نظرية والانبثاق وحتمية التواصل

قد يأخذ الحديث عن “التواصل” منحىً أدبيًّا لفظيًّا، ويُستعان في ذلك بالحِكَم والأمثال والأشعار، وهذا الاختيار له إيجابيته وسلبياته. وقد يتم معالجة معضلة “التواصل” من خلال علوم إنسانية من مثل “علم الاجتماع”، و”علم الإعلام”، و”علم النفس”، فيُحشر ضمن الأعمال المتخصِّصة ويفيد في مجاله ولغايته وغرضه. وقد يُتعرَّض لـ”التواصل” تربويًّا مِن مدخل العلاقة بين مكوِّنات العملية التربوية؛ فيكون له أثره في المدرسة والجامعة حسب أهمية الطرح وعمقه(1).

وللفقه والعقيدة والتفسير(2) والحديث… أيْ ما يمكن تصنيفه تحت خانة “العلوم الإسلامية”، أوجهٌ كثيرة يمكن أن تؤسِّس لعلم التواصل من منطلق شرعي فكري قرآني إسلامي، شريطة أن لا تُحشر في سياق “أسلمة العلوم” بعمل سطحي بسيط.
أمَّا في هذا المقال المختصر، فقد رأيت من المفيد الاستعانةَ بمقاربة “نظرية المعرفة” وكذا “الفيزياء” المعاصرة، للتطرق لهذا الجانب الأساس من جوانب حركية الإنسان على خط الزمن.
وعنوان هذا المدخل: “نظرية الانبثاق أو التولد”.
فمن حيث تعريف التولُّد أو الانبثاق (Emergence)(3)، فهو “عمليةُ تشكُّلِ نمطٍ معقَّدٍ من قواعد بسيطة أو مكوِّنات بسيطة. وتعني أيضًا، ظهور وظيفة معيَّنة اعتمادًا على مكوِّنات بسيطة في حدِّ ذاتها غير قادرة على القيام بالوظيفة، لكنَّ تواصلها (أي تواصل هذه المكوِّنات البسيطة للنظام) يُعطي نظامًا يكون وظيفيًّا أكثر من جملة مكوناته، أي أنَّ العلاقات بين مكوِّنات النظام -إضافةً إلى مكوِّناته- تُعطي الوظيفة المعقَّدة النهائية المرجوَّة التي لم تكن محقَّقة في مكوناته الأصلية البسيطة”(4).
ويلاحَظ في هذا التعريف ورود العديد من المفاهيم التي هي من أساسيات فنِّ “التواصل”، وهي:
1- المكوِّنات البسيطة.
2- النمط المعقَّد (النظام الكلي).
3- التواصل بين المكونات (العلاقات).

وإذا ما أسقطنا المفهوم على مشروع إنساني معيَّن، وليكن “مؤسسة”، أو “مدرسة”، أو “مجتمعًا” ما، أو “جماعة علمية” -وهو محل اهتمامنا حاليًّا- فإنَّ الآحاد والأفراد الذين يتكوَّن منهم هذا الكيان، قد يكونون في حدِّ ذاتهم إذا ما نظرنا إليهم “واحدًا واحدًا” “فردًا فردًا”، قد يكونون دون المطلوب، بُسطاء، يتّصفون بصفات لا ترشحهم فرادى للمهمَّة. وإذا ما أضفنا فردًا إلى فرد في عملية حسابية رياضية مغلقة، فإنَّ الثمرة والنتيجة تكوِّن مجموع خصائصهم، لا بل -أحيانًا- تغلب الصفات السلبية فتكون أقلَّ من مجموعهم الرياضي(5)، وأحيانًا أخرى -وهذا كثير- قد يستحيل الجمع بينهم، لأسباب نفسية أو تاريخية أو اعتبارية… وهو حال الأمم التي تعاني مما يُعرف بـ”الطاقات المعطَّلة”(6).
لكن، لو عملنا على “العلاقة بين المكوِّنات البسيطة”، وربطنا بين “الأفراد ربطًا محكمًا” بناء على شروط موضوعية وذاتية، كالتي حقَّقها النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- في المدينة المنورة بعد الهجرة فيما عُرف بـ”المؤاخاة”؛ لو فعلنا ذلك في أيِّ كيان كان، فإنَّ النتيجة تكون “بركةً” بعينها، والبركة هو المصطلح اللائق للتعبير عن أنَّ “الكلَّ أكبر من مجموع أجزائه”. وبهذا نحقق “نظامًا” مكثفًا فعّالاً باعتماد نظرية “انبثاق” الطاقة والحركية من “العلاقات”(7).

وعملية “الربط واستثمار العلاقات” هذه، عملية ديناميكية؛ للزمان والمكان والظروف والأحوال أثرها الدائم المتجدِّد عليها، وهي ليست عمليةً إستاتيكية خاملة تحدث مرَّة واحدة ثم تنتهي، ومن ثم وجب ضمن إدراة المؤسَّسات والكيانات البشرية، العملُ الدؤوب المتواصل على جبهة العلاقات، واعتبارها محدِّدًا رئيسًا في تحقيق الرسالة أو الإخفاق فيها(8)، ولعل رسمًا بيانيًّا مقارنًا بين “مؤسَّسات” مِن عالم متخلِّف، إذا ما قورنت بمثلها في عالم متحضِّر، تعطينا تلازمًا واضحًا بين “حجم ونوع العلاقات” من جهة، و”نجاح أو فشل” تلك المؤسسة من جهة أخرى. فكلما تكثَّفت العلاقات تطوَّرت المؤسسة، وكلما ترهلت تلك العلاقات كانت المؤسَّسة عرضة للانهيار.
ولعل أحسن مثال على أهمية “الانبثاق”، يلاحظ في جسم كلِّ واحد منَّا ليعرف مدى أهمية هذا الشأن، وذلك في “الشبكات العصبية”؛ حيث إنه من خلال التفاعلات بين عدد ضخم من العصبونات(9)، يصبح الدماغ البشري قادرًا على التفكير، مع أنَّ المكوِّنات الأساسية لهذه الشبكات -أي الخلية العصبية في حد ذاتها- غير قادرة على التفكير. وبالتالي يمكن القول إنَّ وظيفة أو سلوك التفكير، انبثق من حيث لم يكن موجودًا في المكونات الأساسية الأبسط”(10).

ولابد من التنبيه إلى أن “الذكاء” البشري نفسه، يفسَّر فيسيولوجيًّا بعدد الوصلات التي تربط بين خلايا المخّ، أي بالعلاقات وكثافتها، ويعرَّف منطقيًّا بأنه القدرة على الربط وإيجاد العلاقات بين ما يتعامل معه الإنسان، بحيث يعجز مَن هو أدنى ذكاء مِن إيجاد مثل هذه العلاقات. وفي كلا الحالين -ورغم صعوبة تعريف الذكاء- يبقى التواصل والاتصال محدِّدًا رئيسًا في عملية الذكاء(11).
وننهي هذه المقالة المختصرة بنتيجة، هي أنَّ نظرية الانبثاق في كلِّ عناصر الحياة والمخلوقات التي خلقها الله تعالى -بخاصَّة عند النبات والحيوان ثم الإنسان- تدفعنا إلى التفكير الجدِّي في أهمية “التواصل والعلاقات” في المجال الفكري والحضاري. ولعل من المفيد تعريف الحضارة من هذا المدخل، وهي “قدرة مجتمع ما أن يبني من مكوناته البسيطة نظامًا كثيفًا فعَّالاً، قادرًا على فعل ما لا يفعله مجموع أجزائه”.
ويمكن تفسير العديد من آيات كلام الله تعالى بهذا المعنى، من مثل قوله سبحانه:
(وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ)(الأنفال:46)؛ والريح هنا، هي ثمرة التواصل، بالاختلاف تذهب وتزول، وقد يعني لفظ الريح الإرادةَ، والعزة، والدولة، والغلبة، والقوة… كما يعني رضا الله تعالى عنكم، وتوفيقكم للخير، ونصرتكم.
(وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ)(آل عمران:103)؛ فالاعتصام بحبل الله وعدم تفريق الطاقات، يؤدي إلى انبثاق عظيم من خلال نصرته سبحانه وتأليفه بين القلوب والنجاة في الدنيا والآخرة.
وغير هذه الآيات كثير، كله دال على بركة الاجتماع والتواصل وربط العلاقات في أيِّ جسم كان؛ الأسرة، والمدرسة، والمؤسسة، والمجتمع… ونخصِّص “الجماعة العلمية” التي هي عصب الحياة للأمم والمجتمعات، ذلك أن تفرُّق العقول وتشتتها اليوم -في واقعنا وضمن وعائنا الحضاري- مقدمة للوهن والهزيمة في أجزاء الأمَّة الإسلامية كلِّها، وأنَّ تفوّق الغرب وتمكُّنه كان بسبب “تجمُّع العقول والسواعد” في جميع الأصعدة والمستويات، وهو ما يعبّر عنه بعض النقاد بـ”شبكة العلاقات الاجتماعية”.
(*) مدير معهد المناهج، الجزائر العاصمة / الجزائر.

الهوامش
(1) في التاسع من سبتمبر 2013، كانت لي محاضرة عبر السكايب، لأربع فروع من المدارس العلمية في الجزائر بعنوان: “بناء العلاقات، وخصائص المرابطين على تلة الرماة”، أي المشتغلين في مجال التربية.
(2) انظر -مثلاً- ماجد رجب سكر: التواصل الاجتماعي، دراسة قرآنية موضوعية؛ الجامعة الإسلامية، غزة. ماجستير، 1432هـ/2011م. ويدرَج التواصل أحيانًا تحت باب “آداب الحوار”، وأحيانًا ضمن “الدعوة”. بل إنَّ بعض الجامعات الإسلامية، لها تخصص باسم: “الدعوة والإعلام”.
(3) Jeffrey Goldstein: Emergence as a Construct, History and Issues. Philip Clayton et Paul Davies, The Re-Emergence of Emergence: The Emergentist Hypothesis from Science to Religion, Oxford University Press, 2006.
(4) من الضروري التفريق بين “الانبثاق” باعبتاره سنة كونية وصيغة حركية في نظام الكون -وهو المعنى الذي نقصده- و”الانبثاق الذاتي” الذي يفترض نفس “الفاعل الأوَّل”، وهو من الأدلة التي اعتمدتها نظرية التطور، لنفي أيِّ تدخل خارجي في عملية الخلق؛ من هنا يعرَّف “التولُّد التلقائي أنه نظرية كانت تزعم أنَّ أنماطًا معينة للحياة، مثل الذباب والديدان والفئران من السهولة بمكان أن تنشأ مباشرة من أشياء غير حيَّة مثل الطين واللحم المتحلل. وتعود هذه النظرية إلى عهود ما قبل التاريخ، وظلَّت مقبولة على نطاق واسع آلاف السنين وقد ناقضتها التجارب العلمية كتلك التي أجراها عالم الأحياء الإيطالي “فرانسيسكو ريدي” في عام 1668م”، وكذا العالم الفرنسي “لويس باستر” الذي “أدَّت اكتشافات باستير إلى ظهور نظرية الخلية حول أصل المادة الحيَّة. وتقول نظرية الخلية إنَّ الحياة تنشأ من مادة حية سبق وجودها”.
(5) من الحقيقة البارزة في المجال الإنساني أنَّ “الضعف لا ينضاف بعضه إلى بعض”، فإذا ما أضفت ضعفًا إلى ضعف آخر، تولد ضعفًا أشدَّ وعجزًا أحدَّ. ولا يتحول ذلك إلى قوة ولا إلى قدرة. ولذا فإنَّ النظرية لا تعنى بالسلب ولكن بالإيجاب.
(6) انظر -مثلاً- محمد الغزالي؛ الإسلام والطاقات المعطلة.
(7) قول الأستاذ فتح الله كولن في مقال “رسالة الإحياء”: “إن الهمم والمبادرات الفردية، إنْ لم تنضبط بالتحرك الجماعي ولم تنظَّم تنظيمًا حسنًا، فستؤدي إلى تَصادُم بين الأفراد لا محالة… ينبغي أن لا تُطفأ جذوةُ الطاقات الفردية بتاتًا، باحتساب ضرر قد تسببه. بل على العكس؛ تجب العناية الرفيعة بها حتى لا تُهدَر ذرةٌ واحدة منها، وتُوجَّهَ جميعًا نحو تحقيق الهدف المنشود الذي تم تعيينه سابقًا، ويزاح خُلُق المصادَمة في النفوس، ويستبدل به روح التوافق، ويُسعى إلى تطبيع إنساننا بهذا الطبع مهما أمكن”، ونحن نبني حضارتنا، ص:46.
(8) يجب أن يكون “مسؤول العلاقات” أو “مكتب العلاقات” في المؤسسات والمشاريع والمجتمعات، مكونًا دائمًا فعَّالاً لا مجرد شعار، أو على صورة هبَّات وحملات كمثل شُعلة سعف النخل، ما تلبث أن تنطفئ بعد أمد قصير من الالتهاب.
(9) عدد العصبونات في مخ الإنسان، مقدرة بين 86 و100 مليار.
(10) استفادت تكنولوجيات الإعلام، بخاصة مجال الكمبوتر والأنترنت، من هذا المفهوم، وسجلت الدخول إلى عصر جديد، يعتمد العلاقات بشتى أنواعها: الشبكات الاجتماعية، التسوق الإلكتروني، الدراسة عن بعد… غير أنَّ الإنسان يعجز عن صنع “جهاز” يفكر، أي جهاز تنبثق من مكوناته أفكارًا توليدية جديدة، غير محتملة ولا محسوبة ولا متوقعة أساسًا. وخاصية “العقل التوليدي” من خصائص النظرية الكونية التوحيدية القرآنية.
(11) ينظر الرابط: http://www.intelligence-humaine.com