نغمةٌ أبديّة خالدة

لم يُجِزْ بعضُ الفقهاء التغنّي بالقرآن، بمعنى تلاوتِه في أداءٍ ومقاماتٍ موسيقيّةٍ، وممّن ذهبَ إلى ذلك التابعيُّ الجليلُ الإمامُ سعيدُ بنُ المسيِّب، والمجاهدُ الكبيرُ الذي استشهدَ على يدِ الحجَّاج سعيدُ بن جبير، وكذلك من أئمّة ذلك العصر الذهبي الإمامُ النخعي، والمفسِّرُ الكبير محمد بنُ سيرين، ومن أئمة المذاهب الإمامان الجليلان: مالك وأحمد بن حنبل[1].

ولكن قد يكون من الأنسب لروح هذا الدين -الذي يأخذ بعين الاعتبار تلبيةَ كلّ نوعٍ من حاجات الإنسان من كلِّ المستويات- أن يتمّ تناوُلُ الموضوع وتقويمُه من زاويةِ تلبيةِ القرآن لحاجةِ الإنسان إلى استماعِ الترانيمِ العذبة والشدوِ النديِّ، وأن يُدْرَسَ الحكمُ بناء على هذا الأساس.

فقد صح في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم أن النبي سمع أبا موسى الأشعري يقرأ القرآن ويتغنَّى به فقال: “لَوْ رَأَيْتَنِي وَأَنَا أَسْتَمِعُ لِقِرَاءَتِكَ الْبَارِحَةَ، لَقَدْ أُوتِيتَ مِزْمَارًا مِنْ مَزَامِيرِ آلِ دَاوُدَ”[2].

الإنسان ما لم يسبرْ أغوارَ معاني القرآن، وما لم يبحث عن مقاصِدِه الإلهيّة؛ فلن يستطيع أن يُبْحِرَ في أسراره، ولا أنْ يَشْعُرَ في قلبِهِ بتأثيرِهِ وآثارِهِ.

فتلاوة القرآن الكريم بأداءٍ حسنٍ، وصوتٍ جميلٍ، ونيةٍ خالصةٍ؛ ستكونُ باعثةً لمحبَّةِ الآخَرين للقرآن الكريم، ولذا نَدَبَ الرسولُ إليها.

وفي الحديث الذي أخرجه أبو داود والنسائي والإمام أحمد عن البراء بن عازب قال رسول الله: “زَيِّنُوا الْقُرْآنَ بِأَصْوَاتِكُمْ”[3].

وقال في حديث آخر أخرجه الشيخان: “مَا أَذِنَ اللهُ لِشَيْءٍ مَا أَذِنَ لِنَبِيٍّ حَسَنِ الصَّوْتِ يَتَغَنَّى بِالْقُرْآنِ”[4].

وعن ابن مسعود قال: قال لي النبي: “اِقْرَأْ عَلَيَّ الْقُرْآنَ”، قلت: أَقْرَأُهُ عليك وعليكَ أُنْزِل؟ قال: “إِنِّي أُحِبُّ أنْ أسْمَعَهُ مِنْ غَيْرِي”، فقرأتُ عليه سورة النساء، حتَّى إذا بلغتُ ﴿فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا﴾ (سورة النِّسَاءِ: 4/25) قال: “أَمسِكْ” فإذا عينَاه تذرفان[5].

فكأنَّ ثقلَ الآيات التي تلاها ابن مسعود أنهكَ الرسولَ، ولو أنه واصَلَ قراءته لذابت الذاتُ الشريفةُ صلوات ربي وسلامه عليها.

وفي حديث آخر يقول الرسول: “اقْرَؤُوا الْقُرْآنَ بِالْحَزَنِ؛ فَإِنَّهُ نَزَلَ بِالْحَزَنِ”[6].

تلاوة القرآن الكريم بأداءٍ حسنٍ، وصوتٍ جميلٍ، ونيةٍ خالصةٍ؛ ستكونُ باعثةً لمحبَّةِ الآخَرين للقرآن الكريم، ولذا نَدَبَ الرسولُ إليها.

أجل، لقد نزلَ القرآنُ بالحَزَنِ، فينبغي تلاوته بقلبٍ حزينٍ منكَسِرٍ، والإنسان العاجز الفقير الذي يتقلَّب بإمكاناته المحدودة وقدرتِهِ الضئيلة في صحراء الوحشةِ هذه، إذا تمسَّكَ بالقرآنِ ذلك الحبلِ المتين فسيرتقي إلى سماء “الإنسانيّة”، وسيسمو إلى آفاق “الإنسان الكامل”، وسينجو بنفسه من هذه الدُّوامة، ويتخلَّصُ من الجوِّ الخانق لِتيهِ الدنيا، ومن وحشة العُزلة والوحدة، فالقرآن يجعلُ الإنسانَ يعيش هذا الجوَّ ويشعر بهذه المشاعر، فلا بدَّ لقارئ القرآن أن يقرأه في مثل هذا المناخ، وذلك منوطٌ بمدى تعمُّقِهِ في معانيه الجليلة، فالإنسان ما لم يسبرْ أغوارَ معاني القرآن، وخصوصًا إن لم يبحث فيه عن المقاصِدِ الإلهيّة؛ فإنه لا يستطيعُ أن يُبْحِرَ في أسراره، ولا أنْ يَشْعُرَ في قلبِهِ بتأثيرِهِ وآثارِهِ.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] القرطبي: الجامع لأحكام القرآن، 1/10؛ بدر الدين العيني: عمدة القاري، 20/40.

[2] صحيح البخاري، فضائل القرآن، 31؛ صحيح مسلم، صلاة المسافرين وقصرها، 235-236.

[3] سنن أبي داود، الوتر، 20؛ سنن النسائي، الافتتاح، 83؛ مسند الإمام أحمد، 30/451.

[4] صحيح البخاري، فضائل القرآن، 19؛ صحيح مسلم، صلاة المسافرين، 233.

[5] صحيح البخاري، فضائل القرآن، 33، 35، تفسير القرآن، تفسير سورة النساء، 9؛ صحيح مسلم، صلاة المسافرين، 247-248.

[6] سنن ابن ماجه، إقامة الصلاة، 176؛ معجم أبي يعلى، 1/113؛ الطبراني: المعجم الأوسط، 3/193.

المصدر: فتح الله كولن: خواطر من وحي سورة الفاتحة، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة، طـ1، 2015م، صـ27/ 28/ 29.