التربية والتعليم عند النورسي

الحكمة الإلهية اقتضت أن يتواجد بديع الزمان في خضم سياقات تاريخية وتحولات سياسية وثقافية عرفتها تركيا ما بعد سقوط دولة الخلافة، وبسط العلمانية نفوذها وسيطرتها على أجهزة الدولة وقطع كل الصلات مع الدين الإسلامي ومحاربته بشتى الوسائل.

لا شك أن الهدف الرئيسي من التربية هو بناء الإنسان، وتكوين شخصية الفرد المسلم المتزن روحيًّا وسلوكيًّا

ولا شك أن التربية والتعليم كذلك باعتبارهما عصب الأمة وسبيل نهضتها وشهودها الحضاري، يحتلان مكانة مركزية في فكر الشيخ النورسي. بأن أولاهما العناية الفائقة. فما المقصود بالتربية والتعليم عند النورسي؟ وما هي أهم الركائز والأسس التي ينبنيان عليها في فكره؟

دلالة المفهوم: يقول الباحثون إن تحديد المفاهيم والمصطلحات هو الوعاء الذي تطرح من خلاله الأفكار، فإذا ما اختل هذا الوعاء اختل المضمون والعكس، لذلك كان لزامًا أن نبين دلالة المفهوم.

على الشباب المسلم في هذا العصر العصيب أن يشمروا عن سواعد الجد لينقذوا الموقف، ويسلوا السيوف الألماسية لحجج رسائل النور وبراهينها الدامغة

مفهوم التربية: يقصد بها عملية تنشئة الإنسان وتكوينه وفق قواعد وأسس متكاملة عقليًّا وصحيًّا وروحيًّا، وتختلف هذه العملية باختلاف الثقافات والمناهج والنظريات التربوية المعتمدة. ويعرفها عبد الحميد فائد بأنها “عمل شامل لإعداد الإنسان الكامل، وتعلم أي عمل مشترك بين المعلم والمتعلم، بين المربي والطفل، لإيجاد الحقائق واستنتاجها، ثم تقريرها وتعريفها وتركيزها”.ويقابلها في الثقافة الغربية مفهوم البيداغوجيا الذي يقصد به مجموع طرق التدريس والتكوين، أو هو عند ‘دوركايم’ نظرية تطبيقية للتربية تستمد جذورها من علم النفس وعلم الاجتماع.

مفهوم التعليم: يرى بعض الباحثين أن التربية والتعليم شيء واحد ولا وجود لفرق بينهما فكلاهما عبارة عن عملية تنشئة وتلقين وتكوين معرفي ووجداني، إلا أن هناك من يرى أن التربية أعم وأشمل من التعليم، فكل تربية تعليم وليس كل تعليم تربية، فالتعليم يهدف لتنمية العقل وتمكينه من اكتساب المعارف والمهارات اللازمة لحياته، لكنه يبقى غير مؤطر بالتربية التي تشمل مختلف جوانب الفرد الروحية والعقلية. وبالتالي يتضح جليًّا أن عملية التربية أكثر وأوسع شمولية وتكاملية من عملية التعليم، إذ إن هدف التربية يتجه إلى تنمية وصقل جميع جوانب الشخصية الإنسانية بما يكون في المجتمع أعضاء صالحين ذوي مواهب وقدرات وخبرات وكفاءات جيدة، متعاونين متآزرين، سعداء ذوي نظرة إيجابية للحياة، قادرين على مساعدة وإسعاد أسرهم وأقربائهم وإعانة بقية أفراد مجتمعهم، حريصين على القيام بواجباتهم الإنسانية تجاه غيرهم.

التربية والتعليم عند بديع الزمان

إذا كانت النظريات التربوية الحديثة والمقاربات التعليمية تركز بشكل أساسي على ما يسمى بالهرم الديداكتيكي المكون من ثلاث عناصر رئيسة هي التلميذ، المعلم، المعرفة. فإن الشيخ النورسي كذلك لا يخرج عن هذه الدائرة في منهجه التربوي التعليمي، مستمدًّا إياه من الكتاب والسنة باسطًا بذلك منهجًا تربويًّا فريدًا متكامل الأطراف.

وأكد الشيخ النورسي على أهمية الجمع بين العلوم الدينية والعلوم الدنيوية، وعدم الاكتفاء بعلوم الشريعة فقط

وباستقرائنا لكتاباته رحمه الله نلاحظ أنه يركز على أربع عناصر مهمة نسوقها كما يلي

المربي: وهو صانع الأجيال ومهذب النفوس التواقة للعلم والمعرفة والتربية الإيمانية، وبالتالي لا بد للمربي أن يستمر في عملية التربية دون توقف عند حد معين، كما عليه أن يكون داعية إلى الله، لا تفارقه هذه الصفة حتى يلقى الله تعالى. كما لا بد أن تتوفر فيه مهارة الاختلاط بالناس، والتأثير فيهم، وحبهم وحب الخير لهم، والمربي البارع لا يترك أحداث الحياة تمر أمامه دون أن يستفيد مما فيها من عبر ومواعظ، ودروس.. إذ إنها تحدث في النفس أثرًا كبيرًا، وتنفعل معها النفس الإنسانية انفعالاً خاصًّا.

ويقول الشيخ النورسي بشأن الصحبة في التربية ودور المبري في الاستقرار الروحي للمتربي: “ففي سنة 1339هـ مررت بأزمة روحية حادة، واعتراني قلق قلبي رهيب وانتابني اضطراب فكري مخيف. فاستمددت حينها من الشيخ الكيلاني مددًا قويًّا جدًّا، فأمدني بهمته وبكتابه “فتوح الغيب” حتى جاوزت ذلك القلق والاضطراب”. ويقول أيضًا: “نعم هكذا خاطبني الشيخ: أنت مريض.. ابحث عن طبيب يداويك..قلت: كن أنت طبيبي أيها الشيخ”.

ويرى الشيخ النورسي أن المربي يجب أن يتحلى بصفات مهمة نورد منها:

  • عدم المبالغة إذا قام بتصوير مسألة من المسائل وعدم إهمال تحري الحقيقة وإيجاد الدلائل عليها.
  • أن يحافظ على التوازن الشرعي، عندما مسألة بالترغيب والترهيب.
  • العمل على تطابق الحال مع مقتضى البلاغة، بمعنى التكلم بكلام مناسب مع تشخيص العلة.
  • عدم تقينه لشيء يصعب على متلقيه هضمه.

المتربي: لا شك أن الهدف الرئيسي من التربية هو بناء الإنسان، وتكوين شخصية الفرد المسلم المتزن روحيًّا وسلوكيًّا، وقد سعى النورسي لهذا المقصد وكرس حياته من أجله، وتوجه بالنصائح لشباب الأمة لأنهم أمل مستقبلها المشرق، فعلى الشباب المسلم في هذا العصر العصيب أن يشمروا عن سواعد الجد لينقذوا الموقف، ويسلوا السيوف الألماسية لحجج رسائل النور وبراهينها الدامغة.. ويدافعوا عن أنفسهم، ويصدوا هذا الهجوم الكاسح الذي شن عليهم من جهتين.. وإلا فسيضيع مستقبل الشباب في العالم، وتذهب حياته السعيدة، ويفقد تنعمه في الآخرة.. ولكن إذا ما صان نفسه بتربية القرآن، ووقاها بحقائق رسائل النور فسيكون شابًّا رائدًا حقًّا، وإنسانًا كاملاً، ومسلمًا صادقًا سعيدًا، وسلطانًا على سائر المخلوقات.

مضمون التربية: يرى الشيخ النورسي أن الإسلام هو منبع العلوم والحقائق، وأن سبب الجهل والتخلف في الأمة هو الابتعاد عن مقومات الإسلام والإعتقاد بأن الإسلام مخالف للعلوم الكونية وحقائقها.

نعم إن أعظم سبب سلب منا الراحة في الدنيا، وحرم الأجانب من سعادة الآخرة، وحجب شمس الإسلام وكسفها هو سوء الفهم وتوهم مناقضة الإسلام ومخالفته لحقائق العلوم فالإسلام سيد العلوم ومرشدها ورئيس الحقيقة ووالدها.

ويؤكد الشيخ النورسي على أهمية الجمع بين العلوم الدينية والعلوم الدنيوية، وعدم الاكتفاء بعلوم الشريعة فقط، لأن العلوم الحديثة هي مدار السعادة في الدنيا وتحقيق الرقي والازدهار، فسعادتنا الدنيوية ستحصل من جهة بالعلوم الحديثة الحاضرة، وإن أحد الروافد غير الآسنة لتلك العلوم سيكون العلماء، والمنبع الأخر سيكون حتما المدارس الدينية، كي يأنس علماء الدين بالعلوم الحديثة.
لذلك فالتربية والتعليم عند الشيخ النورسي عملية حيوية لبناء الإنسان، والسمو به إلى عالم الحقائق على ضوء الكتاب الكريم والسنة النبوية العطرة، فالتربية عنده أخلاق تمنحها حكمة القرآن الكريم للحياة الشخصية، والإسلام كله هو حسن الخلق.