وظيفة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، ورسالته من أولها وآخرها – هي: أن ينشر (الرحمة) بكل معانيها وأشكالها وصورها للعالمين، أي للإنسانية كلها من آمن به ومن كفر به، فالرسول مكلف من الله أن يكون رحمة للجميع، للوجود كله: إنسانه وحيوانه ونباته وبيئته وموارده.
عندما هاجر الرسول من مكة إلى المدينة، وكان مجتمع المدينة مجتمعًا تعدديًّا في عقائده وأعرافه، وضع الرسول ما سمي بصحيفة المدينة أو دستور المدينة، لحفظ حقوق جميع أتباع الأديان المتعددة..
ومن أجل أن يحقق الرسول رسالته في (صناعة الرحمة ونشرها في العالمين) زُوّد بقيم أساسية كبرى ومبادئ عليا وتكاليف وفرائض ليلتزم بها والمسلمون جميعًا معه ويفعلونها في أنفسهم وينشرونها في العالم ويتقاسمونها مع الناس جميعًا، مسلمين وغير مسلمين. ومن هذه القيم الأساسية: احترام مبدأ التعددية والحرية، تعددية الأديان والعقائد، وتعددية الإثنيات والأعراق، وتعددية الثقافات والحضارات، وباختصار، تعددية الهويات في العالم.
ويوجه الله تعالى إلى الإقرار بتعددية الأديان بقوله: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ)(الحج: 17).
توضح الآية أن سلطة (الفصل والحكم) بين الأديان والعقائد هي لله تعالى وحده وليست لأحد سواه، وأنها ستكون يوم القيامة وليس في هذه الحياة الدنيا.
وعندما هاجر الرسول من مكة إلى المدينة، وكان مجتمع المدينة مجتمعًا تعدديًّا في عقائده وأعرافه، وضع الرسول ما سمي بصحيفة المدينة أو دستور المدينة، لحفظ حقوق جميع أتباع الأديان المتعددة (المسلمين واليهود والمشركين)، ولتنظيم العلاقات والواجبات المتساوية بين جميع مواطني المدينة، وقد راعت هذه الوثيقة الدستورية الحقوق والواجبات المتوازية بين الطوائف وبين المجتمع والدولة. ومن أبرز نصوص هذه الوثيقة: (المؤمنون واليهود أمة واحدة) أي مجتمع واحد يقوم على المواطنة بصرف النظر عن عقائد مواطنيه.
وأما عن قيمة (الحرية) فإن الإسلام ينظر إلى الحرية على أنها حق إنساني فطري، وأنها عطية إلهية للإنسان لا يجوز العدوان عليها، وتؤكد تعاليم الإسلام حق الإنسان في حرية الاعتقاد واختيار الدين.. ويؤكد القرآن هذا المعنى في آيات عديدة.
إن الإسلام ينظر إلى الحرية على أنها حق إنساني فطري، وأنها عطية إلهية للإنسان لا يجوز العدوان عليها.
كما أن الإسلام يقر حرية الرأي والفكر والتعبير…وكل محاولة لمصادرة مبدأ التعددية والحرية أو الالتفاف عليها هي محاولة غير إسلامية ولا تعبر عن صحيح الإسلام حتى وإن كان من يمارسها ممن ينتسبون إلى الدين الإسلامي، وهذه الممارسات بعيدة عن جوهر الإسلام وعن مقاصد رسالته.
ولئن كان فقهاء الإسلام يرون أن مقاصده العليا خمسة هي:حفظ الدين، وحفظ النفس، وحفظ المال، وحفظ العقل، وحفظ العرض،فإني أذهب مع من يرون أن (الحرية) هي المقصد السادس من مقاصد الإسلام؛لأن حرية الإنسان هي جوهر كرامته، ولا كرامة لمُجبَر مقهور مُستوْلَى على حريته. والإنسان مكرم بصرف النظر عن ديانته أو جنسيته، وكل عدوان على كرامة الإنسان هي عدوان على الله تعالى: أي على مشيئته وإرادته سبحانه.
ومن القيم التي يبشر بها الإسلام ويدعو الناس إليها لأنها تسهم في بناء السلام وتعزيزه في العالم؛ قيم:المساواة والعدالة ووحدة المعايير في التعامل مع الناس جميعا مهما تعددت شعوبهم وأممهم وجنسياتهم وأديانهم، ويحرم (ازدواجية المعايير) لأي سبب من الأسباب حتى وإن كان ذلك مع الخصوم والأعداء، لأن ممارسة ازدواجية المعايير تكرس الظلم وتولّد الكراهية والعداوة، وتهيئ المسرح الإقليمي والعالمي لممارسة أعمال انتقامية وردود أفعال عنيفة تصيب الأبرياء المسلمين في أرواحهم وممتلكاتهم.ومن قيم الإسلام التي تستهدف محاصرة الخصومات والتقليل من العداوات والنزاعات والحروب في العالم: مبدأ تشجيع إجراء المصالحات والتسويات بين المتخاصمين، ولقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم نموذجا ومثالا في صلح الحديبية. والعبارة القدسية المتداولة على ألسنة المسلمين: “والصلح خير” تؤكد توجيهنا إلى السعي إلى الصلح العادل فإنه يؤسس للسلام ويعززه. فالمسلم ينبغي أن يكون توّاقًا للسلام أكثر من غيره، وكذلك يدعو الإسلام إلى الصفح والعفو والدفع بالتي هي أحسن، ومعاملة الخصم والعدو معاملة حسنة فلعل ذلك يدفعه إلى تغيير موقفه العدائي، والسير في طريق السلام والمسالمة.
إن الإسلام يقر حرية الرأي والفكر والتعبير…وكل محاولة لمصادرة مبدأ التعددية والحرية أو الالتفاف عليها هي محاولة غير إسلامية ولا تعبر عن صحيح الإسلام حتى وإن كان من يمارسها ممن ينتسبون إلى الدين الإسلامي.
قلت إن تعاليم الإسلام وقيمه تجعل من المسلم “إنسان سلام” بحسب تعبير فتح الله كولن،لذلك على المسلمين أن يُفعّلوا هذه المبادئ والقيم في أنفسهم ويتقاسموها ويتشاركوها مع الآخرين لصناعة السلام في العالم وتعزيزه والمحافظة عليه.
وغني عن البيان أن أقول لكم إن لسان المسلم ينطق كلمة “السلام” في اليوم الواحد عشرات المرات في صلواته وفي حياته العامة والخاصة، ولعل الحكمة في ذلك تذكيره على مدار الساعة أنه –لأنه مسلم- فهو (رجل سلام)، ومن مسؤوليته بناء السلام في العالم والمحافظة عليه.
كما أن الحروب التي سمح الإسلام بها هي الحروب الدفاعية من ناحية والحروب التي تستهدف حماية السلام وتعزيزه في العالم من ناحية أخرى.
ولم يسمح الإسلام قط بالحروب العدوانية ضد الأبرياء من أجل الهيمنة السياسية أو من أجل السيطرة الاقتصادية واحتلال أراضي الشعوب الأخرى، واستعمارها، ومصادرة حقوقهم الإنسانية وكرامتهم، أو من أجل حماية حكامهم الطغاة الدكتاتوريين المستبدين الذين يستغلونهم كوكلاء لهم في قمع الشعوب المغلوبة على أمرها.
والحوار في الإسلام لا سقف له؛ فهو يتضمن الحوار بين الأديان والحوارات والثقافات.وكثير ما تسترعي نظرك تلك الحوارات المثمرة البناءة التي حدثت على طول التاريخ الإسلامي وعلى امتداد الجغرافيا الإسلامية بين علماء المسلمين وعلماء الأديان الأخرى وقد اتخذت صورا وأشكالا متنوعة فبعضها كان حوارا حيا بين العلماء، وكان يحدث في المساجد ودور العلم وفي قصور الولاة والخلفاء أحيانا؛ في سماحة وأريحية واحترام متبادل، وبعضها كان حوارا مكتوبا في رسائل ومكتوبات متبادلة بين العلماء والقادة.
من القيم التي يبشر بها الإسلام ويدعو الناس إليها لأنها تسهم في بناء السلام وتعزيزه في العالم؛ قيم:المساواة والعدالة ووحدة المعايير في التعامل مع الناس جميعا مهما تعددت شعوبهم وأممهم وجنسياتهم وأديانهم.
كما أن الإسلام يؤسس الحوار على مبادئ ثلاثة هي: التسامح والرحمة والحب؛ ويتخذ من (البسملة) نقطة انطلاق لما فيها من تكرار لاسمي الله (الرحمن الرحيم) وكذا تكرار البسملة في القرآن مئة وأربعة عشر مرة؛ ويرى أن من حكم التكرار هذا تعليم المسلمين أن يكونوا رحماء في علاقاتهم مع الآخرين من الناس وحتى مع الطبيعة. والإنسان – بوصفه إنسانا – مسؤول عن إظهار الرحمة بشكل دائم تجاه المجتمع الذي يعيش فيه وتجاه الإنسانية…، وكلما كان رحيمًا أصبح أكثر رقيًّا، وكلما لجأ إلى الشر والظلم والقسوة كان حقيرا وعارا على الإنسانية.
وفيما يتعلق بالحب فإن كولن يجذب انتباهنا إلى اسم الله (الودود) وينصح المسلمين أن يعكسوا هذه المودة في حياتهم وأن يصبحوا أمة محبة، فلا سلاح أقوى في الكون من الحب… فالحب هو العنصر الأساسي في كل الوجود، وهو نور مشع وقوة هائلة تستطيع مقاومة أي عدو والتغلب عليه.
ويعتقد كولن أن العفو والصفح والتسامح ستضمد الجراح وترأب الصدوع، طالما هذا السلاح السماوي في أيدي من يفهمون لغته وإلا فمعالجتنا الخاطئة ستنتج العديد من التعقيدات وتربكنا، وتحرمنا من فضيلة الإسهام في بناء السلام العالمي.
إن الحروب التي سمح الإسلام بها هي الحروب الدفاعية من ناحية والحروب التي تستهدف حماية السلام وتعزيزه في العالم من ناحية أخرى.
ولعل الفهم المغلوط من قبل بعض المسلمين لمعنى الجهاد وعدم الالتزام بأصوله وضوابطه وآدابه وأحكامه الشرعية يعكر صفو السلام ويوقع بعض الشباب المتحمس في حمأة العنف والإرهاب من حيث لا يشعرون.
يذكر الأستاذ فتح الله كولن: إن المؤمن مضطر إلى دفع الظلم في أي مكان في العالم؛ لأن المؤمن عنصر توازن في العالم، رحيم على الخلْق، كريم بهم يسعى لإنقاذهم ويحتمل في ذلك كل أذى وإهانة، وهو كالطود الأشم أمام الفوضى والإرهاب والعدوان، حتى إنه ليضحي بنفسه في سبيل دفع آثارها عن المجتمع والناس. والمسلم الذي يكتفي بجهاد الداخل ولا يشارك في جهاد الخارج يصبح خاضعا ذليلا مستسلما، والمسلم الذي ينحاز إلى جهاد الخارج دون أن يستوفي حقوق جهاد نفسه قد تحول إلى لص أو إرهابي، ومن هنا كان التركيز على التوازن بين الجهاديْن وحمل مسؤوليتهما معا في توازن دقيق مسؤول.
لا ريب أن تصحيح مفهوم كلمة الجهاد مع الالتزام بروحه وضوابطه وآدابه يساعد على تعزيز السلام في العالم.
إن المؤمن مضطر إلى دفع الظلم في أي مكان في العالم؛ لأن المؤمن عنصر توازن في العالم، رحيم على الخلْق، كريم بهم يسعى لإنقاذهم ويحتمل في ذلك كل أذى وإهانة، وهو كالطود الأشم أمام الفوضى والإرهاب والعدوان
إن استراتيجية الإسلام لصناعة السلام في العالم وتعزيزه تنبثق من الغاية الأسمى لرسالة الإسلام وهي: نشر الرحمة في العالم، والرحمة معنى يفوق معنى السلام ويتقدم عليه.
وتتأسس على القيم العليا والمبادئ السامية التي لو فعلّها المسلم في ذاته وتقاسمها مع الناس لكان رجل سلام بحق، وهذا يوضح لنا مدى الخسارة التي يجنيها العالم بسبب تأخر المسلمين وانحطاطهم وعدم تفعيل قيم دينهم ومبادئه وتعاليمه.