هل كان “للزهراوي” رائد علم الجراحة دورًا فعّالاً في ترقية وتجديد وضبط لغة العلم الطبية والجراحية؟ وكيف أسهمت كتاباته في “إشكالية المصطلح”، وإزالة “غـُربته اللغوية وتقريبه”، واعتماد “الاقتراض اللغوي، والمولـّد المحدث”، لإرساء دعائم “المعجم الطبي العربي”؟.
أول ما يسلك طلاب الطب والعلوم والترجمة والثقافة، طريق تعلمهم ودراستهم يسارعون للحصول على أمهات المعاجم، والقواميس اللغوية، ومن ثم تباعًا يحصلون علي مصنفاتها الفرعية الأكثر تشعبًا وتخصصًا، ولم لا فلا لغة، ولا علم ولا تعليم، ولا درس ولا تدريس، ولا تدقيق مصطلحي أو بحثي دون هذه المعاجم ذات الصلة.
في بلاد الأندلس، بدأ العصر الذهبي للطب العربي خلال حكم الخليفة الأموي “عبد الرحمن الناصر”، (300-350هـ/912-961م)، حيث شكلت المؤلفات الطبية التي كانت ترد من دمشق وبغداد إلى الأندلس، أهم مصادر علم الطب في ذلك العصر. بيد أنه بمرور الوقت وبذل الجهد العلمي التراكمي.. نشأت في الأندلس مدرسة طبية وجراحية رائدة من أبرز روادها “أبو القاسم الزهراوي.، يعد “أبو القاسم خلف بن عباس الزهراوي” (325-404هـ/ 936-1013م). المعروف في أوربا باسم ABULCASIS من أكبر عباقرة وعلماء حضارة العرب والمسلمين في الأندلس الذين أسهموا في تطوير علم وفن الجراحة وصنعة الصيدلة.
لقد شكلت كتابات “الزهرواي” واسطة العقد في التأليف الطبي العربي، فهي قد تواصلت مع تقاليد وأعراف سبقت، وأعطت أنموذجًا لأجيال لحقت على مستوى التعبير اللغوي فضلاً عن المضمون المعرفي
لقد أحدثت عبقرية “الزهراوي” متعددة الجوانب تغييرًا جوهريًّا في “النظرة العلمية” وأسلوب العمل العلمي، حيث ربط بين النظرية والتطبيق، فلأول مرة في تاريخ “الكتابة العلمية” يستخدم مفهوم “الصانع” مرادفًا “للطبيب”، وكان من قبل ومازال ترادفه لفظة “الحكيم”.
ظواهر “الزهراوي” ومنجزاته اللغوية
لم تنصب جهود “الزهراوي” فقط علي براعته العلمية والطبية والجراحية بل لقد أنشغل بمشاكل المصطلح. ولم يكتف بالسير علي نهج الأساليب التقليدية في التأليف والتصنيف. لذا فقد خلّف “ظواهر لغوية” تخصه دون غيره ممن ألف وصنف في مجالات طبية وكيميائية وعلمية.
فمنذ بدايات التدوين العلمي وجهود المترجمين العظام في حضارتنا العربية الإسلامية نري إسهامات “الزهراوي” قد استوعبت “المنجز المصطلحي” السابق، وطورته وأضافت عليه، وطوعت المزيد من المصطلحات الطبية والجراحية، وجاء دور “الزهراوي” لمعرفة مدى جهوده، وعبقريته في تذليل الكثير من مشاكل “الغربة اللغوية” التي لازمت الألفاظ الأعجمية الشائعة من قبل. ومنهجه مستقر على “الاقتراض اللغوي”، واعتماد الدخيل من الألفاظ اليونانية اللاتينية، فضلاً عن الفارسية مع الإشارة إلي أصولها. كذلك أتسع منهجه ليشمل”المُولّـد” من الكلام المحدث العامي في لهجة أهل الأندلس والمغرب. هادفاً لملء “الفراغ اللغوي في العربية”، والتقدم بالعلم واللغة معًا في طريق متوازن، وللزهراوي ـ أيضا جهد في “تقريب المصطلح” متى لزم ذلك لجودة الإيضاح وسلامة البيان، نراه في ذلك كله يسعي لتحديد الأوصاف، وإطلاق مسميات جديدة، وتعديل أخرى قديمة.. ينحت، ويشتق ألفاظاً جديدة يثري بها المعجم الطبي. كذلك أظهر اهتمامًا بالجانب”الصرفي”. كل ذلك وغيره ينطلق من قناعته أن: “اللغة العلمية في جوهرها مواضعة واختيار”، ولقد تأثر الأطباء العرب فيما بعد (كابن النفيس، وغيره) بهذه النظرة وحرية صياغة المصطلح العلمي.
اتبع “الزهراوي” في المقالتين الأولى والثانية من “التصريف لمن عجز عن التأليف” منهج ابن سينا المعاصر له، من حيث تقسيم الطب إلى ثلاثة أقسام: العلم بالأمور الطبيعية- العلم بأسباب الأمراض- العلم بعلاماتها ودلائلها، ثم الكلام على الأمراض التي تصيب جسم الإنسان عضوًا عضوًا، ثم الأمراض التي تصيب الجسم كله وهي الحميات، مع الكلام على طرائق معالجتها، أما في المقالات التالية فقد تكلم على “الترياق”، وعلى مختلف أشكال الصيدلية المعروفة في زمنه، مع شرح أسمائها وطرائق تحضيرها، وأخيرًا قام بتقسيم الأدوية إلى زمر بحسب تأثيرها الدوائي. يستدل القارئ لهذه المقالات على أن “الزهراوي” لم يكن ناقلاً ومقتبسًا لعلوم الصيدلة، بل كان ممارسًا لتحضير الأدوية ومتقنًا لصناعتها، أما في المقالة الثامنة والعشرين فقد قسمها “الزهراوي” إلى ثلاثة أبواب، الأول: في تدابير الأحجار المعدنية، من غسل وتكليس وإحراق. كما ذكر صفات بعض المعادن وأكاسيدها. أما الثاني: في تحضير العقاقير النباتية، من جمع وتجفيف وادخار، وعصر وتلبيب. كما تكلم عن الزيوت واللعابات. وعدّد في الباب الثالث: أسماء بعض العقاقير ذات المنشأ الحيواني، وذكر طرائق تحضيرها وحفظها.
لم تنصب جهود “الزهراوي” فقط علي براعته العلمية والطبية والجراحية بل لقد أنشغل بمشاكل المصطلح. ولم يكتف بالسير علي نهج الأساليب التقليدية في التأليف والتصنيف.
وقسم “الزهراوي” المقالة التاسعة والعشرين إلى خمسة أبواب، تكلم في الباب الأول على أسماء العقاقير النباتية بخمس لغات هي: العربية واليونانية والسريانية والفارسية والبربرية، وجعلها على شكل “معجم”.
وفي الباب الثاني ذكر الأدوات والأجهزة التي يستعملها الصيدلي في صيدلته أو معمله، ومنها الأنبيق والأتّال، والفرن المنقلب اللهب والقناطير وغيرها.. ثم وصف، في الباب الثالث، العقاقير النباتية، وذكر منشأها، وبديل كل عقار يتعذّر وجوده بالأسواق.
وفي الباب الرابع تكلم على أعمار الأدوية المفردة والمركبة، أي مدة حفظها، ومنشئها ومصدرها الجغرافي، وخصّص الباب الأخير للكلام على الأوزان والمكاييل، وأسمائها أو نسبة بعضها إلى بعض واستعمالها.
أمثلة من معجمه الطبي
لقد حرص “الزهراوي” على صياغة المفاهيم، وتقديم التعريفات الدقيقة متوخيًّا الإيضاح والرفق بالمتعلمين على نحو ما يظهر بجلاء في مقالته العظيمة”في عمل اليد” ومن أمثلة ذلك:
الشقيقة: وجع في شق الرأس مع صداع، ويمتد الوجع إلي العين.
السـَّبَل: عروق حمر تتنسج علي العين فتمنع البصر وتضعف العين مع طول الأيام.
قد خلّف الزهراوي “ظواهر لغوية” تخصه دون غيره ممن ألف وصنف في مجالات طبية وكيميائية وعلمية.
الثآليل الفطرية: أورام تشبه الفطر، أصلها رقيق ورأسها غليظ، قد تحولت شفتاه يكون منها صغار ويكون منها ما يعظم جدًا.
الأكلة: هي فساد يسعى في العضو فيأكله، كما تأكل النار الحطب اليابس
النملة: بثرة دقيقة تتقرح، وتسعس في الجلد
الناصور: تعقد وغلظ يحدث بقرب المقعدة من الخارج أو في الفضاء من أحد الجهات، وكل جرح أو ورم إذا أزمن وتقادم صار قرحة ولم يلتحم وكان يمد القيح أبداً لا ينقطع فيسمي، علي الجملة في أي عضو، ناصوراً.
مسمار القدم: تصلب موضعي في بشرة أصبع القدم، وهو شيء خشن يؤلم الرجل. الدواء المصري: خل وزيت وعسل وزنجار بمقادير متساوية تجمع في إناء وتطبخ على النار حتى تصير في قوام العسل.
هذا التحديد اللغوي المعجمي قاعدة سليمة، وأساس من أسس التأليف الطبي والعلمي تسهم في جودة التعليم.
لقد شكلت كتابات “الزهرواي” واسطة العقد في التأليف الطبي العربي، فهي قد تواصلت مع تقاليد وأعراف سبقت، وأعطت أنموذجًا لأجيال لحقت على مستوى التعبير اللغوي فضلاً عن المضمون المعرفي، يبقي أننا من أغنى الأمم تراثًا، فاللغة العربية لغة العلم الأولي لقرون عدة، قد استوعبت طرائق البحث العلمي واصطلاحاته، ومقالاته ومبتكراته، واحتكرت مؤلفاته وتقنياته، إنها لأمانة في أعناق أحفاد “الزهراوي” وغيره من أعلام الحضارة العربية الإسلامية، أن يحملوا المشاعل مرة أخرى، مساهمين في قيادة الإنسانية نحو الحق والخير والجمال، والمعرفةكما فعل هو.