لا زلنا نبحث من بين المفكرين عمّن تشكّل لنا أفكاره مرآة نُبصر من خلالها أرواحَنا في عذاباتها وأوجاعها وأحزانها، ولهيب أشواقها، وحرقات حنينها لمنزلها الأول وموطنها الأعلى، وتُسمِعنا صرخات جوعها وعطشها، وأنين حرمانها من كل ما يعلو بها ويخصب مرابعها.

وهذه “الأفكار المرآة” هي التي تجذبنا نحوها وتشُدُّنا إليها، وتستحوذ على أذهاننا ومشاعرنا، لأننا نجد فيها أنفسنا عارية من كل لباس إلا لباس الحقيقة. وهذه “الأفكار المرآة” التي نرى فيها أرواحنا كأفراد، ونرى فيها روح الأمة وهي تكافح للخروخ من مقبرة الزمن العقيم، لتستأنف حياة روحية جديدة، ودورة حضارية ناهضة، نكاد لا نراها إلا في قلّة قليلة من المفكرين في هذا الزمن الحسّي الثقيل، ومن هؤلاء القلة المفكر “فتح الله كولن”. وكأن الأقدار كانت قد خبّأته في مطاوي الأيام، ثم بعثته في هذا الزمن، ليكون واحدًا من نصراء الروح في الأمة والإنسان.

و”كولن” نفسه مارس الحياة الروحية العالية، واتخذها منشطًا لقواه الفكرية والدينية، كما أنه ركز على الضبط الذاتي، ووحدة النفس والذهن، ورأى في الشتات الذهني والنفسي ضياعًا للروح.

و”كولن” لا يعطينا أفكارًا جاهزة نقف عندها ولا نتخطاها، بل هو ينهضنا لنفكر معه ونشاركه التفكير، وربما استطعنا أن نكتشف أفكارًا مرادفة -من خلال مشاركتنا له- صمت عنها ولم يبدها لنا لسبب من الأسباب، أو أنه قد وصل في استبحاره الروحي إلى نقطة لم تعد الكلمات تسعفه للتعبير عنها. وأفكار “كولن” لكونها حارّة ولاهبة فهي قابلة للحراك وقابلة للاتساع والامتداد إلى آفاق حياتية متشعبة الاتجاهات، مما يجعلها تمضي مع الحياة حيث ما مضت الحياة بها، وتمضي مع الإنسان أيًّا كان هذا الإنسان، مهندسًا أو طبيبًا أو عالمًا أو رياضيًّا أو أستاذًا أو فنَّانًا أو موسيقيًّا أو عاملاً أو رجل دين أو صوفيًّا… فهذه الأفكار لها من قوة الإشعاع ما يجعلها قادرة على بث الحيوية في الحالات الذهنية لكل أولئك الرجال الذين ذكرناهم آنفًا، إنها تحرك شهية أذهاننا كما تحرك رائحة الطعام شهيّةَ الجائعين.

فجوعنا للفهم الشامل والعميق، والإدراك السليم، من أكبر المحفزات لتنشيط العقل وتفعيل قوى الذهن. فيدفعنا ذلك إلى المزيد من سبر أغوار الروح، وقراءة ذاكرة الأمة وذاتها بمفاصلها المختلفة، والإيغال في تاريخها الروحي بكل معطياته. فالأمة من دون هذه الذاكرة الروحية تضيع وتضل وتغترب، حتى لتنكر نفسها، وتتوه عن ذاتها، فلا تفتأ تمارس الفهم بأدنى مستوياته فيكون عائقًا عن نهوضها وتقدمها. فالتوتر الذهني الدائم، والقلق الروحي المستمر، مؤشر جيد على أن هذه الأمة بدأت تتحسس وجودها، وتتلمس مكامن ذاتها. وهما أولى درجات قوة الفهم، وعمق الإدراك، وسعة الخيال. وهذا الخيال هو الذي يساعد العقل على الحصول على مدركات جديدة، تزيد في شحنه وقوة تفكيره كيما يواصل البحث عن الحقيقة في الجانب الأعظم والأرفع من الكيان الإنساني الذي تسكنه الروح. وهناك سيجد معناه الإلهي الذي يعطي للوجود معنى، وللحياة مغزى، فيغدو منافسًا من غير هدف مسبق للوقوف بالضد من الإلحاد العقلي، والجحود الاعتباطي، والتشكك العبثي. كما أن إيمانه هذا، يجعله أكثر وثوقًا بمدركاته العقلية، فيأتي كلامه في أرواح الآخرين كتيّار كهربائي يمس أخفى خفايا الروح، ويعمل على تنشيط خلاياها النائمة، وإيقاظ استشراقاتها الهاجعة… فما من أحد يجرؤ بعد ذلك على التشكيك في أمانته الفكرية، وفي صدق مقولاته الإيمانية. فكما نفزع ونروع إذا نظرنا في المرآة ولم نجد أثرًا لوجوهنا فيها، كذلك نفزع ونروع عندما نقرأ بعض الأفكار وهي لا تعكس لنا شيئًا من آثار خالق هذا العالم. وهذا الخوف والروع دليل إيمان صادق وحقيقي ينبعث من كل الكينونة الإنسانية لا من جزء منها، وكل الكينونة تتشربه وتعيش به، وتعيش لأجله.

إن إدراكنا للعالم حسيًّا وعقليًّا، ليس هو منتهى كل إدراك؛ فالعالم في نظر الروح ليس هو الأكوان التي تحاصر وجودنا الإلهي وتمنعه من الامتداد إلى خارجها، بل العالم كما تراه الروح وتريد أن تريناه، هو عالم فوق هذا العالم، وهو كون آخر أعظم سَعَة وأكثر امتدادًا، وأشفُّ جسمانية، وأضوأ أنوارًا… وهذه البصيرة الروحية الأعماقية والامتدادية، هي التي ينطلق منها رجال الروح، ليعكسوا صورها في مقولاتهم وكتاباتهم.

فكم يكون “رجل الروح” عظيمًا إذا هو وقف أمام الجموع صارخًا ومناديًا:

إليَّ أيها الإنسان، يا حصير الحسيَّات، يا سجين المحدودات، يا كليل الخيال، يا قاصر الإدراكات، يا أسير الهابطات، يا محجوب النظر، يا موقور السمع، يا غارقًا في التفاهات، وعائمًا في السطحيات! أما آن لك أن تقوم، والعاليات تروم، والقمم الشُّمَّ ترود، وروحك تلاحق، وخيالك تسابق، ورؤاك تسامي، وأشواقك تُسَامِت؟ أم أنت ليل بلا فجر، وظلام بلا ضوء، وهبوط بلا صعود، ونوم بلا قيام، وجسم بلا روح، وقلب بلا شوق؟

و”كولن” في معظم كتاباته، إنما يريد أن يشعل ثورة في روح الأمة لكي تنهض من جديد. وهذه الثورة هي أولى الخطوات في بناء حضارة إيمانية تقوم على أسس من “معرفة الله”، وإنه ليأمل من الأمة أن تحاول بكل جهدها الخروج من زمانها الفارغ المفجع، وتنهض لإدارة المحركات الروحية المتوقفة عن العمل منذ زمن. فالانهيارات التي اعترت حياة الأمة لعقود كثيرة، إنما هي انهيارات روحية قبل أن تكون انهيارات عقلية أو اجتماعية أو سياسية. إن الانسحاق الروحي الذي خلّفته فيه معاول الهدم من كل جانب، هو سبب الكوارث التي شهدتها الأمة وتشاهدها اليوم؛ فالمسلم الأنموذج الذي يسعى “كولن” إلى رسم ملامحه، ينبغي أن يتعلم كيف يعيش بذهنه وحدسه وخياله وجسمه وغرائزه في مملكة الروح، بحيث لا يبقى منه شيء يعيش خارج هذه المملكة.

 (*) كاتب وأديب / العراق.