ما أصعب الاستقامة في منطقة الوسط

في المجتمعات ذات الوعي المرتفع والفكر الراشد تسود قيَمُ النسبية، وتشيع أخلاقُ التواضع، وتندُر ادعاءاتُ امتلاك الحقيقة المطلقة، ويميل أغلب الناس إلى التوسّط، ويقفون مع أهل الاعتدال.

وبصورة عامة، فإن الوعي الجَمْعي وثقافة الائتلاف، يصنعان مجتمعات تتسم بالتسامح والتغافر، فتصبح شديدة التماسك، قوية التلاحم، لا يؤدي تعدُّد تياراتها ومكوِّناتها إلى تفرّقها، ولا يُفسد اختلافُها للوُدّ قضية، ولا يدفعها التنافس في برامج البناء والتطوير إلى الاختلاف في المناهج، ولا يُلقي بها تنوُّعها في المتغيرات إلى هاوية التنازع في الثوابت.

وفي أسوإ لحظات الاختلاف بين مكوِّنات المجتمعات المتطورة، ينقسم الناس وفق رُؤاهم من قضية ما، إلى ثلاثة تيارات أساسية، يقف تياران صغيران في الطرفين النقيضين، ويحتل التيار الأكبر مساحة الوسط العريضة حيث الاعتدال والنظرة الشمولية للحقائق، بسبب تعدد زوايا النظر واتساع آفاق الرؤية.

في هذه المجتمعات تتجسد بالفعل لا بالشعار، قاعدة “الاختلاف في الرأي لا يُفسد للوُدّ قضية”.

وفي بعض الظروف قد لا يتفق اليمين مع اليسار، وقد لا يقبل المحافظون التعاون مع الحداثيين، لكن كلا الطرفين يندفعان للتعاون مع التيار الوسطي العريض، بمعنى أن الوسطية محل ثقة وتقدير الجميع.

ذلك أن الوسطية تعبيرٌ عن القواسم والمصالح المشتركة بين سائر المختلفين، وتُمثِّل قاعدة للوعي الجمْعي الذي يصنع مداميك الوحدة، وتُوفِّر أساسًا متينًا للائتلاف الاجتماعي. ولذلك صارت الوسطية مثْوى العقلاء، وموْئِل الحكماء، وصارت مهْوى عقول غالبية الناس ومهْبط تحليقهم. وفرضت الوسطية على التيارات الطرفية التقارب والتآلف، لأنها إن لم تفعل سيتجاوزها السواد الأعظم من الناس.

أما في مجتمعاتنا المتخلّفة، فما أصْعبَ الوقوف في الوسط، حيث البقاء على مسافة واحدة من الجميع، وما أتْعبَ الاستقامة على متطلبات الموضوعية والإنصاف.

ذلك أن احتكار الجميع للحق، وادعاء الكُلّ امتلاك الحقيقة المطلقة، ونظرهم إلى أهل الوسطية من سَمّ الخِياط، يُسلِّط عليهم ضغوطًا قوية تصير مع تتابع القضايا والمواقف رياحًا عاتية، تحاول اقتلاع المعتدلين من جذورهم الوسطية، حيث إن أهل الوسط أقرب للجميع، ولسان حال الجامدين والجاحدين يقول: “الأقربون أولى بالإيذاء”!

ما أصعب العيش الآمن في بلداننا على أهل الوسطية والاعتدال، حيث يستهدفُهم دعاةُ الأصالة المزعومة وأدعياءُ المعاصرة الموهومة، يتهمهم الحداثيون بالجمود ويرميهم التراثيون بالجحود، يتهمهم التغريبيون بالتخلّف ويقذفهم التقليديون بالتّغرُّب، يحاربهم العقلانيون تحت بيارق المعاصرة ويشُنّ النّصِّيون عليهم الغارة تحت رايات الأصالة!

ما أفْدَحَ ضريبةُ الوسطية والاعتدال في مجتمعاتنا العنكبوتية التي تتنازع تياراتُها الحقيقة حتى جعَلَتْها عِضين، وتتجاذب مُكوِّناتُها ثوْب الحق حتى مزّقتْه!

فها هنا يختلف المتطرفون على كل شيء إلا على معاداتهم لأهل الوسطية، وتتنافر بوصلاتُهم في التوجهات لكنها تتظافر إذا توجّهوا نحْو ضرْب الوسطيين، وتتآكل طاقاتهم في كل واد لكنها تتعاون ولا تتعادى إذا وصلوا إلى وادي الوسطية.

هذا الكلام ينطبق بالطبع على الكيانات والكائنات الوسطية على حد سواء، وتَلَفّتوا حولكم لتروا كَمْ هي التيارات الوسطية مُنهَكة ومُثْخَنَة؛ إذ تطعنها رماحُ الجامدين وتقذفها صواريخ الجاحدين، كأنها تُكفّر عن أخطاء الجميع، وتدفع ضرائب الكل، ولا تزال مستهدفة إذا تحالف المتطرفون أو تحارب المتباينون.

ورغم هذا الواقع الشديد المرارة، فإنني واثق أن حرارة المحن وسخونة الأحداث، كفيلةٌ -إن شاء الله تعالى- بالغرْبلة والفرْز، وقمينةٌ بإنضاج الكثير من العقول، والدفع بالمزيد من أهل الكفاية والكفاءة نحْو ثغور الوسطية.

سيؤدي توسيع دوائر الوعي ومراكمة آكام الخبرات، إلى هجرة أفواج من المتطرفين نحو الاعتدال، لتكتمل الكتلة الحرجة التي يحتاجها الإقلاع الحضاري المنشود، فيصبح البقاء صعبًا في طرفي التطرف، وسيجد أغلب الناس ضالتهم في الوسط، ملتقين على (كَلِمَةٍ سَوَاءٍ)، الكلمة التي تَنْسج حروفَها ثقافةُ الوسطية وفكر الاعتدال.

(*) أستاذ الفكر الإسلامي السياسي، جامعة تعز / اليمن.