إعادة بناء مجد الأمة من القاعدة إلى القمة

خلال القرون الثلاثة الأخيرة ظهر تراجع واضح في موقع العالم الإسلامي والمسلمين. هذا التراجع ظهر في كل المجالات الحضارية المادية والمعنوية أيضًا. مما نتج عنه ارتفاع نجم الحضارة الغربية وسيطرتها المادية والثقافية التي بدأت بالعصور الاستعمارية واستمرت حتى اليوم.

وعلى مدى هذه الأعوام، ظل المسلمون في حيرة شديدة وبحث محموم عن المخرج من هذا المأزق الحضاري. ولا يزال نفس الأسئلة تعصف بالعقل المسلم، لماذا تأخّرنا وتقدم الآخرون؟ ما الطريق لنستعيد مكانتنا؟ هل الحل في الهروب في الماضي وأمجاده، أم الحل في الانفصال عن حضارتنا وهويتنا والذوبان في ثقافة الغزاة والمستعمرين المتفوقين علينا مادّيًّا وثقافيًّا؟ مِن أين نبدأ؟ وما هي الخطوات التي علينا اتّباعها لننهض من جديد؟ إلى آخره من الأسئلة التي تحوّلت في عقول البعض إلى هاجس وربما أسئلة بلا إجابة صحيحة، مما أدّى إلى إحباط البعض واستسلام البعض الآخر.

ربما أجمع الكثير من العلماء الغيورين على بلادنا، ولديهم الوعي بالماضي ودروسه، وفي نفس الوقت قادرين على استشراف المستقبل والتخطيط له، على أن علينا الحفاظ على هويتنا الإسلامية وثقافتنا وحضارتنا، التي هي خاصية تميز كل حضارة عن الأخرى وتحافظ على شخصيتها، مثل الفلسفات والأديان والفنون… إلخ.

ومن ناحية أخرى نضيف لها التطور العلمي المادي الذي هو في الحقيقة مشترك إنساني عام مشترك بين كل البشر من علوم مادية مثل الفيزياء والكيمياء… إلخ. لكن يجيء دائمًا السؤال التالي؛ مِن أين نبدأ الإصلاح؟ هل نبدأ بإصلاح المجتمع والمحكومين، أم بإصلاح الحكومة والقوانين؟

ومع رحلة البحث عن المصير والطريق للنهوض من هذه العثرات، مرّ المسلمون بعدّة تجارب، وكان أغلبها في صورة محاولات إصلاح سياسي أو حكومي لتطبيق نظم إصلاحية، أو لتحقيق صورة من الاستقلال الاقتصادي أو السياسي أو الثقافي، أو في صورة نخبة مثقفة مؤمنةٍ بقضيّتها، إلا أنها تفتقد التواصل مع الجماهير، لكن هذه المحاولات كانت تواجه بفشل في الاستمرار، وكان هذا الفشل له تفسيرات كثيرة مثل المؤامرات الخارجية أو الصراعات الداخلية أو الظروف السياسية والاقتصادية. أعتقد أن السبب الحقيقي هو أن هذه المشاريع لم تصنع لها قاعدة حقيقية قوية بين الشعوب المسلمة؛ قاعدة قادرة على مواجهة التحدّيات، وبالتالي تكون قادرة على الدفاع عن مشاريع نهضتها في مواجهة التحديات الداخلية والخارجية، أو أن هذه المشاريع انزلقت في الحروب السياسية والمواجهات قبل أن تصل إلى مرحلة كافية من النضج والقوة.

قد نجد الكثير من المتعاطفين مع هذه المشاريع من المسلمين، لكن أغلب هؤلاء المسلمون ليس لديه القوة المادية والثقافية الكافية للدفاع عمّا يؤمن به، بل وفي كثير من الأحيان يكون هذا الإيمان ليس بالقوة الكافية، فيتنازل الإنسان عمّا يؤمن به حين يتعرض لبعض الضغوط. سواء كانت هذه الضغوط في صورة إعلام يزيِّف الحقائق وينشر الأفكار المغلوطة أو في صورة ضغوط اقتصادية أو تخويف سياسي إلى آخره من صور الضغط على الأفراد أو الجماعات أو الشعوب والأمم.

وبما أن تعريف العلوم هو البحث عن القواعد وفهمها كي تستطيع تطبيقها في توقع النتائج، فبالتالي فَهم التاريخ وقراءته بوعي سيسمح لنا أن نفهم سنن الكون وسنن التغيير، ونتعلم منه الطريق لتغيير واقعنا للأفضل، ولدينا تجربة ناجحة يجب أن نتعلم منها لتغيير الكون؛ إنها تجربة الرسول عليه الصلاة والسلام في إعداد كوادر ونواة لمجتمع مسلم في مدرسة الأرقم بن أبي الأرقم في مكة على مدى 13 عامًا قبل أن يهاجر إلى المدينة ويؤسس دولة الإسلام.

هذا الإنسان الناجح المؤمن بقضيته، والتي جعلها محورًا لحياته ونجاحه الشخصي والمجتمعي، هو أيضًا إنسان قادر على المشاركة في العمل الجماعي والإيجابي لمن حوله. فهو جزء من منظومة كبيرة يعطيها ويأخذ منها، يؤثر فيها ويتأثّر بها. لذلك كانت الحضارة الإسلامية قائمة على مؤسسات المجتمع المستقلة عن السياسة والحكام، مثل الأوقاف والنقابات الحرفية والمهنية والتجارية، والجمعيات الأهلية. ورغم أن السياسيين والحكام والحكومات في العصور الإسلامية مرّوا بفترات من الضعف والقوة، بل ومن العدل والظلم، وفترات من الحكام الناجحين وآخرين غير ذلك، لكن ظلّت مؤسسات المجتمع قويةً تحافظ على مسار الحضارة الإسلامية في الصعود، ولم يضعف المسلمون إلا حين ضعف الإنسان والمجتمع المسلم، وتدهور التكامل والتواصل بين المسلمين الناجحين؛ فأصبح النجاح مشروعًا شخصيًّا بحتًا يحققه الإنسان المسلم وحده، ويموت مشروعه مع موت الفرد، ويصبح مشروعًا ضيقًا بطموحات محدودة لا تتعدى الفرد أو أفراد أسرة صغيرة.

إذن، يبدو أن الطريق بالإصلاح من القاعدة هو الطريق الأمثل رغم أنه الأطول، لكنه الأضمن والأكثر فاعلية. لكن البعض يستعمل هذا الشعار مبررًا للتكاسل عن الإصلاح والعمل، ويعتبره حجة لانتظار حدوث معجزة أن يتغير المسلمون والمجتمعات المسلمة، ويتحولوا فجأة إلى مجتمعات مؤمنة بدينها وهويتها، وفي نفس الوقت تملك أسباب القوة المادية من علومٍ وثقافة واقتصاد، إلى آخره من أشكال القوة. ويقضي هؤلاء المنتظرون وقتهم في نقد ما وصل إليه أخلاق المسلمين من تدهور، وثقافة المسلمين من انحدار، دون أي فعل إيجابي في الاتجاه الصحيح.

وهناك آخرون يفضّلون التعجل في الإصلاح، ويتوقّعون أن الحاكم القوي العادل سيكون كافيًا لبناء مجتمع مسلم قوي ناجح. ويعتقدون أن بعض القوانين مع بعض الحزم والشدة مع تغيير بعض السياسات الاقتصادية والاجتماعية، سيكون كافيًا لإصلاح المجتمع في بضع سنوات. وربما لو ساعد هذا المشروع منظومة إعلامية وتعليمية لبناء جيل من المسلمين الصالحين الناجحين، سيكون النجاح مضمونًا في فترة أقل. هذا التخيل في إنتاج الأجيال والشعوب بسرعة لم يُثبت أي نجاح على مرّ التاريخ، بل إن محاولات التغيير السريع، دائمًا ما تواجهها حروب شرسة من الداخل والخارج. وربما تتسبب الطموحات السياسية في تغييب الرؤية الإصلاحية الواضحة، مما يتسبب في حدوث أخطاء، وربما حدوث مواجهات بين الفرقاء والأصدقاء. وبالطبع يلعب العدو الداخلي والخارجي دورًا كبيرًا في إفشال هذه المشاريع، ليس فقط بسبب هشاشتها نتيجة الاستعجال في بنائها، ولكن أيضًا لأن السرعة تلفت لها الانتباه مبكرًا قبل أن تكون قد نجحت في بناء القاعدة الشعبية القوية القادرة على الدفاع عن مشروعها الحضاري، حتى لو حدثت انتكاسة مؤقتة لقيادتها السياسية أو الاقتصادية، تكون هذه القاعدة القوية قادرة على إعادة بناء ما يهدمه الأعداء.

من ناحية أخرى، تحتاج هذه المشاريع الإصلاحية إلى تبنّي الفكر وليس الأشخاص؛ فالكثير من المشاريع أصبح محورها شخص بذاته، ونسي الأتباعُ الفكرةَ وضلّوا الطريق بعد غياب هذا الشخص.

وربما لا نبالغ إذا قلنا إن التجربة الوحيدة الناجحة حتى هذه اللحظة، والتي تعتبر على الطريق الصحيح هي تجربة الأستاذ فتح الله كولن، والخدمة في العمل على بناء مسلم يعرف دينه وأخلاقه وهويته من خلال التعليم الحديث، بناءِ مجتمع يؤمن بما يعرف فيطبّقه في حياته العملية، ويسعى لاكتساب أسباب القوة المادية والروحية مع وضوحٍ للرؤية البعيدة، وهي أن يعيد لهذا الدين مجده وعزّه. فيتحول إلى إنسان مسلم ناجح، وسفير للإسلام، وعاملٍ من عوامل نصرة هذا الدين، فيكون لدينا الطبيب المسلم الناجح، والمخترع المسلم الناجح، والفيزيائي المسلم الناجح، والطالب المسلم الناجح، والزوجة أو الأم المسلمة الناجحة…إلخ. ومع تواصل هذا الإنسان مع إخوانه وأخواته، يتم بناء مجتمع مسلم ناجح ينصر هذا الدين ويرفع من شأنه. وأهم ما يميز هذه المدرسة هو تباعدها عن متغيرات السياسة اليومية وصراعاتها قدْر المستطاع، وتركيزها على بناء الإنسان.

إن بناء الإنسان هو الضمان لنهضة هذه الأمة. وكما أن تراجع المسلمين كان نتيجة تراجع بناء الإنسان الفكري والثقافي والإيماني، فكذلك نهضة المسلمين ستكون ببناء عدد كافٍ من المسلمين الذين يعرفون دينهم وهويتهم جيدًا، ولديهم من الوعي الجمعي والحضاري ما يجعل مستوى طموحاتهم أكبر من القوميات والعصبيات القبلية. ويجعل طموحاتهم أعلى من مجرد البقاء على قيد الحياة، والأكل والشرب والزواج. يرتفع بسقف الطموحات فيشعر هؤلاء المسلمون بالترابط، وبأن عليهم مهمة، ولديهم قضية ورسالة يحتاج العالم إليها. وعليهم القيام بواجب ومهمة مقدسة نحو العالم والتاريخ والبشرية، بل والكون.