دعانا القرآن الكريم في أكثر من ألف آية، إلى تفعيل ملكاتنا العقلية في آيات الأنفس والآفاق. ومنها حشرة “النحل”؛ فهي حاوية لكثير من العبر، وجامعة للعديد من الدروس، ولهذا خصها الله بالذكر في واحدة من السور الكبيرة، وسماها باسمها: “النحل”، حيث أودع سبحانه وتعالى سره في أضعف خلقه، سواء في الجوانب المادية التي تستلزم الاستثمار، أو في الجوانب المعنوية التي تستوجب الاستهداء.
وفي هذه المقالة المقتضبة، سنعرّج على جوانب الاستهداء، وسنركز على استنباط عشرة قوانين للتميز الحضاري، مسطرين إياها بالعسل، ومرتشفين حلاوتها من الشهد النحلاوي، وذلك على النحو الآتي:
1- قانون التنوع المنساب
للنحل مملكة مترعة بالعجائب والدقائق، جعلتها مثالاً لانسجام الدأب وانتظام العمل، ونموذجًا لانسياب النشاط وسلاسة الحراك، حيث يحترم الجميع المهام ويقفون عند التخصصات، وينهمك الكل في العمل بلا تضارب ولا تناقض، ومن دون تداخل أو عشوائية.
حتى لكأن النحل نجوم أو كواكب تسبح في أفلاك الانسياب، أو كأنها تروس في مصنع الانضباط.
ولأن القيم لا تتجزأ، فإن انسجام النحل مع بعضها؛ صير أجوافها معامل لانسجام سائر أنواع الرحيق المجلوب من شتى الأزهار، والمأخوذ من سائر الثمار.وهو درس بليغ للبشر، يستحثهم على مزج أفكارهم كالعسل، وانسجام حركتهم كالنحل.
فهل يستفيد المسلمون من انسجام النحل ودروس سورة “النحل”؟ وهل سيغادرون “معارك التآكل العنكبوتي” إلى “معتركات التكامل النحلي”؟
وكيف ينبغي حدوث ذلك؟ وما هي القواعد والضوابط اللازمة لتحقيق هذه الغاية والضابطة لإيقاعات العمل، حتى لا يتردى مرة أخرى في مهاوي الفوضى، وينزلق إلى متاهات التنازع المدمر للطاقات والمهدر للأوقات؟
2- قانون التناسب الطردي بين اﻹمكانات والمكانة
لقد تحقق الانسياب في مملكة النحل بالتناسب، حيث يصل التناسب بين الأسباب والنتائج، أو بين السعي والحصاد، وكذا بين الإمكانات والممكنات، إلى سدرة المنتهى. فالسعي الحميم لجلب الرحيق هو سعي جماعي، لا يقلل من حركة النحلة بل يذكيها، إذ أن النحلة الواحدة تطير في اليوم ستين مرة ذهابًا وإيابًا!
هذا الجهد الجمعي المميز، أنتج ثمارًا مميزة هي خلاصة سائر الثمار، وهو العسل بخصائصه العجيبة كغذاء، وقدراته الخارقة كدواء لجهاز المناعة في جسم الإنسان. فمتى سنحقق التناسب بين ما نريد وما نعمل؟ وكيف سنستثمر ملكاتنا وإمكاناتنا لتحقيق المكانة اللائقة بنا؟
3- قانون الاقتباس المعملي
إن جلب النحل للرحيق من سائر الأزهار والثمار، هو درس بالغ الأهمية في ضرورة اقتباس الخبرات النافعة، للاستفادة من نقاط القوة والتفوق عند الآخرين، فالخبرة هي الرحيق النافع والترياق الناجع.
غير أن الدرس الأهم في هذا المجال، هو أن النحل صار معملاً لمزج وتكييف هذه العناصر وفق قوانين ألهمها الله إياها، للخروج بمادة جديدة ذات خصائص فريدة، ولا توجد في سائر العناصر الأولية؛ بمعنى أن الاقتباس الواجب، يقتضي جمع المميزات الحاضرة في العناصر المقتبسة مضاف إليها ميزة الصهر والتفاعل وفق منهجية علمية مقاصدية.
إن عملية صنع الرحيق الجديد، تتم في جوف النحلة، حيث منحها الله غددًا تفرز بعض الأنزيمات في العسل، وتمزجه بطريقة دقيقة، فتتكون داخله عشرات العناصر والفيتامينات البالغة الأهمية لجسم الإنسان: غذاء، ووقاية، ودواء!
ترى متى تترجم أمتنا إلهام النحلة إلى اجتهادات جماعية تتم في معامل ومراكز أبحاث لقضايا الاقتباس والتأصيل والتكييف، وفق قواعد وقوانين صارمة تمنع تحول الاقتباس الحضاري إلى غزو ثقافي؟
4- قانون التغيير الإستراتيجي
من يحلم بالتغيير الشامل ويريده لا يكتفي برسم الهدف الغائي، بل ينبغي أن يحدد وسائل وأساليب التغيير الإستراتيجي، وفق الإمكانات المتاحة التي ينبغي صهرها في بوتقة الإبداع، وتوظيفها بطريقة ذكية، حتى تؤتي ثمارها المرجوة، كالعسل الذي ينساب بسرعة إلى جهاز المناعة، وتصل آثاره القوية إلى كل خلية في الجسم؛ فيمدها بالحيوية، ويمنحها التجدد والتألق، ويهبها القوة التي تحيلها إلى صخرة تتحطم عليها موجات الفيروسات والجراثيم والبكتيريا الضارة، ومن هنا جاء حديث القرآن الكريم عن العسل بأن فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ(النحل:69).
5- قانون تحصين الداخل
أثبتت الدراسات العلمية والتجارب المعملية، أن العسل أهم عنصر في الأرض لتقوية مناعة جسم الإنسان، وأن من يتناولونه بمقادير منضبطة وبشكل مستمر، يستعصون على الأسقام والأمراض.
وبالنسبة للمجتمعات الإنسانية، وبعد استقراء تجارب الصراع البشري، اتضح أن أي مجتمع لا يمكن غزوه ما لم يكن جهازه المناعي ضعيفًا، وأن أي أمة لا يمكن أن تهزم ما لم تحمل في داخلها القابلية للهزيمة.
فكيف بالأمة الإسلامية التي تزيد على هذه السنة النافذة، بأن الله تعهد بأن لا يمكِّن عدوًّا من خارجها يستأصل شأفتها، وذلك لكونها أمة الرسالة الخاتمة للناس جميعًا.
وهذا يؤكد بأن ما تتعرض له الأمة من تخلف ماحق وعداوات لازبة، كلها ذات خلفية محلية وجذور داخلية.وأن الخروج من هذه الدوامة، لا يمكن أن ينجح ما لم تتقو منظومة المناعة الاجتماعية، ابتداء بتمتين حصون الوعي، وتقوية صروح العدل.
6- قانون العطاء “الإنسان العسلي“
من المعلوم أن الإنسان كائن اجتماعي، ويمتلك القدرة على التأثير والتأثر، غير أن الإنسان الأصيل صاحب شخصية قوية، ويعطي أكثر مما يأخذ، ويؤثر أقوى مما يتأثر. وهو يشبه العسل الذي يبلسم جروح الناس ويداوي عللهم، فيحدث آثارًا عظمى على الصحة عبر تقوية الجهاز المناعي، غير أنه يستعصي على التغير، لدرجة أن العلماء اندهشوا عندما وجدوا عسلاً في مقابر فراعنة مصر لم يصبه بعد آلاف السنين إلا تغير بسيط في اللون، حيث مال إلى السواد.
ومع أن كل الحضارات تتأثر وتؤثر تأخذ وتعطي، إلا أن الحضارات المتألقة تعطي أكثر مما تأخذ.
ولو أخذت فإنها تأخذ مادة أولية تحولها بعلمها ودأبها إلى عناصر راقية توفر الرفاه للإنسان، كما تفعل الدول الغربية مع النفط الخام العربي، والذي تحيله إلى مئات الصناعات البتروكيماوية، بجانب فوائده المعروفة كطاقة أساسية لتسيير الحياة كافة.
7- قانون القيادة للنوال لا للنوع
ما تزال بعض المجتمعات البشرية تشهد صراعًا محمومًا بين مكوني الجنس البشري -الذكور والإناث- حيث تميل المجتمعات المتخلفة إلى تسييد الذكر لكونه ذكرًا كأنه يمتلك جينات التفوق، وتحمل الأنثى جينات التخلف. في مملكة النحل تقوم الإناث بمعظم المهام والوظائف، ومن هنا فإن قيادة مملكة النحل دائمًا ما تكون بيد الأنثى، أي أن التشريف مرتبط بالتكليف وليس بالجنس أو النوع، وبمعنى آخر فإن القيادة تميز عطائي لا امتياز نوعي.
8- قانون تعويض الحجم بالفاعلية
النحلة كائن حشري صغير، غير أن وظيفتها سمت بها بين سائر الحشرات، وفاعليتها رفعت شأنها بين كثير من الكيانات التي تكبرها في الحجم، وربما في الإمكانات غير المستثمرة.
وهذا ما يحدث للكائنات وللكيانات في عالم بني الإنسان، فهناك دول صغيرة الحجم بمساحتها وسكانها، وقليلة الموارد والثروات، غير أن فاعلية إنسانها بوّأتها أشرف المنازل، ورفعتها أعلى المراتب.
ولو ضربنا المثل باليابان مقابل العالم الإسلامي الذي يضم حوالي خمسين دولة، لوجدنا العجب العجاب وما يبعث على الاستغراب.
فمساحة اليابان قرابة ثلث مليون كم2، وسكانها يبلغون 129 مليون نسمة، في مقابل مساحة تصل إلى نحو 35 مليون كم2 ومليار ونصف المليار من المسلمين.
أما عن الثروات الطبيعية فالفرق هائل جدًّا، فليس لليابان ثروة طبيعية تعادل دولة إسلامية واحدة كإيران والتي تتجاوز اليابان بضع مرات بثرواتها الطبيعية.
غير أن صادرات اليابان تساوي عشرات الأضعاف مَثيلتها في إيران، بل تساوي صادرات العالم الإسلامي كله -ويا للفاجعة- ثلاث مرات. فلماذا هذا البون الشاسع بين المدخلات الكثيفة والمخرجات الخفيفة؟
إنه قانون الفاعلية الذي مكّن اليابان من تعويض الكم بالكيف عندما استثمرته، حيث رفعت من مدخلات صناعة الإنسان المتميز في فكره وفعله حتى بلغ ذروة التفوق والتألق، وصار ثروتها العظمى التي جلبت لها كل تلك الأموال، وصنعت لها ذلك الغنى الفاحش. وهذا كله جعلها أقوى حضورًا في مضمار صناعة الحضارة، وأشد فاعلية وثقلاً في ميدان التوازنات الدولية.
9- قانون الوسط العسلي أو تنظيف البيئة
ثبت أن العسل سمّ قاتل للبكتيريا، ولهذا فإن بيئة النحل شديدة النظافة والنقاء من البكتيريا والجراثيم الضارة. وبفضل هذه الخصيصة يعيش العسل فترات طويلة جدًّا دون حاجته إلى أي مواد حافظة.
إن مجتمعاتنا أحوج ما تكون للاستفادة من هذا الدرس البليغ.. فحتى لا تفسد رسالتنا، يجب أن تكون بيئتنا صحية الفكر، نقية الدوافع، خالية من بكتيريا الفساد، وقاتلة لديدان المحسوبية وجعلان العصبيات.
وهنا لا بد من تعسيل بيئتنا الاجتماعية عبر أساليب التعقيم والتنقية كافة، مثل بث النصيحة الصادقة، إشاعة النقد البناء، صناعة الفهم الراقي، بناء الوعي الجمعي، احترام القانون العادل، تفعيل الثواب والعقاب، تنشيط التعزيز والتعزير.
10- قانون الطيران الرسالي
يعلمنا “النحل” أن الكائن الرسالي الفاعل، ليس زاحفًا بل “طائرًا”. وكل صاحب رسالة لا بد أن يمتلك القدرة على الطيران، فيطير بجناحي الروح والمادة نحو آفاق الوسطية واليسر، وبجناحي الموهبة والمعرفة نحو معالي التميز والإبداع.
ولكي يصل مسلم الشهود الحضاري إلى أكبر عدد ممكن من الناس، ولكي يحلق في سماء القدوة -وهي أكبر وسيلة لتبليغ الرسالة- لا بد أن يمتلك أجنحة الطيران. أما إن ظل زاحفًا فوق تراب الجهل وطينة الظلم اللذين انسل منهما، فلن يلتفت إليه الناس، ولن يستمع إليه الخلق، وربما تعرض للدهس كالذر من قبل أقويائهم، سواء بقصد أو بدون قصد.