تشييد المساجد فن معماري إسلامي متميز، له شواهده الهائلة التنوع حيثما حلّ الإسلام وصلى المسلمون، لكن النسق المعماري ومواد البناء في إفريقيا، لهما طابع خاص وبصمات فريدة.

المسجد الكبير في “جينيه”

المسجد الكبير في “جينيه” بدولة مالي، من أشهر المساجد وأكبر المراكز التعليمية في القارة السمراء خلال القرون الوسطى، وبالتالي إنه أكبر صرح من الطوب اللبِن في العالم، ولقد اعتبرَتْه “اليونيسكو” عام 1988 “تراثًا عالميًّا يتوجب على الأسرة الدولية حمايته”.
يقع المسجد على ضفة نهر ناني، قام بتشييده الملك “كوي كونبورو” عام 1240، ثم أعيد بناؤه عام 1896، وبين عامي 1907-1909 أقيم على هيئته الحالية. أشرف على بناء المسجد -في مطلع القرن العشرين- المعماري المالي “إسماعيل تراوري”، ثم بعد ذلك أضيفت الكابلات الكهربائية، ومكبرات الصوت، وأنابيب المياه، وغطيت مساحات من جدرانه بالقرميد. شُيدت جدرانه من الطوب اللبِن “فيري”، وغطيت بالطين المخلوط بالتبن وهو ما أعطاه المظهر الناعم الصقيل. يتراوح سمك الجدران ما بين 40-60 سم تبعًا لارتفاعها. فكلما علا الحائط زاد سمكه، وذلك ليتسنى لأساسه حمل ثقله. أما ميزة الجدران الطينية؛ أنها تحمي الداخل من الحرارة نهارًا، وتمتص ما يكفي من الحرارة نهارًا لتدفِّئ داخل المسجد ليلاً.
للمسجد ست مجموعات من السلالم، ويقع مدخله الرئيس على الجانب الشمالي من البناء. ترتفع فوق قبلة المسجد ثلاث مآذن مربعة الشكل مستندة على 18 دعامة، وتنتهي كل واحدة منها بالمخروط التقليدي الذي يحمل بيضة نعامة. للمبنى فناء يعادل مساحة المصلى الذي يستند على 90 عمودًا خشبيًّا، ويتزيَّن سقفه بنوافذ تُفتح للتهوئة إذا ارتفعت درجة الحرارة فيه.
لقد أقام المعماري “تراوري” المسجد على منصة عالية تبلغ مساحتها 5625 مترًا مربعًا، ولعل ذلك يعود إلى فيضان نهر “الباني”، الذي يحدث في مدينة “جينيه” بكثرة. يقام في مالي كل سنة احتفال خاص يشارك فيه سكان المنطقة -صغارًا وكبارًا- في صيانة المسجد من آثار الأمطار والشقوق التي يحدثها تغير درجة الحرارة والرطوبة.
يتسع المسجد نحو ثلاثة آلاف مصلي، وهو من الأماكن السياحية المميزة ولا سيما في فصل الصيف. يحيط المسجد مجموعة من الأشجار التي تضفي جمالاً آسرًا على روعته وعظمته. إنه أحد أعظم إنجازات الطراز المعماري للمنطقة السودانية الساحلية المتأثر بملامح عربية مغربية.

مسجد “أغاديس” و”ياما”

تم بناء مسجد “أغاديس” بمدينة “أغاديس” في النيجر من الطين (بانكو) عام 1515، وأعيد ترميمه وبناؤه عام 1844. هيكل المسجد، هو المعلَم البارز في هذه المدينة الصحراوية، يشخص بُرْجه ومئذنته كمنارة وسط الصحراء. ويحتاج برج المسجد الطويل لسقالات عند كل ترميم وإصلاح. وقد استطاع “الطوارق” حلَّ هذه المشكلة بإدراج عوارض خشبية تخرج من جدرانه وتؤدي نفس الغرض.
أما مسجد “ياما” أو “مسجد الجمعة” في النيجر، بني على الطراز المعماري السوداني الساحلي، وحصل على جائزة آغا خان للعمارة عام 1986، وقد شيد عام 1962 ليجتمع فيه سكان قرية “ياما” للصلاة. أسس هيكله من الطوب الطيني، ويحيط به سور منخفض في الحد الشرقي للقرية. أما اليوم فقد نمت القرية وأصبح المسجد أقرب إلى مركزها.
يتميز بناء مسجد “ياما” باستخدامه المبتكر للتقنيات والمواد التقليدية، فقد استعاض المعماري عن السقف التقليدي، بنظام من العقود المصنوعة من حزم العصي التي تثنى لتأخذ شكل العقد ثم تدفن في الأعمدة. وقد اتبع نفس الأسلوب في بناء القبة باستخدام عدد من العقود المتقاطعة. أما الجدران والأعمدة فمبنية من الطوب النيء بعد تجفيفه في الشمس وإضافة التبن إلى الطين لحمايته من التشقق.

مسجد “بوركينا فاسو”

هندسة معمارية تتسم ببساطة لافتة، وسكينة روحية تستقطب مسلمي المنطقة كامل أيام السنة ولا سيما في شهر الصيام. إنه مسجد “ديولاسوبا” في مدينة “بوبو- ديولاسو” ثاني أكبر المدن بعد العاصمة واغادوغو التي تقع غربي “بوركينا فاسو”. ولقد حافظ المبنى على أصالته ورونقه، متحدّيًا انسياب أكثر من قرن على بنائه، ليظل الوجهة المفضلة لمسلمي البلاد. فهو يتسع نحو 800 مصليًا يتوافدون إثر الإفطار لأداء صلاة التراويح والتهجد.
ولقد شيده المعماري “سيديكي سانو” عام 1880، واستغرق بناؤه عشر سنوات. ومن بعيد، يتراءى المسجد عبر مناراته الثلاثة الشاهقة. وتعتبر هذه المنارات مكانًا يقضي فيه الأئمة فترات طويلة من حياتهم. تضم واجهته أشكالاً مخروطية شبيهة بكعك السكّر، وتتسم جدرانه بصلابة لافتة مدعومة بـ42 ركيزة مقسّمة على تسعة صفوف، ولم يغفل مصممه عن تخصيص قاعات لاستقبال النساء. طليت جدرانه بلون مائل إلى الصفرة، وتتخلّلها ثقوب تتوسّطها أعمدة بلون جذوع الشجر. ولا يزال المسجد صامدًا ومحافظًا على معالمه حتى اليوم.

مساجد “ساحل العاج”

في الشمال من ساحل العاج أكثر من 300 مسجد، ولا يختلف طرازها المعماري إلا من حيث السعة وعدد المآذن. تنقسم أشكالها إلى ثلاثة أقسام: المساجد العادية، والمصليات، وأماكن التلاوة. أما المساجد الجامعة فمبنية من الطين ولكل منها مئذنة، وأسلوب عمارتها يشبه الأسلوب السوداني. تقوم جوانبها على دعامات مربعة، ويأخذ المسجد شكلاً متوازي المستطيلات، حيث يتراوح الطول الجانبي ما بين 15-25 مترًا، ويبلغ الجدار من 6-8 أمتار، وهو يتجاوز السطح بأشكال مسننة وهي إحدى مميزات الفن المعماري الإفريقي في المساجد والبيوت.
تقف الجدران بواسطة دعامات ضخمة متباعدة بانتظام، ويربط بينها أعمدة خشبية أفقية. أما السقف فطبقة سميكة من التراب المضغوط بعناية، وفيه شقوق تتسرب منها مياه الأمطار إلى أفنية تلقي به خارج البناء. يستند السقف على أربعة صفوف من الدعامات ذات قواعد مستطيلة باتجاه القبلة، حيث تقسِّم هذه الدعامات المسجد الجامع إلى خمسة أقسام. ويتصل أعلى الدعامة بالعوارض الخشبية التي تدعم الألواح السميكة المصنوعة من خشب متين (ألومو) والتي تغطي السقف من الداخل.
وقد يكون للمسجد مئذنة أو أكثر، فإن كان له مئذنة واحدة فتقع دائمًا فوق المحراب، وتكون الثانية في الشمال، والثالثة في الشرق.. ومن النادر أن نجد للمساجد مآذن مربعة، فكلها هرمية الشكل، وجدرانها مسلحة بأخشاب متينة تستعمل عند الضرورة سلمًا يصعد عليه من يريد ترميم المآذن. وهناك سور يحيط بالمسجد وباحته المستديرة، وتطلى واجهته الخارجية بمادة سميكة تقيه من الأمطار الغزيرة.
أما أبواب المساجد فمصنوعة من خشب شجر (الفروماجة)، الذي يكثر في إفريقيا الاستوائية، ومزينة بخطوط هندسية محت معالمها الأمطار الغزيرة. والمحراب محفور في الحائط، ينير جنباته ضوء خافت من السراج عند ما يحين موعد صلاة الفجر والعشاء. وإلى جانب المحراب يقوم المنبر كدكة مرتفعة، وهناك رواق خاص بالنسوة. والملفت للنظر عدم وجود أماكن للوضوء في المساجد الجامعة، حيث الإفريقي يغشى المسجد متوضئًا.

مساجد “غينيا”

عادة، العلماء وكبار أهل المدينة هم الذين يختارون موقع بناء المسجد، ويشرف الإمام على بنائه، ويتطوع السكان بالعمل، فينقل الشباب مواد البناء، وتنقل النسوة الماء، ويقوم الشيوخ بإعداد الملاط، كما يُقدِّم الإمام والأغنياء للعمال والبنائين ما يقيم أودهم حتى تنتهي أعمال البناء.
يتكون المسجد الجامع من غرفة مربعة مبنية بالآجر والملاط، ويتراوح ارتفاعها من 3.5 إلى 5 أمتار. جبهة المسجد ليست واحدة في جميع الأنحاء، حيث يتحدد طولها وفق رغبة أبناء المدينة؛ فعرض جبهة المسجد في “الدانغراي” -مثلاً- يبلغ عشرة أمتار، ويقل عن ذلك في مدينة “لابة” المشتهرة بمسجدها الجامع وبمساجدها الصغيرة. تغطى القبة الواسعة في هذه المساجد بالقش، وقد تكون القبة قطعة واحدة كما في مسجد “بيتا” ومسجد “تيمبو”، أو قد تبنى بأنواع متشابكة متداخلة من القش، حيث تشكل طبقات مستديرة متتابعة تصغر شيئًا فشيئًا حتى رأسها، كما الحال في مسجدي “لابة” و”الدانغراي”.
وتمتاز قرى منطقة “بيتا” بمساجدها ذات الباحات الواسعة والحدائق المشجرة. أما في “تيمبو” فلا تزال آثار المسجد الذي بني عام 1160هـ بادية بالرغم من الحرائق المتعددة التي تعرض لها. أما مسجد “الدانغراي” الجامع (مسجد الحاج عمر) الذي شُيِّد عام 1850، فقد هُدم مرتين عام 1862 وعام 1904، ثم أعيد بناؤه. يبلغ محيطه خمسين مترًا، وارتفاع سقف المصلى خمسة أمتار، وله عشرة أبواب. ويرتفع مركزه نحو ستة عشر مترًا، ويعتمد البناء على خمسة أعمدة ضخمة. ولا توجد نقوش أو زينة داخل المسجد أو على جدارنه. أما المئذنة “سيرو” فعبارة عن مرتفع صغير مبني بالآجر والطين، ويتراوح ارتفاعها ما بين متر وثلاثة أمتار.

خلاصة القول

على امتداد تاريخها ومساحتها الممتدة من السودان ومرورًا بدول المغرب العربي، ومالي، والنيجر، ووسطها، إلى أقصى جنوبها، نشأت حضارات إفريقية متعاقبة، دول وممالك، وحواضر وبوادي.. لها من التراث المعماري والحضاري حظ وافر ونصيب زاخر. إنها بساطة معمارية بادية، وتباين مميز، وتفرد مبهر وبخاصة المساجد الطينية روعة العمارة الإفريقية.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) كاتب وأكاديمي / مصر.