مسجد شيرمال بيرمال بالهند.. بوصلة التاريخ وقبلة الحضارة

تاريخ الهند منسوج من الرائعات الإسلامية ومحبوك من مآثرها الخالدة التي تربط الهند بالجزيرة العربية إلى بعيد الأزمان، وللهند رصيد ثري من الأواصر الراسخة التي لا تزال مفتولة بين الشعبين على مر العصور، ولا زالت مزبدة من عصارة النخيل والزنجبيل، ولا زالت تهب نسمات الإخاء تغازل النارجيل والنخيل، وكانت الهند محبوبة العرب ومرفأ سفائنهم، تشحن فيها التوابل النادرة .

وانطلاقًا من هذه الروابط الأصيلة، والأواصر التي حافظ عليها أمة العرب مع الهنود يقوم مسجد شيرمال بيرمال في ملتقى الأيام منارة وبوصلة تتجه إليها الحضارة العربية والتراث الإسلامي، وهو من أوائل المساجد الهندية، يرجع تاريخ بنائه إلى القرن السابع من الهجرة، ويعد بانيه المكرم شيرمال برمال والذي سمي  بعد بأبي بكر تاج الدين أول من اعتنق الإسلام من ولاية كيرالا، جنوب الهند، وقصة اعتناقه الإسلام قضية متشعبة الأهداف وطويلة الأطراف،والحكاية تسرد بأنه شاهد معجزة انشقاق القمر الذي وقع في المكة المكرمة فاستفسر الكهان فلم يجد جوابًا يشفي غلته حتى لقي بعضًا من التجار العرب الذين كانوا يترددون في مرفأ مسرس ( كودنغلور)، فأخبروه حقيقة الأمر، فلم يلبث حتى تجهز للسفر تاركًا سلطنته في الوراء وطامعًا في الوصول إلى حضرة صاحب المعجزة والاهتداء في الإسلام، وأهالي كيرالا يعتقدون بصحة القصة وصحبته مع الرسول وحضوره بين يديه، وقيل إنه رأي شيئا غريبا في المنام، عجز كهان بلاطه عن تعبيره وتأويله، فاتفق أن لاقى بعضا من التجار العرب، فاستفسرهم في ذلك فأخبروه بأن رؤياه إشارة إلى بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم في المكة العربية.

بنية الدين والتاريخ

وهذا المسجد مع زهرة تاريخيته العريقة لم تنخلع من ربقة الجدل والخلاف، وضجت حول هذه البنية الدينية الحضارية سحب داكنة من الأبعاد المتشعبة، وبقي المسجد شامخًا فوق كل الأقاويل والآراء، ويشير تاريخه إلى أنه أسس سنة 627 م في هيكل هندوسي تبرع به عباده، ويرى جمهور مؤرخي كيرالا بأنه تم تأسيسه في معبد للبوذيين، بل الرأي الأرجح أنه بناه المسلمون من جديد، ويلوح ذلك من خلال هندسته المعمارية الإسلامية، ولعل المنبر والمحراب أضيفا إليه من بعد امتثالاً لأمر من الصحابي المشهور مالك دينار، وعلى ضوء هذا الرأي يتضح بأن أهالي كدنغلور هم السابقون إلى ديانة الإسلام، وهم الذين بنو هذا المسجد الأول حسب إشارته وتحت أمره، ومن هنا انتشر الإسلام وتأثر في الطبقات الهندوسية والبوذية التي كانت تترنح في نير الفوارق العنصرية والتميز العرقي لحد أن احتل المسلمون نسبة درجة ثانية في تعدادهم في منطقة كودنغلور، بل اتسع نطاقه بصدى واسع في باقي المناطق الكيرالية.

شخصية شيرمال بيرمال بين الغموض والحقيقة

فشخصية شيرمال بيرمال مرتبطة بالتعقدات التاريخية، ومدبلجة بالأساطير والحقائق، وقصة إسلامه مذيلة بروعة المغاورة وقوة الإرادة في درب العقيدة، ترك عرشه ومملكته الشاسعة لأجل الدين واكتشاف الحقيقة مما جعله بطلا بين الأمة المسلمة، فأسطورته لا تزال تشحن قلوب المسلمين بالشجاعة والتوكل والعزم في سبيل الدعوة الإسلامية، فإنه آخر ملوك من سلسلة ملوك مهوديافرم( كودونغالور)، إلا أن قصة إسلامه تبهر المؤرخين وتورطهم في هوة الغموض، وقد سلط عليها بعض من المؤلفات الإسلامية وغيرها التاريخية، منها تحفة المجاهدين للشيخ زين الدين المخدوم الفاني، و”طوق الأساطير” المؤلف في القرن الثامن عشر، و”رحلة الملوك” لمحمد سهروردي، والأسطورة التاملية أيضا أكدت بقصة إسلامه، وقصته تحكي  بأن توفي في ظفار- صلالة – من دولة عمان، أثناء رجوعه من المكة المكرمة، بعدما تلقى صحبة من حضرة الرسول وسمي بأبي بكر تاج الدين، وقد وصى أصحابه عبر تقريرات كتبت في اللغة الإقليمية، وأمرهم أن يبادلوها لعظماء كودنغلور، ففعلوا كما أمروا حتى نالوا من أهاليها القبول والاعتراف، والإمدادات المالية لبناء المساجد في عدة المناطق، وهكذا بني المسجد للمرة الأولى في كودنغلور وعين مالك دينار أول قاض فيه، واشتهر المسجد باسم صاحبه وبانيه شيرمال بيرمال، وانطلاقا من هذا المسجد الأول أسست المساجد الأخرى في شتى المناطق جنوبا وشمالا لكيرالا.

تاريخ المسجد

وكان فحوى الرسالة التي كتبها شيرمال بيرمال في آخر أنفاسه في السفينة يوصي لأصدقائه في كيرالا بالمرافقة والإسعافات لهؤلاء الكوكبة من الدعاة والعلماء وعنايتهم كأكرم الضيوف وإقامتهم في خير المنازل، وكما أشرنا إلى أن مالك دينار كان القاضي الأول في مسجد شيرمال بيرمال ثم فوض قضاءه لابنه حبيب بن مالك دينار، وظل في السفر والتنفل عبر المناطق الكيرالية ويؤسس المساجد والمعابد، ويدعو الهنادك والبوذيين إلى الإسلام، وكانت دعوته تمثل الدعوة المحمدية، لا عنف ولا كراهية، ولا إغراء ولا إقصاء، بل عاملهم بالحكمة والموعظة والنصيحة، وقد أثناه جميع المؤرخين الذين اهتموا بحضارة الهند القديمة، بل هو الباعث الأكبر لتشكيل جو من الأمن والسلام، والتعايش والانسجام، ثم غادر إلى الجزيرة العربية وتوفي فيها.

اليوم يوجد  بقرب المسجد قبران، قبر لحبيب بن مالك دينار وقبر لزوجته السيدة قمرية، وفي القرن الحادي عشر رمم المسجد وجدد بناءه، ثم بقي على حاله لقرنين حتى أعيدت بنيته أيام الطوفان الذي حدث سنة 1341 م، ولم يزل كذلك لأربعة قرون، حتى جددت البنية بشكل تام سنة 1974، لكن خلال كل التجديدات ظلت البقعة المباركة في ظل قدمه وعراقته، ولم يمسها أحد بالتجديد والترميم، وفي سنة 2001 جدد المسجد على شكله القديم من غير أي تغيير لجذوره وأصوله.

كودنغلور: بوصلة التضامن والانسجام

كودنغلور، منطقة تمتلك ناصية الجمال وتأسر الأفئدة وتبعث الأمل والرجاء، من وجوه تلوح بالتسلية والهناء، أناس لهم شفافية الأخلاق وصفاء السلوك، وهي ملتقى الأديان ومجمع العقائد، رسمت في جدرانها حبكات التكاتف والتعاضد بين الأديان السماوية، والهندوكية، والبوذية، ولكل من الأديان مآثر خالدة تصدح بتاريخهم وأجدادهم على امتداد التاريخ، من هياكل وصوامع وكنائس ومعابد، كما أكد المؤرخ هيوغانسار بأن هذه المنطقة كانت الحاضنة الأولى لليهود ثم تحولوا إلى قربها منتاجيري، بل من المؤرخين من يرى بأنها كانت محط البوذيين. وفي قريب من المسجد تقع كنيسة مارتوما وتقف بهندستها المعمارية الرومانية منارة إلى التاريخ، ويعتقد بأن الأب توما نزل هنا سنة 62 م، وأسس الكنيسة الأولى لمسيحي الهند، وتعرف المنطقة  حاليا بمارتوما نغر.

وعلى مر من العصور لم تنطفئ هذه المآثر من قلوب الناس، بل حافظوا على أبدعها وروعتها، وسجلوا حياة من التعاون والتضامن، وحاولوا في تعزيز العلاقات والتحاور، وقاوموا كل من تربص بها وبطبيعتها، حتى احتلت كودنغلور مكانة متفوقة في خريطة العالم، نعم لقد مرت العصو وبقيت كودنغلور بتاريخها وحضارتها، بمسجدها وكنيستها، بمحمدها ومسيحها، بأصنامها وأوثانها، ومن تربتها بعث وحي الإنسانية قبل التدين.