتي” التركية، العدد:14 (مارس 1980). الترجمة عن التركية: أجير أشيوك.