الإنسان منذ بدء الخليقة، يسعى لكشف أسرار العالم.. وهذا يفسر مطاردته أعاصير الأرض، وارتياد البحار، وسبر الكهوف الصخرية والمائية، وامتطاء الجبال العملاقة، والتحليق عبر الفضاء بحثًا عن خلق الله وأسرار السماء المليئة بكل عجيب وغريب، والغوص في أعماق البحار والبحث في قيعان المحيطات.
والإنسان في سعيه الدؤوب لكشف أسرار البيئة التي يعيش فيها، قد توصل إلى معارف شتى. وما إن يتوصل إلى كشفٍ وتفسيرٍ، يجد نفسه في احتياج أكثر فأكثر ليستجلي الغموض. إنه الإنسان، يريد الوصول إلى حقيقة كل شيء.. هكذا خلقه الله.. ألم يقل رب العالمين: (وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى)(النجم:39-40). وكلما توصل إلى معرفة، يجد نفسه ما زال غير محيط فيستمر، لأن علم الله لا حدود له، ولن يصل إليه البشر مهما كانت تكنولوجياته وعلومه المبهرة.. ألم يقل ربنا: (قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا)(الكهف:109). وهكذا يعجز الإنسان عن تحقيق العلم بكل شيء، وتلك حقيقة نصَّ عليها القرآن في قوله سبحانه وتعالى: (وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاءِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ)(العنكبوت:22).
صدر تقرير علمي حديث يتصل بعلم الحيوان، وبالتحديد في الحيوان المائي والذي يسمى سمكة القُشر الأطلسي العملاقة، والسمكة من هذا النوع تنتمي إلى عائلة سمكة “الهامور” في منطقة الشرق الأوسط، يقول التقرير: “تتسم أسماك القُشر الأطلسي العملاقة، بطبيعتها الاجتماعية الميالة للاختلاط والاحتكاك الجسدي، لذا فإنها نادرًا ما تشاهَد منفردة، ويبدو أن هذا الاختلاط يتم بأعداد متساوية من الجنسين. اكتشف العلماء في الآونة الأخيرة أن بعضها تتخذ صفة “خنثى مبكرة الأنوثة”، بمعنى أنها تكون إناثًا عندما تفقس من البيض ثم تتحول إلى ذكور، ولا يُعلم حتى اليوم سبب ذلك”.
التقرير الصادر أثبت أن حالة التحول هذه، تصيب فقط بعض هؤلاء السكان البحريين. والخوف يجيء من احتمال تفشّي هذه الحالة في جميع أفراد ذلك الحيوان البحري “الهامور” العجيب؛ إذ سيكون مستقبل مجتمع هذه الأسماك، مجتمعًا ذكوريًّا، وهذا يعني اختفاء الإناث لاحقًا وبالتالي توقّف التزاوج والتناسل، والنتيجة المنطقية -قطعًا- انقراض هذا الحيوان.
يضع الكاتب هذه اللفتة تحت نظر علماء الحيوان البحري، ويتساءل: هل الأضرار البيئية التي يحدثها الإنسان هي مسبب تلك الحالة؟ خصوصًا وإن نصوص القرآن قد حذرتنا من إفساد البيئة منذ أربعة عشر قرنًا، قال تعالى: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)(الروم:41).
سمع الغواصون قرب ساحل جنوب غربي فلويدا، وعلى عمق ثلاثين مترًا تحت سطح الماء، هديرًا مدويًا في مياه البحر، ثم تلاه دوي آخر وكأنها فرقعة ألعاب نارية آتية من بعيد. ثم تبين لهم أنه ضجيج صاخب ينبعث من بدن سفينة غارقة احتشد في هيكلها المحطم سرب أسماك عملاقة، إنها سمكة “الهامور”.
تجتمع أسراب سمك القشر “الهامور” حول حطام السفن الغارقة، وفي الحيود المرجانية، لتناول الطعام وللاندماج في بيئتها الاجتماعية. تنمو هذه السمكة حتى وزن 360 كلغ، ويقارب طولها ثلاثة أمتار. وتتميز بفكيها البارزين وزعانفها الكبيرة الشبيهة بسعف النخيل، وجلدها المرقط برقش ذات ألوان ظلية بُنيّة وخضراء. تعلن سمكة القُشر “الهامور” وجودها للمخلوقات البحرية المتربصة، من خلال ضغطها على مثانة السباحة في بطنها، وهي عبارة عن أكياس هوائية تساعدها على الطفو، وعلى إصدار ذلك الهدير المدوي واحدًا تلو الآخر.
بعث المجتمع العلمي إنذارات حول مصير هذه السمكة العملاقة العجيبة. فقد كانت أعداد هذا السمك في الماضي كبيرة، وأسرابه منتشرة على نطاق واسع وبعشرات الآلاف في مياه الخلجان جنوبي الولايات المتحدة ومنطقة البحر الكاريبي والبرازيل، غير أن أعداده تضاءلت إلى مستويات غير معلومة -ربما أقل من ألف سمكة- من جراء تعرضه -لسنوات- للصيد الجائر باستخدام بنادق الرماح والصنارات.
يقوم الباحثون بإعداد قاعدة بيانات حول هذه السمكة، باتباع إستراتيجيات بحثية ميدانية، من خلال رحلات بالقوارب إلى أماكن الأسماك. وما أن يتم الإمساك بالواحدة حتى يجري الباحثون قياس جسمها، وإزالة قطع صغيرة من النسيج الغضروفي، لاختبار الحمض النووي وتحديد السن، وأخْذ عينات من محتويات المعدة لدراسة نظامها الغذائي، ثم فحص جهازها التناسلي للتأكد من أيّ علامات دالة على فترة التناسل. بعد ذلك يتم تثبيت شريحةِ تتبّعٍ تحت جلد كل سمكة على حدة قبل إرجاعها إلى البحر. ويقوم الباحثون من خلال هذه العملية، بتتبّع الأسماك التي تحمل تلك الشرائح، وجمْع معلومات عن أماكن وأوقات وجود كل منها، وعن مستوى صحتها.
يرى الباحثون أن سلوك السمكة قد أسهم في انخفاض أعدادها نتيجة بقائها المستمرّ لا تتزحزح عن الأماكن التي تعيش فيها.. فهي لا تبرح الحيود المرجانية لوفرة الغذاء والمأوى الفسيح. وإن نقص حركتها، يجعلها هدفًا سهلاً للصيد في الأعماق التي عادة لا تزيد على 30 مترًا تحت الماء. وتمثل هذه الأسماك أطباقًا شهية لدى سكان الجزر. كما أن حجمها العملاق، استهوى أصحاب الرياضة والترفيه، وبالتالي أقيمت مسابقات حول اصطيادها. كل هذا، استنزف هذا النوع من الأسماك، خاصة إذا ما علمنا أن نموها بطيء يستغرق وقتًا طويلاً، أضف إلى أنها أسماك وديعة مسالمة.
جاء عام 1990 ليدرج أسماك القشر “الهامور” ضمن قائمة الأحياء البحرية المهددة بالانقراض، فصدرت القوانين التي تحميها ضد الصيد الجائر. ولتستمر الأسماك ذات الحركة المتثاقلة في ممارسة حياتها بالمحميات، تتغذى على أحياء بحرية أخرى مثل النهاش والأنواع الأخرى من القشر، وسرطان البحر والسلطعون، الأمر الذي سجل فيه البيئيون تعافيًا واضحًا للأسماك فانطلقت للتكاثر، وشوهدت ملتصقة بالحيود الضحلة ماكثة بالحواف الصخرية وحطام السفن.
والأصل هو عدم تنقل هذه الأسماك، فتظل رابضة بأماكنها، حيث لا تغادر أماكنها إلا عندما تريد وضع البيض. يقول الباحثون إنه عندما يحين موعد التزاوج، تقطع هذه الأسماك مسافات طويلة قد تبلغ 500 كلم في بعض الأحيان، للوصول إلى مواقع التفريخ. وتغطي الرحلة 40 كلم في اليوم الواحد على خط مستقيم، وعند الوصول تحتشد الأسماك -الآتية من كل حدب وصوب- قرب حطام السفن الغارقة والحيود المرجانية، فتشكل على الساحل تشكيلات يشبه كل منها رصاصة عملاقة، ثم تشرع في الاهتزاز والاحتكاك وإصدار الأصوات تحت جنح الظلام، إذ تقذف الحيوانات المنوية في مرمى البيض المنتشر هنا وهناك. وهكذا يتم “صنع” الأجيال التالية.
بيد أن هذه الأسماك باتت مهددة إثر اكتشاف بعض البيض الذي يتخذ صفة خنثى مبكرة الأنوثة؛ بمعنى أنها تكون إناثًا عندما تفقس من البيض، ثم تتحول إلى ذكور. وهذا فيه تهديد للنوع إذا تفشت هذه الظاهرة الذكورية، التي تحدث إخلالاً في معادلة التناسل الفطرية، والتي لا تتم إلا في وجود الإناث.
في عالم يعج بالتلوث البيئي، والإخلال بالتوازن البيئي، وعدم الاكتراث بالضوابط والقوانين البيئية لحماية البيئة البحرية ومكوناتها.. دق العلماء ناقوس خطر تعاطي أسماك “الهامور” مادة الزئبق ذات التأثير السام المميت. وقد رصد الباحثون آثارًا لأعراض مرضية، حيث يصاب كبد السمكة بالآفات الناشئة عن ارتفاع مستويات الزئبق في جسدها، مما يجعل من تعاطي الأسماك ذاتها، مصدر تسمم غذائي للبشر.
وما زال العلماء يحاولون كشف الصلة بين تناول الأسماك للزئبق، ومشكلة تحول الإناث الخارجة من بيضها إلى ذكور. وعلى صعيد آخر، يعزو بعض الباحثين أسباب تلك الظاهرة -ربما- إلى تدخل الإنسان بمشروعاته العقارية الساحلية والزراعية وملوثاته، مهددًا المواطن الطبيعية المستقرة تحت المياه الضحلة التي تقطنها الأسماك، لأن التدخل العمراني البشري، يزيل عناصر بيئتها التي تعيش فيها، خصوصًا شجيرات المنغروف التي توفر بيئة اجتماعية متوازنة لتلك الأسماك.
إن الله عز وجل قد خلق الموازين، ولكل شيء ميزانه، والذي يحدث من البشر من إخلال بالتوازن البيئي، يلحق الضرر بمكونات البيئة ومنها البيئة البحرية. وهذا ما تحقق بالنسبة لأسماك “الهامور” كما أثبتت الدراسة.