لقد وُضع لكل بضاعة في هذه الدنيا مقياس لتحديد قيمتها، ولكن لم يوضع أي مقياس لوزن نتاج العقل، والقلب، والحس، والروح؛ فليس ثمة ميزان يقيّم ما يَنتُج عن العقل من أفكار، بينما هناك موازين كثيرة تزن وتقيّم المآكل والمشارب.. ويتم تحديد قيمة هذه الأشياء حسب أسعار العملة المحلية والدولية، كما تُستَورد وتُصَدَّر بناءً عليها، ويمكننا أن نحدد قيمة قطعة من الأرض وفق هذه الأسعار كذلك.
ولكن لا يوجد في هذه الدنيا ميزان يمكنه أن يثمّن عقلًا فذًّا أو ذكاءً فريدًا أو كياسةً عظمى، لذلك لم ينعم -مثلًا- “شكسبير” ولا “فيكتور هوجو” اللذان كانا يتمتعان بذكاء خارق بأي مكافأة مقابل ذلك الذكاء في هذه الدنيا. هذا من الجانب المادي، والآن دَعونا نحلل الموضوع بعمق أكثر، ونتأمل في فطنة نبي من الأنبياء، لنفكر -على سبيل المثال- بالثمار التي نتجت عن عقل الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم وقلبه وأحاسيسه اللامتناهية، كذلك دعونا نجمع الأحاسيس الوجدانية لكافة الأنبياء عليهم السلام في مكان واحد، فهل ثمة ميزان في هذه الدنيا يمكنه أن يقيّم تلك الأحاسيس يا ترى؟
الحكمة تقتضي أن يأتي يوم يقام فيه ميزان يستوعب كل تلك المشاعر السامية ويقيّمها، وذلك يوم الآخرة.
إذن فإن الحكمة تقتضي أن يأتي يوم يقام فيه ميزان يستوعب كل تلك المشاعر السامية ويقيّمها، وذلك يوم الآخرة. يقول المولى عزّ وجلّ: ﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ﴾ (سُورَةُ الأَنْبِيَاءِ: 21/47).
ليس في هذه الدنيا ميزان يستطيع أن يزن خفايا لدنّيّات الإنسان وبواطنه الجوانية، كما لا نستطيع أن نزن ثمرة إحساس وجداني يزداد تألقًا مع كل إبحارة نحو أعماق القلب، وبالتالي فإننا لا نعرف ميزانًا يقدر على وزن أحاسيس سامية أخرى مكنونة في قرارة الإنسان، كالأحاسيس التي تحثه على إشاحة وجهه عن الدنيا وما فيها، وعدم الرضا بشيء سوى الله سبحانه والقرب منه؛ بل هؤلاء الذين تفيض قلوبهم بهذه المشاعر الجياشة، يتعذر عليهم في أغلب الأحيان تبيّنُها ووصفُها وتعريفها.
إذن فالحكمة تقتضي يومًا يقام فيه ميزان لكي يزن كل هذه المواجيد الدقيقة دون أن يغادر صغيرة أو كبيرة، وبالتالي فميزان الدنيا أُقِيمَ لكي يَزِنَ أعضاء الإنسان الخارجية، ولم يوضع ميزان يقيّم مواجيده القلبية التي لا يمكن أن تضاهيها صورته الخارجية سموًّا وبهاء وإشراقًا، وإن ذلك الميزان الدقيق سوف يقام في دار البقاء لا محالة.
المصدر: نفخة البعث، فتح الله كولن، دار النيل للطباعة والنشر.
ملاحظة: عنوان المقال والعناوين الجانبية من تصرف المحرر.