من يطالع نصوص الشريعة يجد أن من أعظم مقاصدها؛ الرحمة والتواصل والتعارف. فالقرآن والسنة فيهما الدعوة الصريحة إلى نبذ الفرقة والشقاق والبغضاء والشحناء وذم الاختلاف والتفرق، لقوله تعالى: (وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ((آل عمران:105)، وقوله (: “لا تختلفوا فتختلفَ قلوبُكم” (رواه أبو داود)، وفي الوحي المقدس مدح الرحمة واللين والرفق، قال تعالى: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ)(آل عمران:159)، وقول الرسول (: “الراحمون يرحمهم الرحمن” (رواه أبو داود).

ولكنني أقول بكل صراحة، إن من ينظر إلى مجتمعنا، يجد أننا قساة مع بعضنا، إذا خالفَنا شخصٌ أغلظنا عليه، وجُرنا في الحكم، وقسونا في التصرف.. وإذا لم يعجبنا قولٌ أو رأي؛ هاجمْنا صاحبَه بلا حدود، وكأنه يُطلَب من الناس أن يوافقونا في كل شيء، وأن يلتمسوا رضانا، وأن يجاملونا، وأن يجبروا خواطرنا.. وكأن أفكارنا وحي منـزل، وكأن الحق يدور معنا حيثما درنا.

والحقيقة أن رحمة الله أوسع من ذلك، وأن الإسلام أكبر من نفوسنا الضيقة، وأن في الشريعة من جسور التواصل والتقارب ما يفوق الوصف.. إننا رحماء مع أنفسنا، طيبون مع ذواتنا، فنحن نزكي أعمالنا، ونعتذر لأخطائنا، وندافع عن تصرفاتنا.. لكننا مع الغير غلاظ شداد، نبكّتهم ونحاسبهم على أخطائهم، ونلومهم بعنف على تصرفاتهم، وأحيانًا لا نقبل توبتهم، ولا نرحب باعتذارهم.

إن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يجلس معه الصحابي ابن النعيمان الذي شرب الخمر مرارًا، فلما أُتِي به ليقام عليه الحد فقال رجل من القوم: اللهم العنه ما أكثر ما يؤتى به، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: “لا تلعنوه، فوالله ما علمتُ إنه يحب الله ورسوله” (رواه البخاري). ولكننا -للأسف- أحيانًا نعين المذنب على ذنبه، ونساعد المخطئ على خطئه بهوج تصرفاتنا وعوج طريقتنا.. فنحن في الغالب لا نترك خط الرجعة لمن أذنب أو أخطأ في حقنا، بل تجدنا أحيانًا نقوم بحملة شعواء على من قصّر من المسلمين تشهيرًا وتهديدًا وتجريحًا وتشويهًا، وكأننا نحن ملائكة مطهرون أو أنبياء معصومون.

لماذا لا نعترف ببشريتنا ونقصنا وعجزنا، ونعين من أخطأ، ونساعد من زل، ونأخذ بيد من سقط، ونلتمس العذر لمن أساء إلينا، ليعود الجميع إلى الجادة؟ لقد قرأت سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم في جانب العفو والحلم والصفح والرحمة، فذُهلت لعظمة هذا النبي الكريم عليه أفضل الصلاة والتسليم، وبحق قال له ربه تبارك وتعالى: (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ)(القلم:4).

إن بعضنا إذا خاصم أحدًا، لا يترك موضعًا للصلح ولا فرصة للحوار ولا إمكانية للتقارب، بل يقطّع كل حبال الرحمة، ويهدم كل جسور التواصل والتسامح.. أين مجتمع الرحمة منا؟ وأنت إذا خالفت البعض في مسائل يجوز فيها الاجتهاد وتُقبل فيها وجهات النظر؛ شنّعوا عليك، وصبّوا عليك جام غضبهم، وكأن العناية الإلهية ترافقهم في كل حركة وسكنة؟ من الذي جعل العصمة من نصيبكم، والصواب دائمًا حليفكم، والتوفيق أبدًا معكم؟ ولكنه منطق العجرفة والعلو والاستكبار الذي ندد به القرآن، وهاجمه الوحي بقوله تعالى: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ)(المائدة:18). لماذا نحتكر الحقيقة وحدنا وندعي الوصاية على الدين؟ ولماذا لا نتكلم على أننا عبيد خُلقنا من التراب ونُدفن في التراب، وعلى أن أبناء المجتمع إخوان لنا، بيننا وبينهم إنسانية ودين وذمة ومعايشة ومواطنة ومصير مشترك؟

إن بعضنا عنده سهام كثيرة في جعبته، كل يوم يطلق سهمًا على من خالفه، فلا يسلم أحد من سهامه الطائشة، ولسان حاله ينادي: من ينازل؟ من يبارز؟ من يبايعني على الموت؟ يا خيل الله اركبي، رويدًا رويدًا يا بشر، مهلاً مهلاً يا ناس، السكينة السكينة يا عباد الله، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء، الرفق الرفق أيها الناس.. كلنا نطلب رحمة الله.. الله وحده هو الذي سوف يحاسبنا، نحن كلنا ضعفاء تحت قدرته، مساكين تحت جبروت الله، فقراء إلى ما عند الله، لا نملك ضرًّا ولا نفعًا ولا موتًا ولا حياة ولا نشورًا.. أتينا من عالم الطين وسوف نُدس في الطين. فليحترم بعضنا بعضًا، ولْيرحم بعضنا بعضًا؛ فإن الحياة قصيرة، والمشوار قريب، والأيام قليلة، والفراق حاصل.. فلنترك لنا ذكرى جميلة، وثناءً حسنًا، وأثرًا نافعًا.. علنا نظفر بدعوة صالحة من قلب خاشع ولسان صادق، إذا طُرحنا حفاة عراة معدمين في القبور.