علوم وتراث الشعوب والأمم أحد الأعمدة العتيدة القائم عليها الشهود الحضاري، والفعل النهضوي والتشارك الإنساني والتراكم المعرفي. وكثير من الأمم ابتكرت علومًا، واصطنعت تراثًا كي تحدِّد هويتها وتبرر بقائها، وتضمن ديمومتها وتواصل مسيرتها، وتنال مكانها ومكانتها الإنسانية، فكل أمة لا تتواصل مع تراثها لا تستطيع احترام حاضرها، ولا استشراف مستقبلها.
سزكين علامة بارزة
يُعد سزكين من الرواد في تأريخ العلوم العربية الإسلامية، فقد كرّس لهذا الهدف ـ حياته وأسس عام 1982م معهد “تاريخ العلوم العربية الإسلامية” في جامعة “جوته” بفرانكفورت.
أثبت “سزكين”أن خرائط العالم، والخرائط الجزئية الأوربية حتى بداية القرن الثامن عشر الميلادي ترجع إلى أصول عربية
ولد العالم الدكتور “فؤاد سزگين”Fuat Sezgin (24 اكتوبر 1924) في “بطليس”، تركيا. وفيها أكمل دراسته ما قبل الجامعية، وخطط للدراسة في الجامعة التكنولوجية، إلا أنه قابل المستشرق “هلموت ريتر”Hellmut Ritter الباحث هناك منذ 1926، وأنشأ “النشريات الإسلامية” التي أصدرت عيون التراث العربي. وأقنع “ريتر” “سزكين” بدراسة التاريخ العربي الإسلامي، فضلاً عن الرياضيات. فبدأ “سزكين” سريعًا بتعلم اللغة العربية وأجادها. وبإشراف من “ريتر”، حصل عام 1954 على الدكتوراه بأطروحته: “مصادر البخاري”، وضح فيها أن المجموع من أحاديث “البخاري” يعتمد على مصادر مكتوبة تعود إلى القرن السابع الميلادي، فضلاً عن التواتر الشفهي.
وأصبح سزكين أستاذًا في جامعة “اسطنبول” عام 1954، وفى عام 1961 اختار ألمانيا موطنًا جديدًا له. وبدأ يحقق هدفه في جمع وإعادة نشر العلوم العربية الإسلامية، وتأثيرها في الحضارة البشرية. فكتب عمله الأول للحصول على لقب برفيسور في تاريخ العلوم الطبيعية، بجامعة فرانكفورت. ويعتبر سفره “تاريخ التراث العربي” -مكون من 15 جزءً- مرجعًا أساسيًا ومعلمًا فريدًا وحجر الزاوية في تاريخ العلوم والتكنولوجيا في العالم العربي الإسلامي. بالإضافة إلى مؤلفه ذو الخمسة أجزاء حول “العلم والتكنولوجيا في الإسلام”، وصدر عن معهده الذي أسسه، وقد بدأ جمع المادة العلمية لكتابه “تاريخ التراث العربي”. ليمتد به العمل لنحو عقدين من الزمن. فصدر الجزء الأول عام 1967م، وطبع في “ليدن”ثم توالى صدور المجلدات حتى عام 1984م.
ولقد خصص المجلد الأول للعناية بـعلوم: القرآن والحديث والتدوين التاريخي والفقه والعقائد والتصوف.
والمجلد الثاني: الشعر.
والثالث: الطب، والصيدلة، وعلم الحيوان، والبيطرة.
والرابع: السيمياء، والكيمياء، والنبات، والفلاحة.
والخامس: الرياضيات.
والسادس: علم الفلك.
والسابع: علم الفلك.
والثامن: علم اللغة.
والتاسع: النحو.
وجاءت المجلدات العاشر، والحادي، والثاني عشر في: الرياضيات الجغرافية والخرائطية في التراث الإسلامي ووجودها المستمر في الغرب (مجلدان للنصوص، والثالث للخرائط، عام 2000م).
والمجلد الثالث عشر: الرياضيات الجغرافية والخرائطية في التراث الإسلامي وتواجدها المستمر في الغرب (المؤلِّفون، عام 2007م)، والمجلد الرابع عشر، والخامس عشر: الجغرافية البشرية (2010م).
ويغطي العمل الفترة من ظهور الإسلام حتى عام 430ﻫ/1039م ليؤرخ لمنجزات العلماء العرب والمسلمين، مع ترجمة لكل عالم وأسماء مؤلفاته، وأماكنها في مكتبات العالم المخطوط منها، وناشري المطبوع، مع بيان ما تعلق بها من شروح، ومختصرات، وذيول إلخ، مرتبًا ذلك ترتيبًا زمنيًّا.
يقول سزكين:”إنَّ الجيل الذي أنتمي إليه نشأ في زمن ترسَّخَ فيه التصوّرُ المدرسي المُجحف لدور العرب والمسلمين في التراكم العلمي العالمي. ولا يُؤمل تصحيحٍ ذلك إلاّ من خلال أبحاثٍ جادة، وتُتاح نتائجَها لدائرةٍ واسعة من المهتمين. ومن طُرُق التعريف الناجعة إعادةُ صُنعِ الآلات والأجهزة التي استُعمِلت، واختُرِعتْ في إطار العلوم الطبيعية والتقنية العربية الإسلامية”.
يدافع “سزكين” بقوة عن مبدأ “وحدة العلوم”، ويعتبرها تراث البشرية العلمي المتراكم على دفعات متواصلة، ومهمته أن يبين مساهمة العرب في تاريخ العلوم، فيعطي العرب والمسلمين ثقة بالنفس، وترياق الحياة لمواصلة النهوض.
وكان سزكين أكثر حيادية، وموضوعية، وإنصافًا، وجدية من كثير من المستشرقين المتحيزين، فرد عليهم بصبر وأناة. ومن ذلك استفاضته في المجلد الرابع (الكيمياء) في دحض الافتراءات الملصقة بالكيميائي “جابر بن حَيَّان” والتي تهدف إلى الطَّعْن في منزلة الكيمياء في حضارتنا، مع إنكار صحة نسب عدد ضخم من الكتب الكيميائية إليه، فهو في رأي المُنكرِين له “شخصية وَهمية”، لا وجود لها.
وعلى سبيل المثال أثبت “سزكين”أن خرائط العالم، والخرائط الجزئية الأوربية حتى بداية القرن الثامن عشر الميلادي ترجع إلى أصول عربية، ففي عهد الخليفة “المأمون” في بداية القرن التاسع الميلادي قام نحو 70 جغرافيًّا برحلة استغرقت عدة سنوات جالوا خلالها في مختلف أرجاء أفريقيا وأروبا وآسيا، وأسفرت هذه الرحلة العلمية عن وضع خريطة للعالم تعتبر -بالنسبة إلى ذاك الزمان- ذات دقة عالية تثير الدهشة، يعرضها معهد فرانكفورت بعد أن حولها بطريقة فنية بارعة إلى مجسم على شكل كرة أرضية.
ويشير “سزكين”: “غربيا واجه أخذ العلوم العربية الإسلامية، مُنذ النصف الثاني للقرن الثالث عشر؛ رفضًا شديدًا، ودفع هذا التيار العدائي بحافز أيديولوجي؛ واندفع مؤرخو العلوم إلى تصوّرٍ تاريخ العالم كأنه تعبير عن النهضة الأوربية، وإنكارَ أية مكانة إبداعية للعلوم العربية الإسلامية. واعتبار “النهضة” مواصلةً مباشرةً للعهد الإغريقي، لذا لا يتبقى للثقافة العربية الإسلامية إلاّ دور الوسيط الذي حفظ كُتبٍ إغريقية مًعيّنة، وترجمتها، لذا استباح علمائهم الإنجازات التي حققتها الحضارة العربية والإسلامية، ونسبوها -غالبًا- إلى أنفسهم”.
ويدافع “سزكين” بقوة عن مبدأ “وحدة العلوم”، ويعتبرها تراث البشرية العلمي المتراكم على دفعات متواصلة، ومهمته أن يبين مساهمة العرب في تاريخ العلوم، فيعطي العرب والمسلمين ثقة بالنفس، وترياق الحياة لمواصلة النهوض، ويدرك الغربيون أن ازدهار العالم الحديث يرجع الفضل فيه -إلى حد كبير- للإنجازات العلمية للبيئة الثقافية العربية الإسلامية، وفي عام 1983 أسس “سزكين” متحفًا فريدًا داخل معهد تاريخ العلوم العربية والإسلامية بفرانكفورت، فهو أول من أعاد تصنيع الآلات التي ابتكرها المسلمون وذلك على أساس المعلومات التي حصل عليها من المخطوطات القديمة. فجمع بالمتحف أكثر من 800 قطعة من النماذج المعادة الصنع من الأجهزة العلمية التاريخية، والأدوات، والخرائط التي تعود إلى العصر الذهبي للعلوم العربية الإسلامية. كما أوجد أيضًا متحفًا مشابهًا بمدينة إسطنبول عام 2008.
وتقديرًا لجهوده الكبيرةتلقى أ.د. “سزكين” عدة جوائز منها وسام الشرف من الدرجة الأولى، ووسام الشرف التقديري الكبير من جمهورية ألمانيا الاتحادية، وميدالية جوته من مدينة فرانكفورت، إضافة إلى أنه أول فائز بجائزة الملك فيصل العالمية في الدراسات الإسلامية عام 1978، وهو عضو في الأكاديمية التركية للعلوم وأكاديمية المملكة المغربية ومجامع اللغة العربية بالقاهرة دمشقوبغداد.