الجمال هو الرسالة الخالدة التي ينبغي أن يستنّ بها كل إنسان مسلم امتثالاً لمراد الله تعالى. من هنا، نجد “محمد فتح الله كولن” -وقد ملأ القرآن قلبه، وتفتقت على آياته قريحتُه- قد رسم في محاضراته ومؤلفاته وأعماله، لوحات غاية في الجمال، منقوشة بالكلمات والأفكار والمعاني الراقية والسامية. كما نجده ينادي ويلحّ في النداء إلى ضرورة التحلّي بالجمال سواء على مستوى البشرية أو على مستوى محبّيه من رجال الخدمة. ففي لحظة من لحظات الوجد والتدبر والتأمل والارتباط بالله تعالى، تجول عليه نفسُه بخاطرة البحث عن الذات، وعن الحرية، وعن الإنسانية في الإنسان، فيلجأ إلى “الجميل” تدبّرًا ودعاء وأملاً، ليستشفّ روح “الجمال” النابع من “الجميل”.. إنه الروح والإكسير الذي يبعث في الإنسان “الإنسان”، فيقول: “أنعمْ يا إنسان النظر، ومن سجن نفسك تحرر، ولمحات الجمال تشرب.. ودع قلبك يطير فرحًا، وروحك يرقص طربًا.. واستشرف جمال “الجميل” في كل جمال؛ تطمئن نفسك، ويزدد إيمانك، وإلى ربك تعد إنسانًا”.
إن الجمال -كما يقرر علماء التنمية والنهضة- هو الحيوية التي لها إمكان الدخول إلى المجالات كلها -مادية كانت أم معنوية- وهو الذي يسهم في كمال الأشياء ظاهرًا وباطنًا. ومهما قيل في تعريف الجمال، ومهما تحدث الناس في حقيقته، فإنه يظل مقياسًا من أهم المقاييس الحضارية. وهو مصدر من مصادر فرح الخاطر وابتهاج النفس. إنه الظل الذي يأوي إليه المكدود في وقت الظهيرة، وقطرة الماء التي ترطب جوف اللاهث الظمآن. إنه المسحة على رأس اليتيم، ولمسة الوفاء لمن أسدى إلينا معروفًا. إنه -قبل ذلك- ضرب من ضروب الإحسان والإتقان والكمال والتناسق والسمو.
فالجمال هو المفتاح السري للحضارة. أليست الحضارة في منتهى تجليها إلا الجمال في التناسق والنظام والفن في أرقى صوره، وأبهى معانيه؟ تلك هي الحقيقة التي أدركها “محمد فتح الله كولن” وهو يرسي قواعد النهضة التركية المعاصرة، وأدركها من قبله كل من كانت الحضارة همّه وهاجسه؛ فهذا “مالك بن نبي” -رحمة الله عليه- يرى في أن الجمال والفن ما إن تزاوج مع الأخلاق، شكّل الصبغة التي تكمل المشهد الحضاري المنشود، فيقرر “لا يمكن لصورة قبيحة أن توحي بالخيال الجميل، فإنها لمنظرها القبيح في النفس خيالاً أقبح.. والمجتمع الذي ينطوي على صور قبيحة، لا بد أن يظهر أثر هذه الصور في أفكاره وأعماله ومساعيه. فبالذوق الجميل الذي ينطبع في فكر الفرد، يجد الإنسان في نفسه نزوعًا إلى الإحسان في العمل، والإحسان هو الصورة النفسية للجمال.والإطار الحضاري بكل محتوياته متصل بذوق الجمال، بل إن الجمال هو الإطار الذي تتكون فيه أية حضارة، فينبغي أن نلاحظه في نفوسنا، وأن نتمثله في شوارعنا وبيوتنا ومقاهينا مسحة الجمال نفسها. إن الجمال هو وجه الوطن في العالم”.
والحق أن محمد فتح الله كولن لا يلبث أن ينبه إلى ضرورة الفن و الجمال في كل مقال يكتبه، حتى إنه عدّ من أبرز الصفات الثمانية لـ”ورثة الأرض”، ما سمّاه “بالوصف السابع، وهو “فكرنا الفني”. فالفن والجمال في تعاليمه أهم الطرق المؤدية إلى سمو الروح والمشاعر، وهو مفتاح سحري يفتح الكنوز السرية المكتشفة، فوراء الأبواب التي يفتحها تكتسي الأفكار صورها، وتكتسب الخيالات أجسامها، والمجتمع الذي ضيع الذوق الفني والجمال، لا يمكن -بحال من الأحوال- أن ينعم بحضور وشهود متكامل؛ وفي هذا يقول محمد فتح الله كولن: “الذين ضيعوا فرصة استعمال هذا الطريق من أصحاب القابليات والحظ السيئ، يعيشون طول حياتهم كأشخاص أصابهم الشلل النصفي”، بل يرى أن الإنسان المجرد من الحس الفني والشعور بقيمة الجمال يستوي في ميزان الإنسانية وجوده وعدمه، ذلك أنه لا يستطيع أن ينفع نفسه ولا أن ينفع أمته: “فالأرواح الخالية من الفن والمنغلقة دونه، يستوي وجودهم وعدم وجودهم، لأنه ليسوا إلا أفرادًا لا يستطيعون تقديم أي نفع لا لأنفسهم ولا لعوائلهم ولا لأمتهم، بل قد يكونون ضارّين أيضًا”.
لذلك يقرر محمد فتح الله كولن، أن الانطلاقة الحضارية تبدأ من ضرورة إيجاد الرؤية الكونية الصحيحة المتكاملة لتحقيق مهمة خلافة الله تعالى في الأرض، وهي الرؤية الغائبة -في منظوره- لحد الساعة في العالم الإسلامي بسبب غياب النظرة التكاملية والفهم الصحيح للإسلام، وحقيقة الوجود في كل أبعاده، ما نتج عنه “منذ عصور والناظر إلى المجتمع المسلم، لا يرى إلا أنقاضًا وأنكاثًا من حيث الأخلاق والفضيلة والعلم والفكر.. فهو بذلك ما زال يبحث عن نظام وفكر بديل في التربية والفن والأخلاق. والصحيح هو أننا بحاجة إلى إرادات فولاذية، وأدمغة أصيلة تحتضن الوجود بأعماقه جميعًا، والإنسان برحابه الدنيوية والأخروية، وتُفسّرهما بل وتتدخل في الأشياء بعنوان خلافة الله في الأرض”.
ولا يفوت كولن -ضمن نموذجه- الإشارة إلى جهاز الاستشعار الفني في الإنسان، والذي هو -قطعًا- ليس العين أو الأذن كما تجنح إلى ذلك العديد من الثقافات والجماعات.. وإن كانت هذه الوسائل تأتي من منظوره في المرتبة الثانية بعد الوسيلة الأهم والجهاز الأكفأ وهو القلب، الذي به الإدراك والإحساس الحقيقي لمعنى الجمال وأبعاده.. فالعيون والحواس الظاهرة ترى في الأشياء والحوادث وجوهها الظاهرية وجوانبها المادية، أما البصيرة -وهي ملكة إلهية تتجاوز الفكر- فتحدس وراء كل هذه المظاهر والأخلاق والفضيلة والفن والجمال، ودرجة النضج الروحي عمومًا.
ولكن، هل فعالية القلب ونور البصيرة في استشعار حقيقة الفن وتذوق سحر الجمال؛ مرتبطان بالكسبيات أم بالتربية والتوجيه؟ أم هما قدر على بعض الأمم والمجتمعات دون غيرها؟ أم هما أمر آخر غير ذلك؟ يجيب كولن بصراحة ووضوح؛ أن الأمر كسبي جهادي تربوي، إذ “لا بد أن تكون التربية التي تسمو به من درجة إنسان “بالقوّة” إلى إنسان “بالفعل”، ذات أفق لاهوتي و محور وهبي.. ومن مقترب آخر، أن يكون الإنسان “إنسانًا” وفق المعنى الذي يجعله إنسانًا حقًّا، مرتبط بخضوعه لأوامر قلبه واستماعه إلى روحه.. فعلى الإنسان أن ينظر إلى كل شيء وكل أحد بعين القلب، لأن البناء القلبي والرحابة الروحية للفرد، وتحول إيمانه ومعتقداته إلى جزء من طبيعته، هو الأنموذج المعول عليه في البناء والتشييد، وأنموذج للنظام والرقي.. لذلك ينبغي أن تتغذى “ثقافتنا الذاتية”، بورود حدائقنا وعصارات جذور معانينا وأرواحنا، حتى نبلغ مبتغانا من الفن والذوق الرفيع في كل شأن من شؤون حياتنا. هذه الحقيقة المهمة كفيلة بدعم ذاتيتنا وخصوصيتنا الاجتماعية والدينية والثقافية، وبخاصة وأن الفن لا يستورد مع البضائع والأفكار، وإنما هو ذاتي ملّي، وأي محاولة لمسخ مجتمع ما بفن منظومة أخرى، أو برؤية كونية مختلفة، هي محاولة لإلقاء ذلك المجتمع في هاوية سحيقة من التخلف والفوضى والتبعية والذل. والمصدر الوحيد للفن -في هذا النموذج- هو “مخافة الله تعالى”، والنظر إلى بديع صنعه”. نعم، إن تأمل الوجدان لحظة واحدة في كتاب الوجود فأبصر، لشهد في كل مكان النظام والانسجام فوّاحًا، وغنى في الجمال والمعاني مدهشًا. ولا تمس الحاجة إلى تحسس شديد الرهافة، فالقلب المشحون بشيء من المشاعر، يحسّ كل لون وصورة وصوت ونفس شعرًا ونغمًا متلونًا بألوان اللانهاية؛ في الرعد المهيب كما في تغريد الطيور وزقزقة العصافير، وفي وجوه الأزهار الفاتنة كما في أضواء صفحة السماء الساحرة.. ومن يدري ما يشهده الذين يتقدّمون خطوة إلى الأمام في فيزياء الوجود وكيميائه وحياتياته وفضائياته.
ويجمل محمد باباعمي مجموعة شيفرات للفن كما تجسدت في أفكار محمد فتح الله كولن، قائلاً: “ولقد تتبعت أوصاف الفنّ في هذه اللوحات والرسائل المشفّرة، فاكتمل عندي عقد به صدف، أنتقي منها للقارئ أمثلة، وهي:
*الفن من أهم الطرق المؤدية إلى سمو الروح والمشاعر.
*الفن مثل مفتاح سحريّ، يفتح الكنوز السرية المكتشفة.
*الفن طائر فكري يأخذ الإنسان في سياحة إلى فسيح بديع خلق الله تعالى.
*الفن هو من أهم العوامل التي تحافظ على المشاعر الإنسانية.
*الفن هو الذي جعل الأرض معبدًا للجمال الإلهي.
*يُظهر العمل الحقيقي نفسه بالفن.
*من لا فن له شبه حي، وشبه ميت.
الفن هو الذي يجعل الحديد أغلى من الذهب، والنحاس أثمن من البرونز.
الأرواح الخالية من الفن والمنغلقة دونه يستوي وجودهم وعدم وجودهم.
ولقد شهد شباب مشروع الخدمة، أن محمد فتح الله كولن، لم يدع إلى الجمال والفن بقلمه وحبره فقط، بل عاشه في كل نبرة، ومع كل زفرة، وعند كل نظرة.. حتى إنه غالبًا ما أرهقهم برهافة حسه، وأورثهم شعورًا متوتّرًا تجاه كل كلمة ينطق بها، أو سكتة يسكتها، أو يومئها.. ولا يزال هؤلاء الشباب يذكرون يوم اقترحوا على الأستاذ -وهو في أمريكا- تغيير أثاث صالون الاستقبال، فقبل الأستاذ المقترح على مضض، لكن أمارات الحزن بدت في تقاسيم وجهه، فلما سئل عن السبب، قال: “ألفتُ هذا الأثاث، وإني معترف له بخدمة كبيرة، ويحزنني أن يغادرني أو أستبدل به غيره. بيني وبينه إلف وحب، وحظ من الذوق والجمال لا ينكر”.
ولهذه الحال أمثلة كثيرة لا تعلن إلا على حقيقة واحدة، هي أن الفن والجمال إكسير الحياة، ومفتاح سحري، وطائر فكري، لا غنى عنه في مشروع، أو فكرة، أو حركة؛ وهو في “البراديم كولن” سبب من أسباب الرشد والنضج الفكري والحضاري والحركي.
ولا يفوت الحديث عن الجمال والفن في الرؤية الحضارية لمحمد فتح الله كولن؛ الإشارة إلى الذوق الرفيع، والحس والأدبي المرهف، والجمال الأخاذ، واللغة الشاعرية الرقيقة التي تصبغ كتابات فتح الله كولن، وهي وإن وصلت إلينا مترجمة في غالبها من التركية، إلا أن معانيها المتضمنة، تستنفر في داخل كل ذواق وفنان وشاعر تلك القيمة الكبيرة التي تميز هذا الرجل. لذلك نجده هو ذاته، له كلامه الخاص عن الأدب ومكانته وقيمته في الحياة العامة، بل وضرورته لفهم أسرار الوجود وتدبر كتاب الله تعالى. وفي هذا السياق يقول: “ولا بد من الاعتراف أن الأدب جمال وفن، ذلك أن الأديب كالفنّان، يبحث دومًا في ألوان الكون وخطوطه وأشكاله عن نفسه، وفي اللحظة التي يجد فيها ما يبحث ويعبّر عنه، يكسر قلمه ويرمي بفرشاته ويغيب بذهول وإعجاب عن نفسه.. والأدباء والشعراء بترنمهم بالجمال الباطني والظاهري، أي الجمال في الأنفس وفي الآفاق، يشبهون عازفي الناي”.
ومع كون الفن والجمال إكسير الأدب، إلا أن “العنصر الأساسي في الأدب هو المعنى. لذا يجب أن تكون الكلمات المذكورة قليلة وقصيرة وغنية بالمعاني”.هنا نجد محمد فتح الله كولن قد انتصر للمحتوى على حساب الشكل، لكن بغرض الدفاع عن حقيقة الوجود، وعن الإيمان برب الوجود. فالأدب لا يبحث عنه عند الأدباء واللغويين، بقدر ما يطلب عند المفكرين من ذوي القلوب الملهمة التي تحيط بالوجود، وتعرف كيف تتسع قلوبها للوجود كله.. وذوي الخيال الواسع الذين نجحوا في رؤية الدنيا والآخرة، وجهين لحقيقة واحدة.. والذين يملكون إيمانًا عميقًا، وفكرًا تركيبيًّا قويًّا.. أي إن مصدر الأدب، هو الرؤية الكونية الشاملة المتزنة، الكاملة المعاني والمعالم.
المراجع
(1) ألوان وظلال في سماء الوجدان، لمحمد فتح الله كولن، ترجمة: هيئة حراء، ط1، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة، 2013.
(2) مدخل إلى التنمية المتكاملة “رؤية إسلامية”، لعبد الكريم بكار، ط4، دار القلم، دمشق، 2011.
(3) ينظر شروط النهضة، لمالك بن نبي، ترجمة: عمر كامل مسقاوي، عبد الصبور شاهين، ط9، دار الفكر، دمشق، 2009.
(4) ونحن نقيم صرح الروح، لمحمد فتح الله كولن، ترجمة: عوني عمر لطفي أغلو، ط1، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة، 2012.
(5) الموازين أو أضواء على الطريق، لمحمد فتح الله كولن، ترجمة: أورخان محمد علي، ط1، دار النيل للطباعة والنشر، 2012.
(6) فتح الله كولن ومشروع الخدمة “على ضوء نموذج الرشد”، لمحمد باباعمي، ط1، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة، 2011.