من المسلَّمات التربوية التي باتت بديهية، أن نمو الطفل نموًّا سليمًا وتَكيُّفه الاجتماعي السليم، يتوقف على درجة الوفاق بين الوالدين، وتوحد أهدافهما في تدبر شؤون الطفل التربوية والنفسية والاجتماعية. وإن الاتصال بين الوالدين والطفل، الهادف إلى تحسين درجة وعي الطفل وتوسيع مداركه حيال سلوكه، يعتبر من أهم الأمور على الإطلاق، ومثل هذا الاتصال يتطلب من الطرفين (الوالدين والطفل) درجة مقبولة من الحوار والتحدث والإنصات والاحترام.
فالطفل بحاجة مستمرة إلى اتصال واضح مع أحد الوالدين، وإلى اقتناع مطلق بأن هناك توافقًا وانسجامًا حيال ما يتحدث فيه معهما عن مشكلاته وتصرفاته ورغباته واهتماماته.. ولذلك على الوالدين رسم خطة موحدة لما يرغبان أن يكون عليه سلوك الطفل وتصرفاته؛ وذلك يكون بتشجيع الطفل على الإسهام في وضع قواعد السلوك الخاصة به، خاصة مع تقدمه في مراحل الوعي والنمو. فمن خلال هذه المشاركة يحسُّ الطفل بضرورةِ احترامِ ما تم الاتفاق عليه، لأنه أسهم في صنع القرار.
إن احترام آراء الأطفال لا يتنافى مع مبدأ الحزم في التربية، فالحزم المبني على المحبة يغرس في نفوس الصغار محبة الآخرين، ويعوّدهم الطاعة وأداء الواجبات بدوافع ذاتية وبتوازن عقلي ونفسي.
إن النظام الذي يضعه الوالدان ليتبعه الطفل، هو ضبط معايير السلوك والالتزام، وعندما يطبَّق هذا النظام بحبٍّ، سرعان ما يؤهل الأبناء ليتأقلموا مع العالم المحيط بالأسرة. والنظام هنا لا يعني فقط تقويم السلوك، بل يجب أن يُفهم أيضًا أنه وسيلة للسعادة الأسرية.
احترام الطفل
إن حبَّنا لصغارنا يجب أن يكون ممتزجًا بل ومسبوقًا بالاحترام، ومشمولاً بفهم كامل لعقلياتهم، ومستوعبًا لمشاعرهم وأحاسيسهم.. فالطفل شخصية قائمة بذاتها، لها مشاعرها وآراؤها وتصوراتها. لا بد -إذن- من فهم هذه الشخصية وسبر أغوارها؛ لمعرفة كيفية التعامل معها باحترامٍ وتقديرٍ وفقًا لطبيعتها ونموها الذهني والنفسي.
إن احترام الطفل هو الاستماع إلى أقواله، والتعرف على آرائه ومناقشته فيها مهما كانت بسيطة، لأن ذلك يُدرِّب الطفل على الحوار والتفكير والتحليل، وبالتالي يجعله قادرًا على بناء رأي مستقل، ومتقبِّلاً لأفكار الآخرين. واحترام الطفل يتطلب كذلك فهم ما يصدر عنه من إيماءات وإشارات -وهي عادة صيحات وتأوهات وترنيمات- وتحليلها لمعرفة مغزاها ودوافعها سلبية كانت أم إيجابية، ومن ثم التفاعل معها بالاقتراب العاطفي والنفسي منه، وبالحوار الحميمي الذي يشجعه على التواصل.
الطفل بحاجة مستمرة إلى اتصال واضح مع أحد الوالدين، وإلى اقتناع مطلق بأن هناك توافقًا وانسجامًا حيال ما يتحدث فيه معهما عن مشكلاته وتصرفاته ورغباته واهتماماته..
ولذلك ينبغي حذف كلمة “لا” -قدر الإمكان- من قاموس مفردات التعامل مع الأبناء الصغار إلا بعد تبرير أسباب استخدامها، وإلا فإنهم سيتصرفون دون الرجوع إلى آبائهم أو مشورتهم. فإذا كان طلب الابن ممكنًا ولا يُسبب إرهاقًا لأسرته، فما المانع من إشباع رغباته طالما تحقق منفعة له، أو تساعده في تكوين شخصيته بشكل سوي!
ومن جهة ثانية، يجب احترام ما يُقطع للطفل من وعود، ولا يجوز وعده بشيء ثم مخالفته على اعتبار أن ذاكرته ضعيفة، أو لا يأبه للأمر كثيرًا ولا يتأثر به. كما يجب احترام ذوقه وتدريبه على الاختيار، وبذلك يرتقي ذوقه ويتدرب على التصرف والمقارنة، والاعتماد على الذات في اتخاذ القرار بعد الاستئناس برأي الآخرين.
وظائف الأبوين
الأب -كما يراه الابن- هو نظام دفاعي جاهز للعمل، وهذا الدفاع يختلف كثيرًا عن دفاع الأم؛ فالأب يدافع بمهاجمة الآخرين وقت الخطر حماية لأبنائه، ويمكن أن نسميه دفاع “الحضن” أو “الذود عن”، بينما يمكن تسمية ما تصنعه الأم في موقف مماثل دفاع “الهرب بـ”، وكلا الشكلين لازم، غير أن صورة الأب في هذا الخصوص تصنع نوعًا من الأمان لدى الطفل. إذن للأب علاقة وثيقة بإرساء حدود السلوكيات عند أطفاله، وعن طريقه يتعلم الطفل أول مفاهيم الحدود.
وللأب دور حيوي بالغ الأهمية، فالأب أقرب ما يكون من مفهوم الصحة النفسية؛ حيث يقف كحاجز للتحدي في وجه أبنائه، من استطاع أن يتجاوزه مخترقًا حدود ومسافات وقيود هذا الأب كاسرًا إياه داخلَه، استطاع أن يمر بمرحلة نمو بعد أخرى. أيْ إن الأب هو المحرّض على النمو تكامليًّا سواء بوجوده القوي المتحدي أو بوجوده الضعيف السامح بالحرية. وأعتقد أن بداخل كل مبدع علاقة خاصة بالأب استطاع أن يعبر حاجز الأب فيها داخله. أما عن علاقة الأب بالمرض فهي علاقة غير مباشرة، فعندما يغيب الأب بالموت أو بالمرض النفسي أو بالسفر، يحاول أحد أفراد الأسرة القيام بمهامه أو أخذ دوره وغالبًا تكون الأم، ولأنها غير مهيأة للقيام بأدوار ذُكرويَّة، ترتبك أو تبالغ في هذا الدور، ومحاولة إيجاد علاقة بين غياب الأب خاصة وهو على قيد الحياة وبين الابن المريض تثبت مصداقيتها كل حين ربما أكثر من غياب الأب بالموت الفعلي.
إن احترام الطفل هو الاستماع إلى أقواله، والتعرف على آرائه ومناقشته فيها مهما كانت بسيطة، لأن ذلك يُدرِّب الطفل على الحوار والتفكير والتحليل، وبالتالي يجعله قادرًا على بناء رأي مستقل، ومتقبِّلاً لأفكار الآخرين..
ويرى الدكتور أحمد ضبيع اختصاصي الطب النفسي في دراسة له، أن مرحلة التأليه والتقديس سمة مرحلة الطفولة بما تحويه من رؤية الأب كقوة لا نهائية، وإذا ما استمرت هذه المرحلة لما بعد الطفولة، فيتحول الأمر إلى حالة يمكن تسميتها بـ”التوقف في النمو”.
ثم تأتي بدايات الرؤية الموضوعية.. وفي هذه المرحلة تبدأ رؤية بعض النقائض أو اكتشاف عدم قدرة الأب على كل شيء، وقد يؤدي كسر هذا الموقف القدسي إلى ربكة الابن أو بدايات البصيرة أو توصل للمرحلة التالية وهي ثنائية الوجدان، وفيها يظهر شعوران متضادان في نفس الآن كالحب والكره، وهذه الربكة أشد من ربكة المرحلة السابقة، وخلاصًا من هذين الشعورين يتملص الابن من ضغوط الوجود الأبوي داخله وخارجه فيدخل المرحلة التالية، مرحلة الانفصال والعدوان فحين يبغي الابن التملص والانفصال يبدأ باتهام الأب بالنقائض ربما أكثر مما ينبغي تبريرًا للانفصال؛ “أنا انفصل عنه لأنه سيء”، وهي محاولة استقلالية ولكنها تبريرية غير موضوعية كمن يلجأ إلى بلد مجاور ويسب بلده الأم.
• مأزق المسؤولية: هنا مختارًا انفصل الابن نفسيًّا. ويكتشف الابن لا موضوعيته في حكمه السابق، ويتحير إذا أصبح مختارًا مسؤولاً عن أفعاله.
يجب احترام ما يُقطع للطفل من وعود، ولا يجوز وعده بشيء ثم مخالفته على اعتبار أن ذاكرته ضعيفة، أو لا يأبه للأمر كثيرًا ولا يتأثر به.
• التروّي: هنا يتوقف الابن نسبيًّا لالتقاط أنفاسه وهي مرحلة من الهدوء النسبي يتم فيها استيعاب كل هذه المراحل، فيكتشف لا موضوعيته وعدوانه وعدم نضج أحكامه السابقة ورؤيته.. فيحاول العودة ثانيًا إلى رحاب الأب لكن مع خبرة كل هذه المراحل، أي يعود من موقف مختلف برؤية مختلفة وهذه اختراقة نموية، وقد تتكرر كل هذه المراحل نفسها بالضبط مرة ثانية، معربة عن الدوران في حلقة مفرغة لا نمو فيها، وقد تتكرر مضافًا إليها خبرة المرحلة الأولى.
• تقدير الذات: ولذلك علينا أن نجعل أطفالنا يكبرون في نظر أنفسهم وفي نظرنا ونظر الآخرين وأمام أقرانهم، ولكن دون محاباة أو إلغاء لأهمية الآخرين أو الحط من قدرهم؛ فقط من أجل أن نظهر تفوق أبنائنا ونرفع من شأنهم، فمثل هذا السلوك يُحدث نتائج عكسية بصحتهم النفسية، وبجانب ذلك يجب ألا نفرض رجولتنا وإراداتنا على أطفالنا في الوقت الذي نفشل فيه عن مواجهة المجتمع، فينعكس ذلك عليهم وكأننا نثأر منهم، وفي ذات المنحى لا يجب على الأمهات ممارسة القسوة والتعذيب على أبنائهن كرد فعل لمعاملة أزواجهن القاسية لهن.
وما إن يكبر الطفل فإن دور الأب يتحول إلى تقديم النصح والمشورة بعيدًا عن الإكراه والإجبار، ولا يرفع واجب طاعته سيفًا مسلطًا على رقبة ابنه، وعليه ألا يدفعه إلى العصيان بالتعنت والتسلط، فَيَصِلا إلى مرحلة من عدم التواصل الروحي والنفسي. والقرآن الكريم علمنا كيفية التعامل مع أطفالنا على أساس من التحاور وبيان حقائق الأمور؛ حيث علمنا حسن تربية الأبناء واحترام أقوالهم وآرائهم والإصغاء إلى أحلامهم كما جاء في قصة يوسف وحلمه الذي رآه في المنام وقصِّه على أبيه يعقوب عليهما السلام.
وعمومًا فإن احترام آراء الأطفال لا يتنافى مع مبدأ الحزم في التربية، فالحزم المبني على المحبة يغرس في نفوس الصغار محبة الآخرين، ويعوّدهم الطاعة وأداء الواجبات بدوافع ذاتية وبتوازن عقلي ونفسي. واحترام عقول الأطفال وأفكارهم تتجلى فيما نعرض عليهم من وسائل الفن والأدب، فلا نستخف بعقولهم وقدرتهم على الفهم، لا نقدم لهم مواد سطحية أو مبتذلة باعتبارها “كوميديا” تستهدف تسليتهم وإثارة مشاعر الفرح في دواخلهم، وإذا صنعنا هذا، فيجب أن يكون مرتبطًا بقيم وأفكار تبعث على التفكير وتبني منهج النقد والتحليل، لنكوِّن لديهم رؤية عقلية في النظر إلى كل الأمور.
ولا ننسى عملية الإنصات إلى أطفالنا، فالإنصات الحقيقي هو أداة شديدة القيمة والفائدة لفهم مشاعر الطفل، ولهذا يتوجب على الأبوين أن يوفرا لأولادهم الإطار أو الجلسة التي تسمح لهم بالفضفضة، وبالتعبير عن اهتماماتهم وهمومهم، وطرح تساؤلاتهم مهما كانت صغيرة أو كبيرة، ولو استطاع الوالد أن يكسب ثقة طفله وهو بعد في صغره ومراحله الأولى، فإن هذا يجعل من التواصل أمرًا سهلاً في المستقبل.
• بناء الشخصية: عند توجيه الطفل يجب أن تؤخذ الأمور بالتدرج، وبمرور الوقت يصبح من الملائم أن يُمنح الأطفال قدرًا مناسبًا من الحرية ومساحة من اتخاذ القرار الحر فيما يخص أمورهم الشخصية، لأن إحساس الطفل بذاتيته، على درجة عالية من الأهمية؛ إذ إنه يؤدي ليس فقط إلى كسب حبهم ومودتهم، ولكنه يؤدي أيضًا إلى الاحترام المتبادل. والتدرج في إعطاء الحق في الاختيار والقرار يجب أن يسير بالتوازي مع تحميلهم بعض المسؤوليات.
كل من الاستقلالية والمسؤولية مرهون بدرجة النضج وبالقدرات النفسية أو البدنية، إذا تأكدت هذه الأمور في حياة الطفل الناشئ، فإنه سوف يشعر بالفخر والزهو لإنجازاته وقدرته على تنظيم اليسير من أموره، وينطبق على هذا العنصر التربوي المثل الصيني الذي يقول “لا تعط ابنك سمكة ولكن علمه كيف يصطادها”.
ولا ننسى ضرورة دعم أطفالنا، فاعتزاز الطفل بذاته وبقيمته الشخصية شيء بالغ الأهمية، لذلك على الوالد أن يكافئه ويشجعه، وعليه أن يحاول باستمرار أن يكون في متناوله بحيث يستطيع الطفل أن يجد أباه كلما احتاج إليه، وهناك من خبرة الآباء المجربين بعض الخطوط العامة والتي يسجلها الدكتور ماجد موريس في بحثه “خبرات تربوية” وهي:
• كلما سمحت الأمور دعم قرار أبنائك.
علينا أن نجعل أطفالنا يكبرون في نظر أنفسهم وفي نظرنا ونظر الآخرين وأمام أقرانهم، ولكن دون محاباة أو إلغاء لأهمية الآخرين أو الحط من قدرهم..
• أظهر اهتمامًا صادقًا بالبرامج المدرسية وشجع الأنشطة غير الدراسية، اهتم بهواياتهم ومواهبهم، اسمح أو حتى احرص على أن تغطي لوحاتهم الفنية البسيطة جدران البيت، حاول أن تقضي أوقاتًا وافرة في متابعتهم ومشاهدة مبارياتهم.
• لا تسفّه الطفل أبدًا ولا تحرجه إطلاقًا، لا تكن شديد النقد لما ينجزه، انقل إليه إحساسك بالرضا وحاول أن تشعره بأنه بذل مجهودًا، أعطه الثقة لأنك إن لم تعطه أنت الثقة فلن يستطيع أي فرد آخر أن يعطيها له.
ولذلك ينصحنا الباحث في دراسته، أن ننمو مع الأبناء، فالأبوة ليست عملاً سهلاً بسيطًا، ففي بعض الأحيان تختلط الأمور وتتسم بعدم وضوح الرؤية، ولكن في الوقت نفسه يؤكد الآباء أن الأبوة تضفي على الشخص شعورًا عميقًا بالنشوة والمتعة. وعندما يراجع الآباء حياتهم، يجدون أن أبناءهم يشقون الطوق ويجدون لأنفسهم في المجتمع مكانًا ويستَقِلّون في وقت سريع جدًّا، ولهذا فمن المحبب أن يدّخر الأب لنفسه وقتًا مع أبنائه لأنهم سوف يتركون البيت سريعًا.