التعددية ظاهرة بشرية قديمة إذ كانت العقول متفاوتة، والنزعات النفسية متباينة، والأغراض والأهواء مختلفة.. ولكل منظومة حضارية موقفها تجاه هذه الظاهرة، سواء كان مرجعها دينيًّا سماويًّا أو كان وضعيًّا أرضيًّا . والحكم الرشيد هو الذي يحتفظ لأطياف المجتمع ومكوناته المختلفة بهامش من الحرية، يسمح لها بالتعبير المنضبط، بحيث تبقى أصواتها داعمة لاستدامة التنمية وبث فكر الاعتدال والتوازن الاجتماعي والفكري. وتبقى سلطات الدولة هي القوة الناظمة لهذا التنوع، وهي قوة رشد تحمي ذات الأمة وتوجِّه وتجمَع أطياف المجتمع على المشتركات والخيارات التي ارتضتها الأمة.
وكانت الدول المتعاقبة في التاريخ الإسلامي، تستوعب قدرًا مناسبًا من التنوع والاختلاف، وكانت مؤسسات المجتمع الأهلي تدار من أشخاص مختلفين فكريًّا مع الدولة المركزية، سواء المدارس أو المستشفيات أو مؤسسات التمويل والاستثمار. إن مفهوم ” التعددية الفكرية ” واحد من أهم المفاهيم الفكرية المعاصرة، ونقصد بالتعددية الفكرية؛ تفاوت الناس في أفكارهم ووجهات نظرهم حول القضايا المختلفة، سواء كان الاختلاف على مستوى القضايا الدينية، أو على مستوى القضايا المدنية والعمرانية والنظم السياسية والمشاريع المعرفية، وانقسامهم على إثر ذلك إلى كيانات فكرية متباينة. هنالك مرجعيات متعددة لتنظيم العلاقة بين البشر، وأهم هذه المرجعيات؛ “الدين”.
وإذا كان الدين سماويًّا كان له سمو على سائر النظم، فأما إذا كان دينًا سماويًّا محفوظًا فلا ريب أنه الأجدر بتحقيق مصالح البشر في العاجل والآجل. ودين الإسلام بنصوصه وقيمه كفيل بتقديم الحلول لمعضلات البشرية في هذا المجال وإن كان لا ينفك يتعرض إلى هجمات تبتغي تشويه أحكامه افتراء وكذبًا.
لقد سادت في العصر الحديث رزمة من المفاهيم التي تسعى إلى التخفيف من حدة التنافر بين المختلفين فكريًّا وثقافيًّا، وتدعو إلى قواعد المحاسنة بين أبناء الثقافات المختلفة؛ كمفهوم التسامح، والاختلاف، والتعدد المذهبي، وقبول الآخر، والحوار، وتخفيف القيود على الأقليات.. وما من شك في أن الخلاف ليس مقصودًا لذاته، وإنما يقع اتفاقًا، بحسب ما جبل الله بني البشر عليه من التفاوت في العقول والأهواء، والدهر دول، كلما جاءت دولة عملت على استئصال خصومها ومخالفيها، وقطع دابرهم، واهتضام حقوقهم، وطمس تاريخهم، وتبديل معالم أرضهم.. ثم تدول الدولة لآخرين فيعاملون المغلوب بجنس ما عاملهم به في متوالية من البغي لا تكاد تنتهي.
لا بد من وجود جوامع وروابط بين الجماعات المختلفة فكريًّا في المجتمع الواحد تكون بمثابة الدرع الوقائي، فتحمي نسيجه من التهتك الداخلي والاختراق الخارجي، ولا بد من التوافق الاجتماعي على أطر جامعة وكلمة سواء، وإلا صار هذا التنوع تشرذمًا.
وإذا كان ذلك كذلك، فمن الحكمة أن تتجه الجهود والمشاريع إلى سلوك مسلك التهدئة الفكرية، ومناقشة القضايا الجوهرية بقدر عال من الإنصاف والموضوعية، بعيدًا عن التحشيد والتعبئة، أو البحث بروح الاعتماء عما لدى الغير من الخير، فإن مذهب الاستعداء وحرب الجميع للجميع، هو عدمية لا تنتج سوى إراقة الدماء وإشاعة الدمار، سواء اتخذت لباس الدين أو اللادين أو الليبرالية أو الفاشية أو الاشتراكية.
وهناك أنماط من التعدد يمكن الحديث عنها في هذا المقام، أي أن ثَمَّتعددًا في التعدد؛ فهناك تعدد على أساس ديني، وآخر مذهبي، وثالث فكري، ورابع سياسي وهكذا. ونحن وإن ركزنا القول على التعددية الفكرية، إلا أنها لا تفتأ تتقاطع مع تعدديات في حقول أُخَر مجاورة له. والتعددية بوصفها مفهومًا حديثًا يضاف تارة إلى السياسة فيفيد معنى التنوع الحزبي السياسي في مقابل أحادية الحزب الواحد، ويضاف أخرى إلى الفكر فيفيد معنى التنوع الفكري في مقابل أحادية الفكر وهكذ. وهي كذلك في اللغة الإنجليزية، مفردة (Pluralism) يراد بها التعددية، أي المذهب أو الفلسفة التي تدافع أي عن التعددية في المعتقدات والمؤسسات، تقابل (Minism) الأحادية، وهي أن ثمة مبدأ غائيًّا واحدًا.
ويعرِّف “فورنيال” التعددية بأنها ” وجود عدد من الجماعات المتمايزة ثقافيًّا تعيش في إطار مجتمع واحد، ولا يجمع بينها سوى التبادل الاقتصادي في السوق” ، أي إنه لا يقع الالتقاء إلا لغرض التبادل السلعي بيعًا وشراءً. فهو يرى أن المجتمعات عرفت التعددية عندما تحررت السوق عن القيود الاجتماعية، وهذا – في نظره – ما لم تعرفه المجتمعات التقليدية سابقًا، وغني عن القول أنه يتحدث عن المجتمعات الغربية التي مكثت قرونًا في الحروب الدينية والمذهبية. أما في الدولة الإسلامية (1789) حتى تحررت بفعل الثورة الفرنسية فلم تكن هناك مشكلة في التعامل مع المخالفين من أتباع الديانات المختلفة، لأن الشريعة الإسلامية كانت قد رسمت الحدود المنظمة لحقوقهم وواجباتهم، بما يمنع حدوث الاحتقانات والتجاوزات والاحتراب الداخلي الذي عانت منه أوروبا في القرون الوسطى.
والتعددية في ظل الدولة الحديثة، تعني التنوع ضمن وحدة الجماعة وانخراطها تحت نظام واحد، ويندرج تحتها مفهوم الثنائية في مقابل الأحادية الفكرية أو السياسية، على أنه يجب التنبه إلى محذور يمكن أن يفضي إليه توظيف فلسفة التعددية، بأن يستخدم وسيلةًلتسويغ التقسيم السياسي -المذهبي والطائفي والعرقي- في البلدان التي يسودها الانقسام والحروب الأهلية الظاهرة والمضمرة كما في لبنان والسودان والعراق. فإن بعض المؤدلجين فكريًّا، أو المنحازين إلى الأهواء الطائفية والسياسية، يكثرون من الحديث عن التعددية مؤقتًا، في حين أنهم أبعد الناس عن امتثاله في راهن حالهم.
والتعددية في المفهوم الحديث تفيد معنى التنوع في الاتجاهات الفكرية والمشاريع، ولذلك فهي لا يمكن أن تتأتى إلا تحت قبة الوحدة ومظلة الجوامع والمشتركات، وعليه فليس من مدلولاتها “التشرذم” و” القطيعة” التي لا جامع لآحادها، ولا على التمزق الذي انعدمت العلاقة بين وحداته، فإن من المراهقة الفكرية أن يطالب البعض بممارسة التعددية بلا قيد ولا شرط، وهذه الصورة المنفكة عن الضبط السياسي ليس سوى عدمية يوشك أن تؤدي إلى الفوضى والتلاشي . وعلى هذا، فلا بد من وجود جوامع وروابط بين الجماعات المختلفة فكريًّا في المجتمع الواحد تكون بمثابة الدرع الوقائي، فتحمي نسيجه من التهتك الداخلي والاختراق الخارجي، ولا بد من التوافق الاجتماعي على أطر جامعة وكلمة سواء، وإلا صار هذا التنوع تشرذمًا يقود إلى خصومة ومناكفة واحتراب.
والتعددية الفكرية التي نتحدث عنها هنا، نعني بها تفاوت المواطنين في دولة ما؛ في أفكارهم ووجهات نظرهم حول القضايا المختلفة، سواء كان الاختلاف على مستوى القضايا الدينية، أو على مستوى القضايا المدنية والعمرانية والنظم السياسية، وانقسامهم على إثر ذلك إلى كيانات فكرية متباينة، كالتيارات الفكرية المعروفة.
وأقصد بالأفكار: كل ما تتبناه التيارات الفكرية المتباينة من رؤى، وما تستند إليه من أيديلوجيات تشكل لها منهجًا، وتمتاز بها عن نظيراتها، بحيث يصدق عليها أنها تيار فكري. فأما إذا كانت هذه الكيانات الفكرية في دولة واحدة، وأخذت شكل التيار الفكري المنظم، وصارت له مرجعياته الفكرية الخاصة؛ فحينئذ تنعقد إشكالية التعددية الفكرية بثوبها المعاصر. هذه الصيغة من صيغ التنوع هي المقصودة بهذا المثال، وإلا فثم تعدديات كثيرة غبرت في هذه الأمة، كان الإشكال العملي معها أهون من الإشكال المنعقد في الوضع المعاصر.
وقد كتب المتقدمون من الفقهاء والأصوليين عن ظاهرة التعددية المذهبية في المجال الفقهي، وفي المجال العقدي الكلامي أيضًا، ومن الكتب المفردة في تحرير أسباب هذه الظاهرة في المجالين معًا كتاب ” الإنصاف في التنبيه على الأسباب التي أوجبت الاختلاف بين المسلمين” ، لمؤلفه عبد الله بن محمد بن السِّيْد البطليوسي (521هـ) رحمه الله.
يقول البطليوسي في مطلع كتابه، مبينًا غرضه في استقصاء الأسباب الموجبة للتعددية: “وليس غرضي من كتابي هذا أن أتكلم في الأسباب التي أوجبت الخلاف الأعظم بين من سلف وخلف من الأمم، وإنما غرضي أن أذكر الأسباب التي أوجبت الخلاف بين أهل ملتنا الحنيفية، التي جعلنا الله تعالى من أهلها، وهدانا إلى واضح سبلها، حتى صار من فقهائهم المالكي والشافعي والحنفي والأوزاعي، ومن ذوي مقالاتهم الجبري والقدري والمشبه والجهمي، ومن شيعهم الزيدي والرافضي والسبئي والغرابي والمخمس والمحمدي، وغير هؤلاء من الفرق الثلاث والسبعين التي نص عليها رسول الله، ولا غرضي أيضًا أن أحصر أصناف المذاهب والآراء، وأناقض ذوي البدع المضللة والأهواء، لأن هذا الفن من العلم قد سبق إليه ونبه في مواضع كثيرة عليه، وإنما غرضي أن أنبه على المواضع التي منها نشأ الخلاف بين العلماء، حتى تباينوا في المذاهب والآراء”. إذن هو يحصر عمله في البواعث الموضوعية للتعدد الفقهي والفكري أيضًا، ومن ثم كان عمله غاية في الأهمية، خصوصًا مع تقدم زمانه القرن السادس الهجري.
ثم جاء من بعده أبو الوليد محمد بن أحمد بن رشد الحفيد (595هـ) ، فحرر أسباب الخلاف الفقهي في كتابه “بداية المجتهد ونهاية المقتصد ” ، ونثرها في أثناء كتابه هذا، مع كونه يعالج كتابةً فقهية، فيورد الفروع الفقهية في كل باب، ويذكر أقوال المذاهب المالكية والحنفية والشافعية، مما يعرف بالخلاف العالي، ثم يتبعها ببيان سبب الخلاف في المسألة، فهذا بحث في أسباب التعددية فاستقرأ أسباب الفقهية. ثم أعقبهم شيخ الإسلام ابن تيمية (727هـ) الخلاف بين أئمة المذاهب الفقهية في رسالته “رفع الملام عن الأئمة الأعلام” ، وهي رسالة علمية مختصرة ومركزة، فيها تحريرات مهمة وتقريرات موضوعية وأخلاقية .
(*) جامعة الملك فهد للبترول والمعادن، الظهران / المملكة العربية السعودية