القومية الإيجابية عند النورسي؛ مقوماتها وضوابطها

 إن الوحدة بين الإسلام والقومية الإيجابية، تتخذ مكانة في أعلى هرم الهوية الإسلامية عند بديع الزمان سعيد النورسي؛ حيث يؤكد على أننا “نحن معاشر المسلمين، الدين والقومية عندنا متحدان بالذات، والاختلاف اعتباري، أي ظاهري عرضي، بل الدين هو حياة القومية وروحها، فإذا ما نظر إليهما بأنهما مختلفان ومتباينان، فإن الحمية الدينية تشمل العوام والخواص، بينما الحمية القومية تنحصر في واحد بالمئة من الناس ممن يضحي بمنفعته الشخصية لأجل الأمة. وعليه، فلا بد أن تكون الحمية الدينية أساسًا في الحقوق العامة، وتكون القومية خادمة منقادة لها وساندة حصينة لها. فنحن الشرقيين لا نشبه الغربيين؛ إذ المهيمن على قلوبنا الشعور الديني، فإن بعث الأنبياء في الشرق، يشير به القدر الإلهي إلى أن الشعور الديني وحده هو الذي يستنهض الشرق ويسوقه إلى التقدم والرقي، والعصر السعيد -وهو خير القرون والذي يليه- خير برهان على هذا”.

ولقد زاد النورسي الأمر توضيحًا وتوكيدًا قائلاً للجميع: “إن الحمية الدينية، والقومية الإسلامية قد امتزجتا في الترك والعرب مزجًا لا يمكن فصلهما، وإن الحمية الإسلامية هي أقوى وأمتن حبل نوراني نازل من العرش الأعظم؛ فهي العروة الوثقى لا انفصام لها، وهي القلعة الحصينة التي لا تهدم”.

كما يلفت النورسي الأنظار إلى هوية الانتساب هذه، وهو يخاطب الأتراك بصفة خاصة موجهًا إياهم: “أيها الأخ التركي، احذر وانتبه أنت بالذات، فإن قوميتك امتزجت بالإسلام امتزاجًا لا يمكن فصلها عن الإسلام، ومتى ما حاولت عزلها عن الإسلام فقد هلكت إذن وانتهى أمرك”.

وإن كان النورسي قد عارض بشدة الدعوة إلى الهوية القومية، فإنه وضح في الوقت ذاته القوة الكامنة في القومية الإيجابية حين تكون تحت إمرة هوية الأمة الإسلامية؛ لأن “القومية الإيجابية نابعة من حاجة داخلية للحياة الاجتماعية، وهي سبب للتعاون والتساند، وتحقق قوة نافعة للمجتمع، وتكون وسيلة لإسناد أكثر للأخوة الإسلامية. هذا الفكر الإيجابي القومي، ينبغي أن يكون خادمًا للإسلام، وأن يكون قلعة حصينة له، وسورًا منيعًا حوله لا أن يحل محل الإسلام، ولا بديلاً عنه؛ لأن الأخوة التي يمنحها الإسلام تتضمن ألوف أنواع الأخوة”.

وبهذه الهوية المتميزة تصبح الأمة الإسلامية بؤرة جاذبية، ومركز ثقل بشري حيوي يشد إليه وحداته الداخلية -فرادى وجماعات- دون أن يذيبها ليفقدها معالمها، كما أنه يجذب نحوه مفردات جماعية من خارج إطاره.. ولذلك “فإن الحكمة الإلهية التي هي نظام العالم، والمؤسسة للقانون الإلهي النوراني الساري في أرجاء العالم كله، قد رفعت أصبع القدر منذ الأزل تأمركم: حافظوا على الموازنة العامة بتوحيد ومزج حميتكم وقوتكم الضائعتين بالتفرق ضياع قطرات الماء المتناثرة بالفكر الملّي -أي الملّة الإسلامية- مكونين بذلك جاذبة وطنية عظيمة من جاذبات الذرات الجزئية؛ فتنجذب هذه الكتلة العظيمة، وتدور -كالكوكب المنير- في موكب الجماهير المتحدة الإسلامية الممثلة لشوكة شمس الإسلام العظيم”.

مقومات الأمة وحمايتها

إن الحرية، والعدل، والشورى، وحفظ كرامة الإنسان وحقوقه، والأمر بالمعروف بمفاهيمه الدقيقة، كلها من أهم مقومات ووسائل الحفظ والحماية اللأزمة للأمة.

أ- الحرية والشورى: فهما يتصدران هذه المقومات؛ “لأن ما يفتح حظ آسيا، وسعد الإسلام، هو الشورى والحرية المشروطتان بتربية الشريعة الغراء”.

وبالحرية والشورى تكون السيادة، ويكون الحفظ للأمة وقلعتها، ويتحقق الترابط والتساند الأخوي بين جميع طوائف الإسلام؛ لأن “الحرية الشرعية والشورى المشروعة، قد أظهرتا السيادة الحقيقية لأمتنا، إذ إن حجر الأساس في بناء أمتنا وقوام روحها، إنما هو الإسلام. وإن الخلافة العثمانية والجيش التركي، بمثابة الصدَفة والقلعة للأمة، وإن العرب والترك هما الأخوان الحقيقيان، وسيظلان حارسين أمينين لتلك القلعة المنيعة والصدَفة المتينة. وهكذا.. بفضل هذه الرابطة المقدسة التي تشد الأمة الإسلامية بعضها ببعض، يصبح المسلمون -كافة- عشيرة واحدة؛ فترتبط طوائف الإسلام برباط الأخوة الإسلامية كما يرتبط أفراد العشيرة الواحدة، ويمد بعضهم بعضًا معنويًّا”.

بـ- العدل والعدالة: فالعدل لب معنى الحياة، وقاعدة ترشيد الفطرة، ومقوم صيانة الأمة، ولذلك فلا عجب من تأكيد بديع الزمان سعيد النورسي على “العدالة المحضة؛ ذلك الدستور العظيم الذي ينظر إلى الفرد والجماعة والشخص والنوع نظرة واحدة، فهم سواء في نظر العدالة الإلهية، مثلما أنهما سواء في نظر القدرة الإلهية”.

جـ- حفظ حقوق الإنسان وكرامته الإنسانية: ونقطة انبعاث هذه الحقوق، وسياج رحابها، حياة الاستقلال المؤدية إلى الاستغناء؛ فإن “النور الإلهي في الشريعة الغراء، يمنحها خاصة مميزة، وهي الاستقلال الذي يؤدي إلى الاستغناء”.

ومن حقوق الإنسان الغائية، تحقيق التكامل المعرفي والعلمي؛ “فلقد جيء بهذا الإنسان إلى هذا العالم لأجل أن يتكامل بالمعرفة والدعاء، لأن كل شيء فيه موجه إلى العلم ومتعلق بالمعرفة حسب الماهية والاستعداد”.

ومع التكامل المعرفي، لا بد من التكامل في التنشئة بالتركيز على البناء الداخلي بالأساس؛ “لأن ميل الجسم إلى التوسع لأجل النمو إن كان داخليًّا فهو دليل تكامل، بينما إن كان من الخارج فهو سبب تمزق الغلاف والجلد، أي إنه سبب الهدم والتخريب لا النمو والتوسع”.

د- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: وهذا المقوم الأساس في حفظ الأمة، يتطلب مواصفات واضحة فيمن يقوم به، بحيث يكون القائم عليه مرشدًا حقًّا، و”المرشد الحق هو من كان هدفه وغايته الاتحاد بضياء القلب ونور الفكر، وكان مسلكه المحبة، وشعاره ترك حب الذات والأنانية، وكان مشربه إنكار الذات (المحوية)، وطريقته الحمية الإسلامية”.

وتعليل أهمية هذا الأمر وقيمته أن “الشريعة تربي في روح الإسلام الشفقة وعزة الإيمان.. فلقد أخذ القرآن بيده حقائق الشريعة، كل حقيقة منها عصا موسى (في تلك اليد)، وستسجد له تلك المدنية الساحرة سجدة تبجيل وإعجاب”.

الخلاصة

أ- “إن المستقبل سيكون للإسلام وللإسلام وحده، وإن الحكم لن يكون إلا لحقائق القرآن والإيمان. لذا فعلينا الرضى بالقدر الإلهي وبما قسمه الله لنا، إذ لنا مستقبل زاهر، وللأجانب ماض مشوش مختلط”.

بـ- إن الأمة الإسلامية حقيقة تاريخية اجتماعية متميزة النشأة والمنبت والغاية، وخيريتها مستمدة من خيرية رسولها محمد صلى الله عليه وسلم؛ “لأننا قد خصصنا بالإضافة والانتساب إلى خير الرسل ذي الشهرة والمعرفة.. صرنا “خير أمة أخرجت للناس”، والمنسوب إلى الشريف شريف”.

جـ- التمايز في الأسس التكوينية للأمة الإسلامية أدى إلى تمايز في الأصول التركيبية والحيوية، على نحو يؤمّن البقاء والإنماء لهذا الكيان الجماعي الذي لا نجاة للعرب ولا للمسلمين ولا خلاص لهم إلا بالحفاظ على بنائه مفهومًا وواقعًا، بعد التحلي بالإرادة، والتزود بالفاعلية، والسعي لتحقيق الشرعية والتحلي بها.

د- تجمعت محاور حركة الأمة حول أصول تكوينية ارتبطت بعقيدة التوحيد والعبادات والشعائر؛ لأننا “معاشر المسلمين خدام القرآن، نتبع البرهان، ونقبل بعقلنا وفكرنا وقلبنا حقائق الإيمان، ليس كمن ترك التقلد بالبرهان تقليدًا للرهبان كما هو دأب أتباع سائر الأديان”.

هـ- التوحيد مصدر طاقة توليد حيوية للأمة على المستوى الداخلي، مما يدعم الكيان الذاتي للجماعة، ويعمل على تماسكه وتميزه بجاذبيته إلى أن “الْتَحَمَ الإسلام وتغلغل في أعماق نصف المعمورة، بأسسه الراسخة وآثاره الباهرة”.

و- مفهوم الأمة الإسلامية في كليات رسائل النور، يعمد إلى توسيع دائرة كيانه على المستوى الخارجي؛ لتضييق الفجوة بينه وبين الكيانات الأخرى، حتى تتحقق مثاليته في إدماج كوني تتواصل به الحضارات العالمية الإيمانية التي عنوانها “التنوع في وحدة”؛ “فالإسلام وحده سيكون حاكمًا على قارات المستقبل حكمًا حقيقيًّا ومعنويًّا، وإن الذي سيقود البشرية إلى السعادتين الدنيوية والأخروية، ليس إلا الإسلام، والنصرانية الحقة المنقلبة إلى الإسلام، والمتفقة معه، والتابعة للقرآن بعد تحررها من التحريفات والخرافات”.

ز- بقاء الأمة الإسلامية واستمرار مفهومها الشامل بدلالاته المختلفة، يتوقف على عملية تنشئة من نوع خاص، تستطيع أن تنتج كيانًا جماعيًّا متميز الخصائص، رائع السمات، يعزز بعضه بعضًا في تساند وتعاون وانسجام.

وينبغي الحذر كل الحذر من التكاسل عن ذلك، والتقاعس عن القيام بما هو مطلوب؛ فإنّ “تكاسلكم وعدم مبالاتكم، وتقاعسكم عن العمل لتحقيق الاتحاد الإسلامي والوحدة الحقيقية للأمة الإسلامية، إنما هو ضرر بالغ وظلم فاضح”.

 

(*) باحث حضاري وتربوي / مصر.

المراجع

(1) “كليات رسائل النور”، لبديع الزمان سعيد النورسي، ترجمة: إحسان قاسم الصالحي، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة 2010.

(2) “الأمة القطب”، لـ”منى أبو الفضل”، مكتبة الشروق الدولية، طـ1، 1426هـ/2005م، القاهرة.