إن القدس الشريف من أهم المراكز الثقافية التي قصدها الرحالة العرب والمسلمون، يزورونها في أكثر الأحيان قبل الإياب إلى أوطانهم بعد أداء فريضة الحج؛ معتبرين هذه الزيارة من متممات الفضائل الدينية.
يتحدث “المقدسي البشاري” (336-380هـ) في كتابه “أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم” عن مكانة القدس العلمية وقتذاك فيقول: “وفيها كل حاذق وطبيب، وإليها قلب كل لبيب، ولا تخلو كل يوم من غريب”. ومن الدلائل على مكانة القدس العلمية، أن الكتب التي أُلفت في فضائلها كتب أغلبها في القدس”.
أبو بكر بن العربي الإشبيلي
محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الله بن أحمد بن العربي، المشهور بالقاضي أبو بكر المعافري الإشبيلي المالكي؛ عالم أهل الأندلس ومسندهم، وُلد بإشبيلية سنة 486هـ، وفيها نشأ وقرأ القراءات وسمع من أبي عبد الله بن منظور، وأبي محمد بن خزرج. ثم رحل عام 485هـ/1092م بصحبة أبيه إلى الشرق لأداء فريضة الحج ولم يتجاوز بعدُ السابعة عشر من العمر، كما ذهب إلى بغداد مع أبيه للدعاية السياسية لابن تاشفين ولتحصيل العلم. فزار مصر ومكة ودمشق وبغداد، واستقر بفلسطين لأكثر من ثلاث سنوات، ثم رجع إلى وطنه بعد غيبة دامت عشرة أعوام.

إن القدس الشريف من أهم المراكز الثقافية التي قصدها الرحالة العرب والمسلمون، يزورونها في أكثر الأحيان قبل الإياب إلى أوطانهم بعد أداء فريضة الحج؛ معتبرين هذه الزيارة من متممات الفضائل الدينية.

سمع بالحرم الشريف من الحسين بن علي الفقيه الطبري، وبالشام من الفقيه نصر المقدسي وأبي الفضل بن الفرات، وسمع في بغداد من أبي طلحة النعالي، وجعفر بن السرَّاج، وتفقه على أبي حامد الغزالي، وفي بيت المقدس من مكيِّ بن عبد السلام الرُّمَيلي، وأبي بكر الفهري، وأبي بكر الطرطوشي، وبمصر من القاضي أبي الحسن الخِلَعي، ومحمد بن عبد الله بن داود الفارسي. ثم رجع بعد وفاة أبيه بالإسكندرية إلى الأندلس سنة 491هـ وولي القضاء بها، ثم حُمل مع من حُمل إلى مدينة مراكش، ثم انصرف منها إلى فاس فأدركته المنية فيها في ربيع الآخر سنة 543هـ.
إنجازاته العلمية
كان أبو بكر بن العربي الإشبيلي، من أهل التفنن في العلوم والاستبحار فيها والجمع لها، مقدّمًا في المعارف كلها، متكلمًا في أنواعها، نافذًا في جميعها، حريصًا على أدائها ونشرها.. له شهرة في علمه، أخذ جملة من الفنون حتى أتقن الفقه والأصول وقيَّد الحديث، واتسع في الرواية وأتقن مسائل الخلاف والكلام، وتبحّر في التفسير. صنف كتبًا في الحديث والفقه والأصول والتفسير والأدب والتاريخ. ولي قضاء إشبيلية، حيث قال عنه ابن بشكوال: “هو الإمام الحافظ ختام علماء الأندلس”.
من أشهر مؤلفات ابن العربي “ترتيب الرحلة للترغيب في الملة” الذي وصف فيه رحلته إلى القدس، و”أحكام القرآن”، و”العواصم من القواصم”، و”قانون التأويل”، و”كوكب الحديث والمسلسلات”، و”نزهة الناظر”، وغيرها من الكتب.
وابن العربي هو الذي نقل من الشرق إلى الغرب الإسلامي مجموعة من أمهات كتب الأشاعرة، وذلك عندما التقى في العراق بأبي حامد الغزالي، وروى عنه مجموعة من كتبه من أهمها “إحياء علوم الدين”.
يقول ابن خلدون: “إن ابن العربي من أول الجالبين لكتاب إحياء علوم الدين للغزالي عند عودته من الرحلة الشرقية عام 495هـ”.
الرحلة ومقصدها الظاهر والباطن
رحل ابن العربي في شبابه من الأندلس إلى المشرق لقضاء مناسك الحج، ومن ثم عرج على العراق طلبًا للتوسع في العلم والاحتكاك بعلماء العصر هناك والأخذ عنهم، هذا ما كان ظاهرًا من أمر رحلته مع أبيه إلى الشرق.
أما مقصد الرحلة الباطن فيذكره ابن خلدون في “المقدمة”، حيث يذْكُر غرضًا آخر من أغراض الرحلة وهو الغرض السياسي، حيث خرج عبد الله بن العربي وابنه، مُوفدَين من يوسف بن تاشفين إلى عاصمة الخلافة العباسية لملاقاة الخليفة، والتمهيد لزيارة رسمية لانتزاع اعتراف رسمي من الخلافة بمُلك ابن تاشفين، ومن ثم كان والد ابن العربي أول سفير سياسي لدولة المغرب في عصر ابن تاشفين.
يقول ابن خلدون: “لمَّا كبرت مملكة يوسف بن تاشفين واتسعت عمالته، اجتمع إليه أشياع قبيلته وأعيان دولته، وقالوا له: “أنت خليفة الله في أرضه، وحقُّك أكبر من أن تدعى بالأمير، بل ندعوك بأمير المؤمنين”، فقال لهم: “حاشا لله أن نتسمَّى بهذا الاسم، إنما يتسمَّى به خلفاء بني العباس لكونهم من تلك السلالة الكريمة، ولأنهم ملوك الحرمين مكة المكرمة والمدينة المنورة، وأنا راجلهم والقائم بدعوتهم”، فقالوا له: “لا بد من اسم تمتاز به”، فأجاب بأمير المسلمين وناصر الدين، وخطب له بذلك في المنابر، وخوطب به من العُدْوَتَيْن؛ أي المغرب والأندلس”.
وصف القدس في عصره
في رحلته من الأندلس إلى المشرق نزل ابن العربي وأبوه بفلسطين، وأقام في القدس الشريفة ثلاث سنوات ليأخذ العلم عن علمائها. وفي رحلته التي دونها ابن العربي، يصف دخوله بيت المقدس وما شاهده فيها: “فدخلنا الأرض المقدسة وبلغنا المسجد الأقصى، فلاح لي بدر المعرفة فاستنرت به أزيد من ثلاثة أعوام. وحين صلَّيت بالمسجد الأقصى فاتحة دخولي له، عمدتُ إلى المدرسة الشافعية بباب الأسباط، فألفيتُ بها جماعة من علمائهم في يوم اجتماعهم للمناظرة عند شيخهم القاضي الرشيد يحيى، والمقدسي، وهم يتناظرون على عاداتهم”.
ويذكر ابن العربي أن والده أراد في موسم الحج -وهما بفلسطين- أن يتوجه به للحج مرة أخرى قبل العودة للأندلس، ولكن الابن قال بعد أن خلب بيت المقدس لبَّه: “فقلت لأبي رحمة الله عليه: إن كان لك نية في الحج مرة أخرى فامض لعزمك، فإني لست بِرامٍ هذه البلدة حتى أعلم علمَ من فيها، وأجعلُ ذلك دستورًا للعلم وسُلَّمًا إلى مَراقيها”.
ثم وصف لنا ابن العربي لقاءه بشيخه أبي بكر الطرطوشي فقال: “ومشينا إلى شيخنا أبي بكر الفهري رحمة الله عليه، وكان ملتزمًا من المسجد الأقصى -طهره الله- بموضع يقال له “الغوير” بين باب الأسباط ومحراب زكريا ، فلم نُلفِه به واقتفينا أثره إلى موضع يقال له “السكينة” فألفيناه بها، فشاهدت هَديه وسمعت كلامه فامتلأتْ عيني وأذني منه، وانفتح لي منه إلى العلم كل باب، ونفعني الله به بالعلم والعمل، ويسَّر لي على يديه أعظم أمل، فاتخذت بيت المقدس مَباءة والتزمت فيه القراءة، لا أُقبل على دنيا ولا أكلِّم إنسيًّا، نواصل الليل بالنهار”.
ثم يذكر ابن العربي أغراض العلوم التي حصلها ببيت المقدس والكتب التي قرأها قائلاً: “ولم نزل على تلك السجية حتى اطلعتُ -بفضل الله- على أغراض العلوم الثلاثة: علم الكلام، وأصول الفقه، ومسائل الخلاف، التي هي عمدة الدين والطريق المهيع إلى التدّرب في معرفة أحكام المكلفين، الحاوية للمسلك والدليل، الجامعة للتفريع والتعليل”.

وصف ابن العربي النشاط العلمي الذي ساد في مدينة القدس في ذلك العصر بالجودة، هذا النشاط لم يقتصر على تدريس الطلاب، إنما شمل أيضًا المحاورات والمناظرات العلمية التي كانت تعقد بين جميع فئات المجتمع ممن تهتم بالعلم

ويذكر ابن العربي أسماء العلماء الذين وردوا على القدس من مختلف الأمصار في عصره فيقول: “وفي أثناء ذلك، ورد علينا برسم زيارة الخليل صلوات الله عليه، ولنية الصلاة في المسجد الأقصى، جماعة من علماء خرسان كالزوزني، والصاغاني، والزنجاني، والقاضي الريحاني، ومن الطلبة جماعة كالبسكري، وساتكين التركي”.
ويذكر ما جرى بينه وبين هؤلاء العلماء من مناظرات في العلم، وما جرى بينهم وبين اليهود والنصارى من مناظرات في العلم فيقول: “أَدخُل إلى مدارس الحنفية والشافعية في كل يوم لحضور التناظر بين الطوائف لا تلهينا تجارة”. وعن إحدى المناظرات التي دارت بين أتباع الطوائف المختلفة يقول: “ونظرتُ إلى كل طائفة تناظر، وناظرتها بحضرة شيخنا أبي بكر الفهري -رحمه الله- وغيره من مشيخة أهل السنة، وكنا نفاوض الكرامية والمعتزلة والمشبهة (وكلها فرق إسلامية) واليهود، وكان لليهود بها حبرٌ منهم يقال له “التستري”، لقنا فيهم ذكيًّا بطريقتهم، وناظرنا النصارى بها، وقد حضرنا يومًا مجلسًا عظيمًا فيه الطوائف، وتكلم التستري الحبر اليهودي على دينه، فقال: اتفقنا على أن موسى نبي مؤيد بالمعجزات، معلّم بالكلمات، فمن ادَّعى أنه غير نبي فعليه الدليل، وأراد من طريق الجدال أن يرد الدليل في وجهتنا حتى يطرد له المرام، فقال له الفهري: إن أردت بموسى الذي أيد بالمعجزات وعلم الكلمات وبَشر بأحمد، فقد اتفقنا عليه وآمنا به وصدقناه، وإن أردت به موسى آخر فلا نعلم ما هو؟ فاستحسن ذلك الحاضرون، وأطنبوا في الثناء عليه فبهت الخصم وانقضى الحكم”.
وختامًا
وصف ابن العربي النشاط العلمي الذي ساد في مدينة القدس في ذلك العصر بالجودة، هذا النشاط لم يقتصر على تدريس الطلاب، إنما شمل أيضًا المحاورات والمناظرات العلمية التي كانت تعقد بين جميع فئات المجتمع ممن تهتم بالعلم، منهم العلماء والطلاب وأتباع المذاهب الإسلامية المختلفة والطوائف الدينية التي كانت تسكن مدينة القدس.
ومما يؤكد علو شأن العلم والمستوى العلمي المرتفع الذي تمتعت به القدس في ذلك العصر، أن ابن العربي الذي جاب بلاد العرب جمعيها من محيطها إلى خليجها، بُهر بذلك المستوى الرفيع، لذلك قرر البقاء في القدس لينهل من ينابيعها العلمية لمدة ثلاثة أعوام، رغم أن هدفه عندما زارها كان مجرد الزيارة والتبرك بمقدساتها، فهو لم يغادر المدينة إلا بعد أن نال منها علمًا غزيرًا، وأتقن علومًا دينية كثيرة.

(*) باحث في التراث العربي والإسلامي / مصر.