مر مسار الإنسان بطفرات متعددة طيلة وجوده على صفحة الأرض، حاول من خلالها أن لا يبقى مجرد نوع حي عابر يشكل فقط جزءا من الطبيعة الحيوية التي ينفعل بها وجودا وعدما، بل تميز بمقدرته على مفارقة واقعه بالكد والاجتهاد في فهمه، واستكشاف نواميس حركيته، وفقه قوانينه، والإجابة عن أسئلة الكون الملغزة، والسفر في أعماق التركيبة البشرية نفسها لفهم آليات اشتغالها وتجاوباتها ومحدوديتها ومكامن قوتها وضعفها، إلى غير ذلك من العلوم التي مازالت تعرف تطورا هائلا، تنسخ نتائجها بعض ما استقر من يقينيات، ويرسخ بعضها الآخر ما سبق التوصل إليه، وهكذا في شكل حركة دائبة لا تعرف توقفا، بحيث إنها تعد بمثابة سيرورة دائمة بدوام نبض الحياة الإنسانية.
ويمكن اعتبار السرعة مطلبا حياتيا تعلقت به همة الإنسان، وسعت بمختلف الوسائل إلى تحقيقه تحديا منه لمسافات الزمان والمكان، وسخر لذلك اجتهاده العلمي الذي استنطق به الطبيعة، لتمنحه من مواردها ما تمكن من خلاله أن يضمن حركية سريعة للأشخاص والمنافع، فنَمَطَا الترحال والاستقرار اللذان جربهما الإنسان في رحلاته التاريخية نحو التمدن والتراكم الحضاري، تعتريهما إيجابيات وسلبيات تعوق ما يطلبه من تقدم.
إن ما يمكن نعته بالطفرة الرقمية التي يعيشها عالمنا، ليس مجرد تقدم تقني محض، بل هي ثورة في السلوك ونمط التمثلات الموروثة.
وبذلك كان ضمان السرعة مفتاحا للجمع بين ضرورات الاستقرار والبناء، ومنافع التجوال والضرب في أرجاء العالم، واكتشاف الخبرات والخيرات، بحيث قدم الإنسان بدائل وخيارات متنوعة ذللت صعاب البر والبحر والسماء. بل إن طموحه لطي الزمان والمكان جعله يبدع في طرق التواصل والاتصال عوالم بلغت المدى الذي نعيشه اليوم من التفاعل الحي والمباشر عبر الأقمار الصناعية، وآلاف الكيلومترات من الأسلاك العابرة للقارات، والتكنولوجيا الرقمية التي ازداد التتنافس في ابتكار أجهزتها الذكية.
إن هذا الزخم الهائل من التطورات السريعة، والذي أصبح معها الزمن شأنا آخر لا عهد للسابقين به، والذي يتنفس هواءه أجيالنا الصاعدة من الشباب والأطفال، والذي نلحظ كيف أنهم خلقوا لزمانهم، من خلال امتلاكهم الفطري لآلياته، وتمكنهم من خبراته للتعبير عن عوالمهم الواقعية والافتراضية.
إن ما يمكن نعته بالطفرة الرقمية التي يعيشها عالمنا، ليس مجرد تقدم تقني محض، بل هي ثورة في السلوك ونمط التمثلات الموروثة، فإذا ما اقتصرنا على الجانب المعلوماتي، فإن أجيال اليوم يتاح لها دفق وسيل كبير من المعلومات لا قبل للأسلاف به، بل إنها أصبحت أكثر علما ومعرفة من حيث الاطلاع والسرعة في هذا الاطلاع نفسه، مما كسر الاحتكارية المعلوماتية وأنواع التسلطات المحيطة بها. وما الإعلام البديل وشتى صنوف التعبير التي أصبحت تطفح بها المجموعات الرقمية، إلا دليلا على هذا النبض القوي الذي يستلزم حكامة تدبيرية جديدة تعترف بذكاء الآخرين، وتنتهج مقاربة تشاركية تتقن فن الإصغاء والتجاوب، والعمل على التزود بميكانيزمات التفكيك والتحليل لما يتوصل إليه من معلومات، من أجل تأسيس قناعات تأتي بالجديد المخترع، وتتعاون على الإخصاب الحضاري المنتج.
المصدر: موقع إحياء