بعد رحلة طويلة لسيدنا يوسف عليه السلام تنقّل فيها من حضن أبيه إلى ظلام الجبّ ثم إلى السجن وأخيرًا إلى عرش الملك، بقي أبوه يعقوب عليه السلام واثقًا بالله ولم يفقد الأمل من رحمته، وبقي يتذكر ابنه ويأمل عودته بعد أن مضى على غيابه سنوات طويلة. وعندما أرسل يوسف قميصه لأبيه وقبل أن يصل القميص أخبرهم يعقوب أنه يجد ريح يوسف، يقول تعالى: (وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلاَ أَنْ تُفَنِّدُونِ)(يوسف:94)، وبناء على هذه الآية الكريمة، كيف استطاع سيدنا يعقوب عليه السلام أن يجد ريح ابنه على مسافة طويلة قبل أن يصل القميص إليه؟

إن العلم اليوم يقرر حقيقة علمية، وهي ثبات رائحة الإنسان وتميزها عن غيره؛ فلكل منَّا رائحة تختلف عن الآخر

اكتشافات علمية معاصرة
من الأخبار العلمية التي تلفت الانتباه أن العلماء وجدوا آثارًا لعضو ضامر يسمى “Vomeronasal” في أنف الإنسان كان في يوم ما يلتقط الإشارات الكيميائية البعيدة الصادرة عن أشخاص آخرين. يقول العلماء: إن هذا العضو الحساس يقع في الدماغ خلف فتحتي الأنف، وإن هذا العضو الضامر، كان عبارة عن ثقبين صغيرين يلتقطان الإشارات الكيميائية التي يفرزها أشخاص آخرون، ويحتوي على مجموعة من الأعصاب تستطيع تحليل هذه الإشارات والتعرف على صاحبها. كما أن هذه الخلايا العصبية كانت فعالة منذ آلاف السنين، ولكنها فقدت حساسيتها مع الزمن ولم يعد لها مفعول يُذكر، ولكن -وكما نعلم- هنالك كثير من الحيوانات تتخاطب بلغة الإشارات الكيميائية كالنمل مثلاً. ويؤكد العلماء أن هذا العضو كان مستخدمًا بفعالية كبيرة لدى البشر في عصور سابقة.
أجل، لقد اكتشف العلماء وجود عضو ضامر خلف أنف الإنسان (القسم الأحمر)، وهذا العضو كان ذات يوم يتحسس المواد الكيميائية المنبعثة من أشخاص آخرين ومن مكان بعيد، ويستطيع الدماغ قراءة المواد الكيميائية كما يقرأ أحدنا الرسالة.
حتى إن العلماء اليوم يعتقدون بوجود إشارات كيميائية يتم تبادلها بين البشر، ويحاولون دراسة هذه الإشارات وتأثيراتها واستكشافها، وبالتالي يعتقدون بوجود مواد كيميائية تميز كل إنسان عن الآخر، بل وتميز الرجال عن النساء. كما يؤكد الباحثون أن الكثير من الثدييات -مثل الفئران- تتخاطب بالرموز الكيميائية.. ويقول العلماء إن الإنسان يستطيع أن يميز عشرة آلاف نوع مختلف من أنواع الرائحة.
اكتشفت الدكتورة “ليندا باك” (Linda Buck) أن أجهزة التحسس في أنف الإنسان تتلقى الروائح وتعاملها مثل الرسائل المؤلفة من أحرف ألفبائية، ثم تحولها إلى الدماغ ليتعرف عليها، وبالتالي هناك إمكانية للتعرف على آلاف المواد الكيميائية.
إن العلم اليوم يقرر حقيقة علمية، وهي ثبات رائحة الإنسان وتميزها عن غيره؛ فلكل منَّا رائحة تختلف عن الآخر، حتى إنه ليمكننا القول بأن كل إنسان له بصمة كيميائية تتمثل في إفراز جسده لمواد محددة تختلف عن أي إنسان في العالم، وتبقى هذه الرائحة مرافقة له في عرقه -مثلاً- منذ ولادته وحتى الموت.
يقول ثلاثة علماء من جامعة هارفارد الأمريكية (Liman, Corey, Dulac)، بأن هنالك جزيئات تدعى TRP2 تتموضع على الخلايا العصبية، وعندما تأتي المواد الكيميائية التي يطلقها إنسان آخر، فإنها تندفع عبر الجزيئات TRP2 وتسبب تغيرًا في توتر الخلية (الطاقة الكهربائية المختزنة في الخلية)، وبالتالي ترسل الخلية إشارات كهربائية إلى الدماغ، يحللها الدماغ مثل رسالة بريد إلكتروني.
وهنالك مواد كيميائية يطلقها الإنسان وتؤثر على سلوك الآخرين، ويطلق اليوم العلماء مصطلح “ذاكرة الرائحة” للدلالة على وجود تقنيات في دماغ الإنسان تستطيع تذكر الروائح والتفاعل معها، بل وتستطيع هذه الروائح إحداث تغييرات فيزيولوجية في الإنسان.
وتؤكد الدكتورة “ليندا باك” من جامعة هارفارد، أن الروائح تستطيع التأثير في سلوك البشر، وتستطيع الروائح تنشيط مناطق كثيرة في الدماغ، فتجعل الإنسان يتذكر أشياء ارتبطت برائحة المادة التي يشمها، ويستطيع الإنسان تذكر أشياء مضى عليها عشرات السنين ويربطها بهذه الرائحة.
الرؤيا والشم

إن عملية شم الروائح وتحليلها عند الإنسان عملية معقدة جدًّا لا يزال العلم يكتشف بعض أسرارها، منها أن مركز الشم يرتبط بالعديد من أجزاء الدماغ مثل الرؤيا، أي إن هناك علاقة بين الرائحة التي يشمها الإنسان، وبين ذكرياته وما يراه وما يؤثر على مركز الرؤيا في الدماغ.

وبتعبير أوسع، يؤكد العلماء على وجود علاقة بين الروائح التي يشمها الإنسان وبين الكثير من مناطق الدماغ، مثل التذكر والرؤيا وحتى تغير السلوك الإنساني، أي إن الرائحة التي يشمها الإنسان، قد تؤثر في القسم الأمامي من الدماغ المسؤول عن السلوك والقيادة واتخاذ القرارات. ولذلك من الممكن علميًّا أن تتعطل منطقة ما من مناطق الدماغ بسبب معين، ثم تأتي رائحةٌ تذكر ذلك الشخص بالسبب الذي أدى لحدوث هذا التعطل، وبالتالي يتم تنشيط هذا الجزء المعطل وإعادته لصورته الطبيعية.
وبما أن البشر كانوا يملكون قدرة كبيرة على تحليل الإشارات الكيميائية أو الروائح، فإن سيدنا يعقوب عليه السلام استطاع تذكر رائحة ابنه الذي مضى على غيابه عشرات السنين، بينما بقية أفراد العائلة لم يصدقوا ذلك، إذ إن الجميع يظن بأن يوسف قد أكله الذئب، ولذلك (قَالُوا تَاللهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلاَلِكَ الْقَدِيمِ)(يوسف:95).

إن عملية شم الروائح وتحليلها عند الإنسان عملية معقدة جدًّا لا يزال العلم يكتشف بعض أسرارها، منها أن مركز الشم يرتبط بالعديد من أجزاء الدماغ مثل الرؤيا، أي إن هناك علاقة بين الرائحة التي يشمها الإنسان، وبين ذكرياته وما يراه وما يؤثر على مركز الرؤيا في الدماغ.
إذن ما جاء في القرآن موافق للمنطق العلمي وللمكتشفات الجديدة ولا يناقضها أبدًا، وإذا تذكرنا بأنه قبل آلاف السنين لم يكن هنالك أي تلوث، فإن أي رائحة مميزة ستنتشر بشكل أفضل من انتشارها في عصرنا هذا الذي غلب عليه التلوُّث في الهواء. وإذا علمنا أيضًا أن العلماء يؤكدون على قدرة الإنسان على تذكره الروائح لفترات طويلة من الزمن، وإذا تذكرنا ما يقوله العلماء حول تأثير هذه الروائح على السلوك الإنساني، فيمكننا عندها أن ندرك علاقة رائحة القميص بتذكر الوالد لولده من قصة سيدنا يوسف ورجوع بصره إليه فرحًا بهذه البشارة.
إن دماغ الإنسان يقرأ الروائح كما يقرأ الرسائل المكتوبة، أي إن سيدنا يعقوب كان ينتظر هذه الرسالة ليتعرف من خلالها أن ابنه لا زال حيًّا يُرزق، وبالتالي ستكون سببًا في رد بصره إليه، قال تعالى على لسانه: (إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ)، لأن سيدنا يعقوب عليه السلام قد وجد فعلاً هذه الرائحة، وتعرَّف عليها جيدًا، لأنه كان يبحث عنها طوال سنوات، وهذا يدل على الثقة الكبيرة لسيدنا يعقوب بهذه الرائحة، وأن يوسف لا يزال حيًّا.

(*) باحث في الإعجاز العلمي والرقمي في القرآن والسنة / سوريا.