غنيٌّ عن البيان والإيضاح أن العقل هو ما يميز بني آدم عن بقية المخلوقات، وأنه التاج الذي وُضِعَ على رأسه؛ حيث صار الإنسان بهذا العقل-مع ما أُنزِل إليه من منهج- مؤهَّلاً لحمل لواء العبودية، وجديرًا بعمارة الأرض، وقادرًا على استنباط معادلات الكون والكشف عن نواميسه.

هذا العقل هو معمل الأفكار، وهو الماكينة التي تُنتج لنا قماشة الفكر والإبداع لنشكِّل منها صنوف الألبسة والأغطية، ونكوِّن من أنسجتها مظاهر العمران المادي والمعنوي في الأنفس والآفاق.

وإذا جاز لنا أن نعتبر العقلَ آلةً، فإن تعطُّلَ هذه الآلة لا يعود سببه إليها وحدها، إنما يعود بالدرجة الأولى لمن أهملها وجعلها عرضة للأتربة ولعوامل التعرية، ولم يقم حق القيام بصيانتها وتوفير ما يُبقيها فاعلة وفعَّالة، ومنتجةً باستمرار وكفاءة.

وثقتنا بقدرة هذه الآلة على معاودة سيرتها الأولى من الإنتاج والكفاءة والدوران بلا كلل ولا ملل، يجب ألاَّ تهتز، فضلاً عن أن تضمحل، بل من المهم أن نستعيد هذه الثقة، وأن نعمل بقدر ما يسعنا العمل على تنظيف هذه الماكينة من الأتربة والصدأ، وأن نستبعد تروسها المعطلة وأجزاءها التي لم تعد صالحة للعمل، لنُحِلَّ محلَّها تروسًا صحيحة فتيَّة.

وليس خافيًا على أحد أن أزمتنا الحضارية إنما هي -بصورة أساسية- أزمةُ فكرٍ؛ فكرٍ نَضَبَ مَعينُه وبات يَجترُّ نفسَه، وأمسى غيرَ قادر على أن يتجاوب مع زمانه بتسارعه، ومع ظروفه بتغيُّرِها.

هي إذن أزمة في هذا العقل الذي ركن إلى المألوف، واستسهل السير على طُرقٍ ورثها ولو كانت غير معبَّدة، وكَسِلَ عن مدِّ البصر خارج مُدركاته التي لم يحاول اختبارها ولا فَحْصَها، ليتبين صحيحَها من باطلها، وقويَّها من عَلِيلها، وما زال منها قابلاً للعطاء مما أصابه العطن. ولو تأملنا أسبابَ نضوبِ هذا الفكر، وتجمُّدِ هذا العقل -مما أدى لأزمتنا الحضارية وما تفرَّع عنها من أزمات في مجالات شتى- فيمكن لنا أن نتلمس عدة أسباب من وراء ذلك.

إن الوفاء الحق لمن سبقونا ومهَّدوا لنا بجهودهم وعطائهم الطريقَ في ميادينَ شتى، لا يكون بالالتزام بالنتائج التي انتهوا إليها وإنْ كانت منبثقة عن واقع غير واقعنا، وإنما يكون بالاهتداء بطرائق نظرهم وتفكيرهم التي اهتدوا بها..

  • أول هذه الأسباب هو جهل قيمة العقل الذي يمثل- كما أشرنا- معمل الأفكار، ومَعين الأطروحات، ومختبَر التفاعلات الذهنية.. هذا الجهل الذي ترسَّب نتيجة معارك قديمة ثارت حول علاقة العقل بالنقل، متوهِّمة التضاد بينهما؛ فإما نقل واتباع، أو عقل وشطحات، دون إدراك لما بين العقل والنقل من ترابط وثيق، ومن تكامل في هداية الإنسان وفي رَسْم طريق النجاة له دنيا وآخرة.

فبتعبير أبي حامد الغزالي -رحمه الله- في “معارج القدس في مدارج معرفة النفس”: “العقل لن يهتدي إلا بالشرع، والشرع لم يُتبيَّن إلا بالعقل.. فالشرع عقل من خارج، والعقل شرع من داخل؛ وهما متعاضدان بل متحدان”.

  • كما أن النظر إلى من سبق من أئمة وعلماء ودعاة، بنوع من التبجيل الزائد على الحد؛ تبجيلاً قد يُخرجهم من كونهم مجتهدين يصيبون ويخطئون إلى معصومين ليس الخطأ واردًا بحقهم.. هو أيضًا سبب من أسباب نضوب الفكر وتحنط العقل؛ لأن نظرة التبجيل هذه -القريبة من التقديس- تمنع من إعمال النظر فيما ورثناه عنهم، وترفض أي محاولة للبناء على جهودهم بما لم يكن مطروحًا في زمانهم.. فهي نظرة تدعو لاتباعهم اتباعًا حرفيًّا وكأن الزمان قد جَمَد عندهم، وكأن الأحوالَ لم تتغير من بعدهم، والوقائعَ لم تتجدد من بعد وقائعهم.

يجب ألا نخلط بين ضرورة الإفادة ممن سبقنا -من علماء ومجتهدين أفذاذ، مع توفيتهم حقهم من الاحترام اللازم والتبجيل الواجب- وبين الانسياق وراءهم بلا وعي واتباعهم بلا فقه، أو عدم مراعاة ما دخل على واقعنا من مستجدات لم تكن معروفةً لديهم ولا قائمة في زمانهم.. إنهم لو أدركوا ما أدركنا، لكان لهم في هذه المستجدات رأيٌ غير رأينا وموقف غير موقفنا؛ لأنهم كانوا أشد تفاعلاً مع واقعهم من تفاعلنا مع واقعنا، وأكثر تحررًا تجاه من سبقهم، بخلاف حالنا تجاه من سبقنا.

إن الوفاء الحق لمن سبقونا ومهَّدوا لنا بجهودهم وعطائهم الطريقَ في ميادينَ شتى، لا يكون بالالتزام بالنتائج التي انتهوا إليها وإنْ كانت منبثقة عن واقع غير واقعنا، وإنما يكون بالاهتداء بطرائق نظرهم وتفكيرهم التي اهتدوا بها.. فإن طرائق التفكير ومناهج النظر هي الأساس، وهي الآلة التي يمكن استصحابها في الأحوال المختلفة، بخلاف الأحكام والنتائج التي تختلف باختلاف الظروف والبيئات، فيما دون مُحْكَمات الشرع وبدهيات العقل.

صاحب الفكر لا يتحرك في فراغ، ولا ينكفئ على نفسه، ولا يكتفي بأن يَسمع صوتَه أذناه فحسب، بل يسعى ضمن إطار جغرافي وفي مدى زمني، ويتحرك للآخرين ساعيًا لأن يُسمعهم صوته وينشر بينهم فكره، ومحاولاً أن يسدَّ ما يراه من ثغرات، ويعالجَ ما يحيط به من أدواء.

  • ويأتي عدم الاطلاع العميق على أحوال العصر، وعدم الاشتباك معه كما ينبغي، على النحو الذي يجعل المفكر أو من يتصدى للإصلاح خبيرًا بمشكلات العصر وتطلُّعاته، عليمًا بمعادلاته وتطوراته، ليمثل-أي عدم الاطلاع هذا- سببًا ثالثًا رئيسًا من الأسباب المكبِّلة للعقل، المعيقة إياه عن الانطلاق والتجديد.

كثيرون من مريدي الإصلاح يعيشون بمعزل عن الواقع، ولا يحيطون علمًا بخرائطه المتشابكة، ولا يقفون جيدًا على أزماته ومعاناته، ومن ثم فإنهم يطرحون أفكارًا لا تناسب هذا الواقع، ويَبدون كما لو كانوا يعيشون واقعًا غير واقعهم، ومتأثرين بزمان غير زمانهم.

إن شرطًا مهمًّا من شرائط الأفكار المتجددة، النابضة بالحياة، هو أن يعيش أصحابها في واقعهم وفي زمانهم. قد يجوز لهم أن يسبقوا الواقع والزمان، بل يجب أن يسبقوهما، لكن لا يجوز بحال من الأحول أن يتخلَّفوا عنهما، ولا أن يكفُّوا عن الاشتباك معهما.

صاحب الفكر لا يتحرك في فراغ، ولا ينكفئ على نفسه، ولا يكتفي بأن يَسمع صوتَه أذناه فحسب، بل يسعى ضمن إطار جغرافي وفي مدى زمني، ويتحرك للآخرين ساعيًا لأن يُسمعهم صوته وينشر بينهم فكره، ومحاولاً أن يسدَّ ما يراه من ثغرات، ويعالجَ ما يحيط به من أدواء.

والالتحام الجيد بهذا الإطار الجغرافي والمدى الزماني اللذين يتحرك فيهما، وبواقع هؤلاء الذين يخاطبهم، هو ما يملأ معينه بالأفكار فلا ينضب، ويَمد عقله بالزاد المتجدد فلا يتكلَّس.

إن الإقرار بوجود أزمة فكرية عميقة، وبأننا فِي مسيس الحاجة إلى تجديد عقولنا وبيئتنا، وطريقة نظرنا لما يواجهنا من تحديات، وما نمتلك من إمكانات.. إن ذلك لهو مقدمة أولية لجهود حثيثة مطلوبة بإلحاح، ولمراجعات جذرية باتت تمثل أكثر من ضرورة، ولآمال في النهوض والتقدم لا يجوز أن تبقى معلَّقة في الهواء لفترة أطول من ذلك.

(*) كاتب وباحث، وسكرتير تحرير مجلة التبيان / مصر.