ما دامت رؤية الناس للخير والشر تتغير تبعا بتغير العقائد والمجتمعات والتطورات الاقتصادية والسياسية فلا يمكنهم أن يهتدوا إلى نظام مستقر ثابت الدعائم. ووعيا من الهدي القرآني بهذه الحقيقة ومراعاة منه لها فقد “بين للناس أن مقياس كل مصلحة هي الخلق المستمد من الفطرة والقائم على أساس العمل لمرضاة مثل أعلى هو غاية الإنسان من الحياة ومن العمل”.
ومن هنا تنبع الحاجة الماسة لتفعيل مقصد الشورى باعتبارها “ألفة للجماعة، ومسبارا للعقول، وسببا إلى الصواب..” كما ذهب إلى ذلك الفقيه المالكي أبي بكر بن العربي في أحكامه؛ خاصة وأن الشورى فضلا عن إسهامها في التمييز بين الخير والشر بين الصواب والخطأ، فإنها تسهم في الموازنة والمفاضلة بين صواب وأصوب، وحسن وأحسن من أجل اتباعه والأخذ به ما أمكن.
ولأن الشورى، في امتدادها الأفقي والعمودي الذي يشمل النظام الاجتماعي والعلاقات الاجتماعية والسياسية في كليتها، عادة ما تؤدي إلى تلافي الخطأ واجتنابه، و تحري الصواب والتمسك به، أو إلى الارتقاء إلى درجات الصلاح والإتقان الممكنة من خلال الإفادة من مختلف الآراء والاجتهادات؛ وهي بذلك تسهم في سداد قراراتنا واجتهاداتنا وتحالفاتنا وسياساتنا وسائر أضرب تصرفتنا.
وفي هذا السياق نجد إجمالا مكثفا لوظائف الشورى ومقاصدها فضلا عن الوصول إلى الصواب والأصوب، والحسن والأحسن في: الخروج من الأهواء والاعتبارات الذاتية، ترسيخ قيم النسبية والتواضع، تحقيق العدالة والإنصاف، إشاعة مناخ الحرية والمبادرة وتحرير الطاقات في البناء والإبداع، وتنمية القدرة على التفكير والتأمل، والتحفز لتنزيل ما تم التشاور حوله، والعمل على دعمه والدفاع عنه، وإشاعة مشاعر الألفة وتعزيز مطالب الوحدة، والاستعداد لتحمل التبعات والنتائج مهما كانت سلبية، الإسهام في تدبير الاختلاف والتنازع، ومنع الاستبداد والطغيان. كما تسهم في إطالة عمر نظام الحكم وضمان استقراره من خلال تجديد الإجماع حوله..
وبالمقابل فإن كلفة غياب مقصد الشورى عن حياة الأمة تكون بالغة الوخامة لأن غيابها يفضي، لا محالة، إلى التفرد والتعسف والظلم والطغيان والأثرة..ولأن الشورى نقيضة الاستبداد؛ فما أن تحل وتترسخ وتسود في صياغة السياسات العامة للجماعة الوطنية حتى يضمحل الاستبداد ويغيب، وما أن تغيب الشورى حتى يخيم الظلم ويعم الطغيان إيذانا بأفول الحضارة والعمران.
والحق في ممارسة الشورى، كمدخل للإسهام في تدبير الشأن العام للجماعة الوطنية، مثلما يؤدي إلى حماية الشعوب من استبداد حكامها وسوء تدبيرهم للشأن العام، فإنه يؤدي إلى حماية الحكام أنفسهم من نزعة الاستبداد ومن القابلية للاستبداد.
وهي القابلية التي تتسع كلما اتسع الفراغ الدستوري والمؤسسي الشوري الضامن للحقوق والحريات العامة؛ استلهاما لروح الشريعة وتحقيقا لمقاصدها الكلية في العدل والحرية والمساواة والكرامة الإنسانية..كما أن هذه القابلية تتسع كلما تجاهل ذوي الأمر حقيقة أن السلطة بطبيعتها تغوي على حد تعبير صاحب “روح القوانين” منتيسكيو.
ومن حسنات انفتاح الفقه السياسي الإسلامي على الفكر السياسي الحديث الارتقاء بالشورى من مجرد استبانة الرأي إلى حيازتها لقوة الإلزام القانوني. وسلطتها في تحديد الإطار القانوني الذي بمقتضاه يتم رسم السياسات العامة للدولة من خلال المؤسسات التشريعية.
ولا شك أن تفسير الاستمرارية التاريخية التي تميز نظام الملكية بالمغرب يعود، أول ما يعود، إلى تمثله لمبدأ الشورى؛ باعتبارها منظومة للقيم، وآليات لتدبير الشأن العام للجماعة الوطنية: خبرة تاريخية شورية معيارية تعززت بمنظومة دستورية قانونية ومؤسسية ديمقراطية حديثة..
المصدر: موقع مسارات للرصد والدراسات الاستشرافية