مالك بن نبي، من سمات التخلف إلى بذور الحضارة

تعرفتُ على مالك بن نبي في يوم من أيام الله ولما أتجاوز التاسعة عشرة من العمر، كنت طالبًا في ثانوية “مفدي زكرياء” أوائل الثمانينيات من القرن المنصرم، وكان لأستاذ اللغة العربية “ابن ساحة” الفضلُ في ذلك. ولعلّي سمعتُ اسم “مالك بن نبي” وتعجبتُ من هذه الصيغة في إحدى دروس اللغة العربية التي كان أستاذي يديرها بنجاح وإبداع منقطع النظير.

التشبُّه بالكرام فلاح

أول كتاب قرأته هو “مذكرات شاهد للقرن” باللغة العربية، مرحلة “الطفل” ثم “الطالب”، ولهذا الاختيار دافع معقول هو أنني -وأنا الدارس في شعبة الرياضيات- وددت الدخول في شعبة أدبية فكرية اجتماعية، ولم يكن المحيط يحبّذ مثل هذا “النزول” من مستوى هو الأعلى، إلى مستوى -في عين الجميع- هو الأدنى، غير أني وجدتُ في مالك بن نبي الأنموذج والمثال، فهو المهندس الذي تحوَّل من “المعادلات الرياضية” و”الرسوم الصناعية” إلى “النظريات الحضارية” و”المعالجات الفكرية”. فصادف -بهذا- هوىً في نفسي وأمدَّني بالراحة والطمأنينة، وكنت دومًا أفتخر بهذا التشابه وإن لم يكن عميقًا، إلا أن التشبُّه بالكرام فلاح.
ثم بعد توقفي عن الدراسة في جامعة باب الزوار سنة 1988م، والتحاقي بالمعهد العالي لأصول الدين في الجامعة المركزية، شاء الله أن تُفتح نافذة الحرية على كتب مالك بن نبي مع الانفتاح السياسي، وأن تدخل عناوينه إلى السوق الجزائرية باللغة العربية، فاشتريتها من مكتبة “العالم الثالث” بشارع العربي بن مهيدي بأثمان تبدو اليوم بخسة (من 30 إلى 60 دينارًا جزائريًّا للعنوان الواحد).
فالتزمتُ مطالعتها كاملة، ووجدت فيها الملاذ والمأوى لعالم الأفكار الذي غاب كلية عن ساحة المعهد، وحل محله الطرح التراثي الكلامي المذهبي المسطح. فكانت جامعتي هي “مالك بن نبي” لا “المعهد العالي”، إلى جوار بعض الأسماء المعتبرة مثل: محمد إقبال وأبو الأعلى المودودي ووحيد الدين خان… إضافة إلى أساتذتي -الآخذين بيدي- الدكاترة: محمد ناصر ومحمد الزيني وأحمد موساوي.
وفي بدايات التسعينيات عرض عليَّ ناشر لبناني قائمةَ إصدارات دار الفكر، وهو صاحب دار الملكية بالجزائر، وطلب مني وضع علامة على العناوين التي يترجح رواجها في الجزائر، فلم أفكر طويلاً حتى وضعت العلامة على جميع مؤلفات مالك بن نبي، وما هي إلا أشهر حتى غطى اسم مالك بن نبي أرفف المكتبات في الجزائر التي طالما طاردته وأبعدته وتنكرت له.
وكنت بين الحين والحين أعود إلى ابن نبي لفهم ظاهرة أو لتفسير أزمة أو لمراجعة فكرة… وبخاصة مع تصاعد الفتن في الجزائر، وضياع الأمل في “جزائر عزيزة متمكنة قوية”، وتعدد مستويات الأزمات وتنوعها محليًّا ووطنيًّا ودوليًّا.
غير أن العجيب حقًّا في هذه الأيام وقد عقدت العزم على إعادة مطالعة جميع العناوين التي بين يدي مما ألَّف ابن نبي، العجيب حقًّا أنني اكتشفتُ في أرفف معهد المناهج مذكرات شاهد للقرن باللغة الفرنسية، نشر “سمر للنشر والتوزيع” سنة 2006م، وما إن قارنتها بالنسخة العربية حتى عرفت أن ما تُرجم إلى العربية هو أقل من نصف المذكرات، وهو ينتهي إلى سنة 1939م، أما من هذا التاريخ إلى سنة وفاته 1973م، فقد أودع في جزأين آخرين بعد “الطفل” و”الطالب”، وهما “الكاتب” و”الدفاتر”، وقد سمى جزءًا من “الكاتب” باسمٍ كنتُ قد عرفته من قبل، ولم يشأ الله أن أقرأه وهو “العفن” (Pourritures).
ومع سفري إلى “قسنطينة” وهي المدينة التي عرفت الكثير من أحداث حياة الرجل، وهي تعرفه ويعرفها جيدًا فهي القريبة من مسقط رأسه “تبسة”، حملتُ معي الكتاب لعلّي أطالعه في الطريق أو قبيل النوم، وكان في حقيبتي -أو بالأحرى في جهاز الكمبيوتر المحمول- مشروع “تفعيل المرجعية الإباضية الميزابية”.
بعد اشتغالي في المشروع وكتابة بعض فصوله متأثرًا بكتاب “فكرة الأفرو-آسيوية”، تحوّلت مذكرات ابن نبي إلى محور البرنامج اليومي. وقد هالني ما اكتشفت من معاناة الرجل مما لم أكن أعرفه من قبل حتى صرت اليوم متيقنًا أن مالك بن نبي لم يكن يؤلف مقالاته، بل كان يعيشها بصبره كلمة كلمة وينحتها من محنه وإحنه فكرة فكرة. فيصدق -اليوم- أن يقال فيه “الرجل هو الفكر، والفكر هو الرجل”.

من معاناة مالك بن نبي

فمالك بن نبي -من خلال مذكراته- قد سُجن وعُذّب وحُوصر وأُفقرت أسرته (أبوه وأخته وكل محيطه) وسُجنت زوجته مرات، وعرف “الهجرة” كما سماها وهي محاولة الهروب إلى الخارج بالأرجل، وعانى الأمرَّين في سبيل نشر أعماله، وفكَّر مرارًا في الانتحار، وكان معوزًا مُنعت عنه كل أسباب التوظيف، وعرف بعض المناصب الشاقة التي تستدعي الجهد العضلي وهو المتعب المريض.
ولكن الذي أفرغ جعبته من الصبر وجعله يدعو الله أن يعجّل الموت له، هو الهجران والحصار الذي فرضه عليه أبناء المستعمرات من العرب والمسلمين بفعل “القابلية للاستعمار”، سواء بالتواطؤ مع المستعمِر أو عن جهل وغفلة أو لأمور أخرى لم يستطع تحديدها.
ولقد عانى الأمرَّين مع الحركات الوطنية بكل أطيافها، وعرف في “الزعامات” كلَّ معاني الخسة والرذيلة، وتيقن أن أغلبهم طلاب سلطة، وجلَّهم أخطبوط يبتز الشعب ويغتال الأمل لمآربه الخاصة. وقلَّ منهم من مات مؤمنًا بمواقفه، منافحًا عن دينه ووطنه. وهؤلاء -عمومًا- كانوا تحت وطأة الأيادي الخفية والظاهرة للاستعمار، بالتنسيق مع القلوب الضعيفة والمنافقة لأبناء المستعمرات.
ويكفي أن ندرك أن الرجل -وهو مَن هو- قد عرف الجوع وشارف على الهلاك مرات، وقد اقتسم مع الطلبة الجامعيين غرفتهم وهو في الخمسينيات من عمره بالقاهرة، وقد أُرغم على ترك عائلته سنوات وهو لا يعرف عنها شيئًا، ويدعو الله أن يكون قد رزقها الموت “لأنه أرحم عليهم من الحياة”.

إطلالة على مذكرات ابن نبي

وقد شرع الرجل في تأليف “الظاهرة القرآنية” تحت قصف قنابل الألمان في الحرب العالمية الثانية، وكتب معظم مؤلفاته دون اعتماد المكتبات والمصادر، لأنـه حُرم منها عن قصد من قِبَل الداخل والخارج.
وهو الذي كتب بتاريخ 22 مايو 1958م: “منذ خمسة أيام وأنا أحس الفراغ تحت قدميَّ، والضباب أمام ناظريَّ، والأسف داخل أحشائي..” إلى أن يقول: “كل مطلع شمس في مثل هذه الفترة العصيبة عليَّ، أستيقظ من النوم لأقول: هل هو يوم آخر؟! لا أعرف أحيانًا ما هي شخصيتي الحقيقية، فأنا نقطة تصارع بين جميع المتناقضات التي يمكنها أن توجد في إنسان على ظهر الأرض”.
ويكتب في تاريخ آخر من دفاتره ومذكراته: “مرة تلو أخرى لا أجد السلام لي في هذا العالم، إنها الخيبة والشك في كل شيء… إذا لم تتداركني رحمة الإله فأنا ضائع جسمًا وروحًا، مثل زورق في محيط تلهو به الأعاصير العاتية، متى تعرف طريقي نهايتَها إلى الجهة الأخرى من الحياة؟ يا رب، امنحني بعض الأمتار، بعض السنتيمترات، أقصّر بها طريقي الشقية، فأنا متعب”.

تحويل العلم إلى عمل

أنا لست هنا مهتمًّا بعرض هذه المذكرات ولا مولعًا بالغرابة والترف الفكري، ولست بحاجة لأريكم حجم المعلومات، فالكتاب الأصلي كفيل بإعطاء الصورة الحقيقية لما أقول، إنما وددتُ أن أُسقط ما قرأت على واقعنا اليوم، بعد مضي ما يقارب أربعين عامًا على وفاة الرجل.
أردتُ أن أقارن بين ذاتي بكل حماقاتها وضعفها، وهذه الذات التي خرقت حُجب الكون واستقرت في علّيين، صابرة محتسبة رغم كل المعاناة التي لا تتحملها الجبال الشامخة ولا الأكوان الشاهقة.
فالرخاء الذي يحيط حياتنا هو -ولا شك- نعمة من الخالق المنّان. لكن -للأسف- إنه يترك قلمنا باردًا مهزومًا، يذره بعيدًا عن واقع الحياة -كما هي- هو أقرب إلى ترديد الصدى ومضغ الحجر منه إلى تغيير النفوس وإحداث الانقلابات الفكرية في دنيا الناس.
ما العمل وأنا حائر في منعرج فكري لمَّا أجد له الجواب الكافي؟ ما العمل وإشكالية تحويل العلم إلى عمل والفكرةِ إلى فعل، تقضُّ مضجعي وتذيقني العلقم آناء الليل وأطراف النهار؟ ما العمل وفي تقديري أن الأمة الإسلامية لا تزال تدور في دائرة مفرغة من المشاكل والمعيقات والأزمات الذاتية والنفسية والداخلية… تحركها الأيدي الاستعمارية السياسية الخارجية؟
وأعيد السؤال على نفسي آلاف المرات: ما هو خطي الفكري؟ ما هي رسالتي؟ ما هو منهجي؟ وما هي أفعالي؟ وما قيمة علمي؟ وما نسبة فعلي إلى فكري؟
أعيش الفراغ الكوني والأسئلة المحيّرة ولا أجد لها جوابًا وقد تعالت أصوات الادعاء، وكثر اللغط، واستَشْرَت الخطابةُ، وتعلق الناس -إلا من رحم ربي- بالألفاظ والكلمات والأشكال والمظاهر، فأعرضوا عن المحتويات وعن حقائق الأمور والصدق والجهاد.
وتزداد هذه الحال استحكامًا كلما تكالبت السياسة على الأخلاق، وكلما نهشت ذئاب الخيانة أرواح المغفلين، وكلما سادت القردة والزعانف والرعاع.
تزداد كلما صفَّق الجمهور للمسرحية، وتأخر زمن النصر الحقّ، وخاب الأمل في نهاية النفق، وتيقن اللبيب بطول الليل وبشدة البرد على عالمنا الإسلامي الحائر.

غربة المفكرين وآلام التفكير

وقد ظننت أني أعيش هذه الغُربة وحدي، لكنني يوم كتبت “آلام التفكير” -في موقع فييكوس- بدا وكأن العديد من العقلاء يتجرَّعون علقم هذه الفتنة، ولا يملكون الوسائل التي بها يعبرون، ولا اللغة التي بها يكتبون، ولا الفكر الذي به يحللون… فهم أحياء داخل جسم ميت، ومنتبهون بين شعب مرتاح إلى نوم مميت.
فكيف نجمع شتات هؤلاء في صفّ واحد؟ وكيف نصنع من الأطراف المترامية هيكلاً متينًا؟ ومن لها؟ ومتى؟ وبأي منهج وفكر؟
جُرّبت الثورات فلم تفلح، ذلك أنها زرعت الدم والقتل والإبادة، عوضَ الحياة والأمل والعمل.
جُرّبت الكتب والمقالات، غير أنها خاطبت بعض الناس ونبّهت بعض الأفئدة، ولم تلج إلى قرارة النفوس لتغيرها ولا إلى أغوار العقول لتصقلها.
جُرّبت المدارس والمعاهد، فأثمرت رجالاً ليسوا الأسوأ في الميدان، ولكنهم يقينًا لم يكونوا الأحسن والأجدر بصنع واقع مختلف تمامًا عن أي مرحلة تاريخية أخرى عرفها العالم الإسلامي.
جُرّبت الحركات والجماعات، فجرَّدت أتباعها من الإحساس الحضاري العام، وبدّلتهم بإحساس ذاتي مفرد ينظر إلى العالم من كُوّة مغلقة فيفسِّر الكون كله من زاويته الضيقة ويختزل الحقيقة فيما بلغه عن “زعيمه” أو “مرشده”، وهو قابع في الدهاليز وداخل البنايات، بعيدًا عن سعة الكون والحياة.

الفرد يحمل بذرة المجموع

ماذا بقي لنا أن نجرب إذن؟ هل من الحكمة أن نتوقف هنيهة ونفكِّر مليًّا، ونعيد قراءة الواقع ببصيرة، ونجتهد في قراءة الأدلة والنصوص بوعي ودراية، ثم نقترح الدواء اللائق والشفاء الرائق؟
أولم يفعل ذلك بعض العلماء -منهم مالك بن نبي- فلم يفلحوا ولم يغيّروا هذا الواقع التغيير المنشود؟
أقول -والله أعلم- الخرق أوسع من أن تخيطه إبرة واحدة، والجرح أعقد من أن يشفيه دواء واحد، والأرض أظمأ من أن تسقيها قطرة واحدة، والفؤاد أفرغ من أن يعمره أمل واحد، والفكر أجدب من أن تحييه فكرة واحدة.
ولنجرِّب جمع الطاقات جميعها على صعيد واحد، لكن شريطة أن يكون في خلية كل طاقة ما يدفعها للاجتماع والتكتل، تمامًا مثل الفطرة التي تحملها الطيور وهي تحلق في أسراب تُحسب بالألوف والملايين في نظام متسق ومتناغم، ذلك أن الفرد يحمل بذرة المجموع، وأن المجموع يتكون من قوة الأفراد.
وحتى يتمكن أي طرف من الالتحاق بالمجموع، يجب عليه أن يتخلى عن فكرة “أنا ولا أحد”، وفكرة “الصواب المطلق معي والخطأ المطلق مع غيري”، وفكرة “بي يصلح الوجود وبغيري يخرب”… ففن الاجتماع قد يكون أحيانًا كسبيًّا، ولكنه في كثير من الأحيان يكون فطريًّا يُنْبئ عن معدن الفرد مصداقًا لقول المصطفى صلى الله عليه وسلم”: الناس معادن، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فَقِهُوا” (متفق عليه).
فلتكن –أخي- من المعدن الصالح الذي يزرع بذور الحضارة بعد أن يستأصل سمات التخلف، غير مكترث ولا آبهٍ بما يُقال عنه أو بما يقال فيه. فالله سبحانه وتعالى وحده هو الكفيل أن يبارك خطواته، وهو الذي لا يضيع أجر من أحسن عملاً، وهو القائل: ﴿وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾(التوبة:105).