لو قلَّبنا نظرنا بين السماء والأرض، لرأينا من عجيب الصنع في فضاء الكون من خلال السيارات التي تسبح فيه، وفي الأرض من خلال تكوينها والتوازن المدهش في نظامها. وإن من ينظر في عالم الحيوان من خلال حياته وغرائزه وإلهاماته، فسيرى بدائع الصنع أيضًا في هذا العالم الواسع العجيب، مما لا يمكن أن يتحقق إلا عن طريق قدرة قاصدة إلى هذه النتائج التي سنذكرها، بما فيها توجيه لهذه الحيوانات من إلهامات تتجلى فيها هذه القدرة. فالإنسان يملك التعقل وهي عملية حسابية مدروسة، فيها المقدمات والنتائج، وهي مناط التكليف والحساب والمساءلة.. ويملك الغريزة التي تجعل طفلاً وليدًا يلقم الثدي ويبكي ويخاف ويفرح ويتألم.
إن الحيوان يعتمد على الإلهام في طعامه وشرابه وتزاوجه، وفي معرفة العدو والصديق، وفي تقدير المخاطر وتدبير كيفية تجاوزها.. ولقد سماه الله تعالى وحيًا: (وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ)(النحل:68). الإلهام هو أبلغ دليل على وجود الملهِم، وإن كافة الكائنات الحية لتأتي بأعمال لا إرادة لها فيها، إنما تقوم بما نسميه “إلهامًا”. فلا بد من وجود الملهِم إذن. وفيما يلي بعض عجائب الإلهام في عالم الحيوان.
تستطيع طوائف من العناكب والزنابير أن تحفظ اللحم أسابيع فلا يفسد، دون الاستعانة بما تفتقت به حيل الإنسان من تبريد أو تثليج
بعض مظاهر الإلهام في عالم الحيوان
هناك بعض الأنواع من العناكب المائية تعمل ما يَحار فيه العقل الإنساني رغم ما أوتيه من طاقة، إن هذا النوع من العنكبوت إذا أرادت أن تلد تصنع لنفسها عشًّا على شكل بالون من خيوط بيت العنكبوت وتعلقه بشيء ما تحت الماء. ثم تمسك ببراعة فقاعة هواء في شعر تحت جسمها، وتحمله إلى الماء ثم تطلقها تحت العش، ثم تكرر هذه العملية حتى ينتفخ العش، وعندئذ تلد صغارها، وتربيها آمنة عليها من هبوب الهواء. كما يتقن هذا النوع من العنكبوت عدة فنون من النسيج القابل للتماسك وسط الماء، والدقة الهندسية والتركيب، والملاحة الجوية.
ومن أروع الأمثلة على الإلهام، ما نراه في حيوان الاكسيلوكوب الذي يعيش منفردًا في فصل الربيع، ومتى باض مات؛ إذ الأمهات لا ترى صغارها ولا تعيش لتساعدها في غذائها لمدة سنة كاملة، لذلك نرى الأم تعمد إلى قطعة من الخشب فتحفر فيها حفرة مستطيلة، ثم تجلب طلع الأزهار وبعض الأوراق السكرية وتحشو بها ذلك السرداب، فمتى فقست البيضة وخرجت الدودة كفاها الطعام المدخر سنة كاملة. والسؤال الذي يطرح نفسه في هذا، هو: مَن أودع في هذا الحيوان تلك الرحمة، ومن ألهمه ذلك الحنان؟
ومن المذهل في هذا الباب، أن الزنبور يصيد الجندب النطاط وينخزه بإبرته في مكان مناسب، بحيث يفقده وعيه مع بقائه حيًّا كنوع من اللحم المحفوظ، فلا يكثر السم فيه لئلاَّ يميته أو يسمم لحمه الصغارَ إذا أكلوا منه، ولا يقلله حتى يبقى محتفظًا بوعيه فيفر، وبعد ذلك يحفر له حفرة في الأرض، ثم تأتي أنثى الزنبور وتضع بيضًا في المكان المناسب بالضبط، ثم تغطي هذه الحفرة وترحل، ثم تموت بعد أن أمَّنت وسيلة الحياة لأولادها وهم صغار لا يستطيعون الحركة. فمن الذي علمها ذلك يا ترى؟ وما هي الفائدة المادية والمعنوية التي سوف تعود على أمٍّ من صغار لن تراهم لكي تقوم بكل هذه التضحيات؟ لو بحثنا عن إجابة فلن نجد إلا إجابة واحدة أنها مفطورة على ذلك.
ومن الملفت للنظر والانتباه أن الجراد البالغ من العمر سبعة عشر عامًا في أقليم نيو إنجلاند، يغادر شقوقه تحت الأرض حيث عاش في ظلام مع تغير طفيف في درجة الحرارة، ويظهر بالملايين في 24 مايو من السنة السابعة عشرة تمامًا، بحيث يضبط مواعيده للظهور في اليوم تقريبًا بهداية يعجز عنها الإنسان لولا أنه يستعمل التقويم.
ولعل من أعجب ما اكتشفه العلم، أن كل إناث الطير -من أي نوع كانت- تضع من البيض عادة نفس العدد الذي تضعه في كل بطن؛ فبعضها يضع من ثلاث بيضات إلى خمس، وبعضها من خمس إلى ست.. غير أنه قد لوحظ أنه إذا رُفع من تحتها بعض بيضها، وضعت بدلاً منه لتساويه في العدد، وهذه القدرة على إنتاج البيض تكاد تكون عجيبة لا يصدقها العقل.
ذكرت مجلة “ذي أوك” (AUC Times Magazine) أن بعض علماء الطير عمدوا إلى طائر النقار، فأخذوا من وكره بيضه ما عدا واحدة، وظلوا يكررون أخذ البيض ليروا إلى متى يظل يضع من البيض بدل ما أُخِذ، فوضع الطائر الذي حيره الأمر 71 بيضة في 73 يومًا.
والجهد الذي يعانيه الطير في جلب الطعام لصغاره وتغذيتهم، لأمرٌ يعلمه كل من رأى الطير وصغارها.
يقول الدكتور “أرثر ألن” من جامعة “كورنل” بأنه تحرى الدقة في عدد رحلات أنثى عصفور “العصو” تطلب الطعام لتغذية صغارها، فوجد أنها أطعمتها 1217 مرة ما بين الفجر ومغرب الشمس. وأما كيفية تمييز الأم المحتاج إلى التغذية من فراخها، فهو من دلائل ما أودعه الخالق من أسرار وإلهام. فإن النظام الدقيق الذي ركب في حلق كل فرخ، يقضي بأنه إذا امتلأ أبطأ في ابتلاع ما يزق به، فما على الأم عند ذلك إلا أن تزق الذي يفتح لها منقاره، ثم تراقب العاقبة بدقة، فإذا رأت الطعام لا ينزلق في الحلقوم، امتصته ثانية وزقت به الذي يليه، أي إن الذي يبتلع الطعام من فوره، هو أفرغها من الطعام جوفًا.
تقليب البيض للتفريخ
خطر لعالم أمريكي أن يستفرخ البيض دون حضانة الدجاج، بأن يضع البيض في نفس الحرارة التي ينالها البيض من الدجاجة الحاضنة له، فلما جمع البيض ووُضع في جهاز التفريخ، نصحه فلاح أن يقلب البيض حيث رأى الدجاجة تفعل ذلك، فسخر منه العالم وأفهمه أن الدجاجة إنما تقلب البيض لتعطي الجزء الأسفل منه حرارة جسمها الذي حرمته، أما هو فقد أحاط البيض بجهاز يشع حرارة ثابتة لكل أجزاء البيضة، واستمر العالم في عمله حتى جاء دور الفقس وفات ميعاده ولم تفقس بيضة واحدة. أعاد التجربة وقد استمع إلى نصيحة الفلاح، أو بالأحرى إلى تقليد الدجاجة، فصار يقلب البيض، وعندما جاء ميعاد الفقس خرجت الفراريج.
والتعليل العلمي لتقليب البيض هو ترسب المواد الغذائية في الجزء الأسفل من جسمه، وإذا بقي بدون تحريك تتمزق أوعيته، ولذلك فإن الدجاجة لا تكتفي بتقليب البيض في اليوم الأول والأخير. أَوَليس في هذا ما يدل على أن الدجاجة تقلب البيض عند الحضانة بإلهام عجز عن معرفته الإنسان بالمحاكاة بالرغم من كثرة ما يعلمه؟
حماية بيض الحشرات من غوائل الجو
من قديم الزمان تصنع الحشرات لبيضها ما يشبه الزجاجة المفرغة التي تحفظ فيها السوائل على درجتها من الحرارة، وتنتفع بها في حماية بيضها من عوادي الجو المتقلب، فهي تحيط البيض بكتلة هشة خفيفة من الفقاعات، وما تحوي هذه الفقاعات من هواء يقوم مقام الطبقة المفرغة حول الزجاج فيقلّ تسرب الحرارة والبرودة إلى داخلها، ومهما اشتدت حرارة الجو أو قرص البرد، نرى البيض داخل هذه الغلالة على درجة ثابتة وبمنجاة من تقلب الجو.
إن من ينظر في عالم الحيوان من خلال حياته وغرائزه وإلهاماته، فسيرى بدائع الصنع أيضًا في هذا العالم الواسع العجيب، مما لا يمكن أن يتحقق إلا عن طريق قدرة قاصدة إلى هذه النتائج
حفظ اللحم طريًّا
تستطيع طوائف من العناكب والزنابير أن تحفظ اللحم أسابيع فلا يفسد، دون الاستعانة بما تفتقت به حيل الإنسان من تبريد أو تثليج.. أي إنها تحفظ صيدها من الحشرات التي تزيد على حاجتها بطريقة لم يستطع الإنسان أن يصل إليها، فهي تفرز في أبدانها مادة تخدرها دون أن تميتها فيبقى غذاؤها دائمًا طريًّا طازجًا، بل حيًّا لحين استهلاكه، ولم يتمكن العلم حتى الآن من تخدير ذبيحة الإنسان والإبقاء عليها بحيـاة كاملة دون موت لحين استهلاكهـا.
تكييف خلية النحل
يلزم ليرقات نحل العسل حفظ الهواء على درجة ثابتة من الحرارة والتهوية التامة لتظفر بأسباب الحياة والنمو في الخلية، ومن أجل ذلك فثمة طائفة من النحل لا عمل لها في الخلية إلا إجهاد عضلاتها لتولد حرارة في أبدانها لتشع في أرجاء الخلية، بينما هناك طائفة أخرى تجثم على الأرض وتحرك أجنحتها بسرعة معينة محكمة لتوليد تيار من الهواء يكفي الخلية، فتكون بذلك مكيفة الجو هواءً وحرارةً.
زراعات النمل
يذكر “رويال ديكنسون ” أحد علماء التاريخ الطبيعي في كتابه “شخصية الحشرات”، أنه ظل يدرس مدينة النمل حوالي عشرين عامًا في بقاع مختلفة من العالم، فوجد أن كل شيء يحدث في هذه المدينة بدقة بالغة وتعاون عجيب، ونظام لا يمكن أن نراه في مدن البشر، علاوة على الهدوء والسكون.
ويشير العالم المذكور إلى أن النمل زرع مساحة غطَّتْ 15 مترًا من الأرض، كما أنه وجد جماعة من النمل تقوم بحرثها على أحسن ما يقضي به علم الزراعة؛ فبعضها زرع الأرز، وجماعة أزالت الأعشاب، وغيرها قامت لحراسة الزراعة من الديدان.
ولما بلغت عيدان الأرز تمام نموها، كان يرى صفًّا من شغالة النمل لا ينقطع يتجه إلى العيدان، فيتسلقها إلى حب الأرز، فتنزع كل شغالة من النمل حبة، وتنزل بها سريعة إلى مخازن تحت الأرض. وقد طلى العالمُ أفرادَ النمل بالألوان، فوجد أن الفريق الواحد من النمل يذهب دائمًا إلى العود الواحد حتى يفرغ ما عليه من الأرز.
ولما فرغ من الحصاد، هطل المطر أيامًا وما أن انقطع حتى أسرع إلى مزرعة النمل ليتعرف أحواله، فوجد البيوت تحت الأرض مزدحمة بالعمل والعمال والأعمال، ووجد النملة تخرج من بيتها للشمس وتضع حبتها لتجف من ماء المطر. و ما أن ولّى الظهر حتى جف الأرز وعاد الشغالة به إلى مخازن تحت الأرض.
(*) استشاري في طب وجراحة العيون / مصر.